الأسرار البلاغية في تقديم المسند
إليه:
1- كون التقديم هو الأصل
ولا مقتضى للعدول عنه:
وإنما كان الأصل في
المسند إليه التقديم؛ لأن مدلوله الذات المحكوم عليها، والمسند هو الوصف المحكوم
به، فهو مطلوب لأجل المسند إليه، ف تعقل الذات المحكوم عليها سابقٌ على تعقل الوصف
المحكوم به ضرورةً؛ لأن الوصف إنما جاء لأجل الحكم به على الذات، وهذا وإن كان
اعتبارًا نحويًّا لا ينافي أن يكون غرضًا بلاغيًّا إذا لم يعارض بغرض من أغراض
التأخير مثل قولنا مثلًا: محمد حضر، ف قد قدم المسند إليه؛ لأن الأصل فيه هو
التقديم؛ إذ هو المحكوم عليه بالحضور، فينبغي ذكرُه أولًا.
وإنما شرطوا في الجملة
الاسمية عدم وجود نكتة أخرى تتطلب التأخير؛ لأن الأصالة وحدها نكتة ضعيفة لا تنهضه
سببًا مرجحًا للتقديم مع وجود داعي التأخير، بحيث لو وجد لترجح التأخير على
التقديم كما في الفاعل مثلًا، فإن الأصل فيه أن يقدم؛ لأنه الذات المحكوم عليها،
غير أن الأصالة عارضها نكتة أخرى تقتضي تأخيرُه؛ وهي أن الفعل عامل في الفاعل
الرفع، ومرتبة العامل التقدم على المعمول ورجح جانبه عليه أو لأن العامل علة في
المعمول والعلة مقدمة على المعلول.
ويُقدَّم المسند إليه
أيضًا بقصد إرادة تمكن الخبر في ذهن السامع؛ وذلك حيث يكون في المسند إليه ما يشوق
إلى الخبر بأن يكون موصولًا أو موصوفًا بما يوجب الدهشة والاستغراب، ويجعل النفس
متطلعة إلى سماع الخبر حتى إذا سمعته تمكن منها أي تمكن؛ كما في قول أبي العلاء
المعري:
والذي حارت البرية فيه ...
حيوان مستحدث من جماد
وقدم المسند إليه وهو
الذي؛ لأن فيه تشويقًا إلى الخبر؛ إذ قد اتصل به ما يدعو إلى الدهشة وهو قوله:
حارت البرية فيه، ومثل هذا الأمر الغريب يثير في النفس عواملَ الشوق إلى معرفة ذلك
الذي أوقف البرية كلها موقفَ الحائر المدهوش، فإذا ذكر تمكن منها فضلَ تمكن ٍ،
ورسخ رسوخًا لا يرقى إليه شك، ومنه قول الشاعر:
ثلاثة تشرق الدنيا
ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
فقد قدم المسند إليه وهو
ثلاثة؛ لأن فيه ما يشوق النفس إلى الخبر لاتصافه بما يدعو إلى الاستغراب والعجب؛
وهو قوله: تشرق الدنيا ببهجتها؛ فإن إشراق الدنيا كلها مما يدفع النفس إلى أن تعرف
ذلك الذي جعلها تتألق وتضيء، فإذا عرفت ذلك تمكن منها واستقر، وهكذا يقدم المتكلم
المسند إليه إذا أراد تمكن الخبر في ذهن السامع، بشرط أن يكون في المقدم ما يشوق
إلى معرفة المؤخر، كما يقدم المتكلم المسند إليه لإرادة المبادرة بإدخال السرور
على قلب السامع؛ ليتفاءل من حصول الخبر أو لإرادة المسارعة بإدخال ما يسوء على
قلبه ليتطير بحصول الشر؛ لأن السامع كما جرت العادة يتفاءل أو يتشاءم غالبًا بأول
ما يقرع سمعه من الكلام، وهذا فيما إذا كان لفظ المسند إليه مشعرًا بما يُتفاءل به
أو بما يتشاءم منه.
2- إشعار السامع أن المسند
إليه لا يغيب عن خاطره:
أي: إرادة المتكلم أن
يشعر السامع بأن المسند إليه حاضر في قلبه لا يغيب عنه إما لشدة الحاجة إليه؛ كقول
المتكلم الجائع مثلًا: الرغيف يكسر حدة الجوع، وإما لأن المتكلم يستلذه مثل: ليلى
رأيتُها، وإما لأنه يُتبرك به مثل: الله آمنت به ربًّا أو محمد آمنت به نبيًّا
ورسولًا.
3- التعجيل بتعظيمه أو
تحقيره:
وذلك إذا كان اللفظ
مشعرًا بما يدل عليهما، مثل: أبو الفضل عندنا وأبو الجهل رحل عنا، ومثل: ال رجل ال
فاضل مر بنا وفتى سفيه سألني. وهكذا.
4- إفادة تخصيص المسند إليه
بالمسند: وهذا أهم ما في الباب.
5- إفادة تقوي الحكم: وذلك إذا كان المسند
فعلًا رافعًا لضمير المسند إليه المقدم.
***
المذاهب في إفادة تقديم
المسند إليه:
في إفادة تقديم المسند
إليه هذا الغرض التخصيص أو التقويّ مذهبان:
أولًا: مذهب الإمام عبد
القاهر:
يذهب الإمام عبد القاهر
الجرجاني ويتبعه في ذلك جمهور البلاغيين إلى أن المسند إليه إذا تقدَّم على خبره
الفعلي مسبوقًا بنفي، أفاد التخصيص حتمًا، لا فرق في ذلك بين أن يكون المسند إليه
اسمًا ظاهرًا مثل: ما زيد فعل هذا، أو ضميرًا مثل: ما أنا فعلت هذا، أو أن يكون
نكرة مثل: ما رجل فعل هذا.
ومعنى التخصيص انتفاء
الفعل عن المسند إليه المتقدم وإثباته لغيره؛ هذا إذا كان معرفة، أما إذا كان
المسند إليه نكرة فالتخصيص فيها معناه انتفاء الفعل عن الجنس أو عن فرد واحد منه
وثبوته لغير الجنس أو لغير الفرد الواحد منه، ولنطبق هذا على ما سبق من أمثلة.
أنت عندما تقول: ما زيد
فعَلَ هذا كما في المثال الأول، فإنه يعني انتفاء الفعل عن زيد خاصة وثبوته لغيره،
فقوله ردًّا على من زعم انفراد المسند إليه وهو زيد بالفعل دون غيره، فيكون قصر
قلب، أو ردًّا على من زعم اشتراك ذلك الغير مع المسند إليه بالفعل فيكون قصر
إفراد، والمراد بالغير شخص معين هو موضوع النزاع؛ لأن التخصيص إنما هو بالنسبة إلى
مَن توهم المخاطب انفراد المسند إليه بالحكم دونه، أو ردًّا على مَن توهم اشتراكه
مع المسند إليه فيه، فهو قصر إضافي بالنسبة إلى معين لا بالنسبة لجميع الناس ويسمى
ذلك قصر تعيين.
ومعنى التخصيص في المثال
الثاني: ما أنا فعلت هذا، انتفاء الفعل عن المتكلم خاصةً وثبوته لغيره، تقول: هذا
المثال الذي ذكرناه ردًّا على من زعم انفرادك بالفعل دون غيرك فيكون قصر قلب، أو
على مَن زعم اشتراك الغير معك في هذا الفعل فيكون قصر إفراد، ومعنى التخصيص في
المثال الثاني: ما رجل فعل هذا، انتفاء الفعل عن جنس الرجل وثبوته لغير هذا الجنس،
أو عن العدد عن فرد واحد منه وثبوته لغيره، فالأول ترد به على من زعم أن الذي فعل
الفعل رجل لا امرأة، فتقول: ما رجل فعل هذا، فيفهم أن الذي فعل امرأة، وهذا تخصيص
للجنس، وفي الثاني ترد به على مَن زعم أن الذي فعل الفعل رجل واحد لا رجلان ولا
أكثر، فتقول له: ما رجل فعل هذا، فيفهم أن الذي فعل رجلان أو أكثر، وهذا تخصيص
للوحدة.
وخلاصة مذهب عبد القاهر
يدور -كما ترى- في الغالب حول أداة النفي؛ فإن كانت سابقة على المسند إليه أيًّا
كان نوعه أفاد الكلام التخصيص قطعًا، وإن لم تسبقه أداة نفي بأن تأخرت عنه أو لم
توجد في الكلام أصلًا فننظر إلى المسند إليه؛ إن كان معرفة ظاهرًا أو ضميرًا احتمل
الكلام التخصيص والتقوي، فتارةً يفيد التخصيص، وتارةً يفيد التقوي، وتارةً يفيد
التقوية فقط، حسبما يقتضي المقام، وإن كان المسند إليه نكرة أفاد تقديمها التخصيص
قطعًا، وبهذا تدرك أن تقديم المسند إليه النكرة على الفعل مفيد للتخصيص دائمًا بغض
النظر عن النفي تقدم أو تأخر، أو لم توجد بأن كان الكلام على الإثبات، وفي هذا
الحكم للنكرة يتفق السكاكي مع عبد القاهر -كما سنعلم ذلك إن شاء الله من مذهبه-.
هذا هو مذهب عبد القاهر
الجرجاني. غير أن هناك أساليبَ قد وردت متحققًا فيها شرطه لإفادة التخصيص ومع ذلك
لم تفد مثل قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ
عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ
تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ
يُنْظَرُونَ} [الأنبياء: 39، 40] فقوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}، {وَلَا هُمْ
يُنْظَرُونَ} قدم فيه المسند إليه على الخبر الفعلي، وهو مسبوق بحرف النفي، ومع
هذا أفاد التقوية فقط؛ لأن التخصيص يقتضي أن غيرهم يُنصر من عذاب الله وينظر حتى
تأتيه الساعة وذلك لا يكون.
ويمكن أن يجاب عن مثل هذا
بحمل ما قرره عبد القاهر على الكثير الغالب وإن لم يقصده هو؛ لأن القواعد في جلها
أو كلها أغلبية حتى لا نكاد نجد قاعدةً عامةً لم تنخرم.
مذهب الإمام السكاكي:
اتفق السكاكي مع عبد
القاهر في أن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي يفيد التخصيص، إلا أن له مذهب
يخالف مذهب عبد القاهر، لا يعول فيه على نفي تقدم أو تأخر، وجد أو لم يوجد، وإنما
المدار في إفادة التخصيص مشروطة عنده بشرطين:
الأول: أنه يجوز تقدير
كون المسند إليه في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل معنى فقط لا لفظًا ومعنًى؛ ذلك أنه
عند التأخير يعرب توكيدًا للفاعل الاصطلاحي؛ أو بدلًا منه، نحو: أنا قمت، فإنه
يجوز أن يكون أصله: قمت أنا، فيكون أنا توكيدًا أو بدلًا من الضمير في قمت الذي هو
الفاعل، والتوكيد والبدل كلاهما فاعل في المعنى إذا كان المبدل فاعلًا اصطلاحيًّا
كما هنا.
الشرط الثاني: أن يقدر
كونه كذلك؛ أي: أن يعتبر المتكلم المسند إليه مؤخرًا على أنه فاعل في المعنى قبل
النطق به، ثم يقدمه عند التلفظ قاصدًا التخصيص، وعند انتفاء الشرط الأول بأن كان
المسند إليه اسمًا ظاهرًا كقولنا: محمد قام لا يفيد التقديم إلا تقوية الحكم؛
لأننا لو قدرنا أن لفظ محمد مؤخر في الأصل، وأن الكلام قام محمد لكان فاعلًا في
اللفظ والمعنى لا في المعنى فقط كما يريد السكاكي، والأمر كذلك حين ينتفي الشرط
الثاني بأن قدر الكلام في مثل: أنا قمت، على الابتداء من أول الأمر بدون تقدير
تقديم أو تأخير؛ فإن التقديم حينئذٍ لا يفيد إلا التقوي، ومثل ذلك: ما أنا قمت وما
زيد قام، وقياسًا على الاسم المعرفة المظهر بحيث انتفاء الشرط الأول فيه يكون حال
المسند إليه النكرة في نحو: رجل جاءني، أنه لا يفيد التخصيص؛ إذ لا يجوز تقدير
كونه في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل في المعنى؛ لأنك إذا قلت: جاءني رجل، فهو فاعل
لفظًا ومعنًى مثل: قام محمد، فيجب ألا يفيد إلا التقوي.
لكن السكاكي استثنى مثل
هذا التركيب فجعله مفيدًا للتخصيص قطعًا، واعتبر وجود شرطي التخصيص فيه وقدر
جوازًا أن أصل: رجل جاءني، جاءني رجل، على أن يكون رجل بدلًا من الضمير المستتر في
الفعل؛ ليكون فاعلًا في المعنى على هذا التقدير، ثم قدر تقديمه لإفادة التخصيص، أو
يلزم على هذا الغرض عَوْد الضمير على متأخر لفظًا ورتبةً؛ لأن هذا مغتفر في البدل
كقولهم: ظرف خالدًا، ولا غرابةَ فيما ذهب إليه السكاكي من هذا الإعراب؛ فقد نَحَا
بعض العلماء هذا النحو في قول الله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُو} [الأنبياء: 3] وأعربوا: {الَّذِينَ ظَلَمُو} بدلًا من واو الجماعة، وقد
ارتكب السكاكي هذا الوجه البعيد من الإعراب فيما يكون فيه المسند إليه نكرة لا
مسوغ لها؛ ليتوسل به إلى ذلك المسوغ، وهو التخصيص، ولولا ارتكابه لهذا الوجه؛ ل
انتفى التخصيص وبقيت الكرة بلا مسوغ، وهو مضطر إلى اعتبار التخصيص في النكرة لأجل
صحة الابتداء به، ولا يتأتى ذلك إلا من هذا الطريق، وهو تقدير كون المسند إليه
مؤخرًا في الأصل على أنه فاعل معنًى فقط؛ ولذلك لم يلجأ إلى هذا التخريج البعيد في
المعرف؛ ل صحة وقوعه مبتدأً بلا حاجة إلى مسوغ، فلا شيوع فيه حتى يحتاج إلى تخصيص.
خلاصة مذهب السكاكي:
بتطبيق ما اشترطه لإفادة تقديم المسند إليه على خبر الفعل ل لتخصيص، وما استثناه
من هذا الشرط يتبين لنا أن المسند إليه إذا كان نكرة لا مسوغَ للابتداء بها تعين
الكلام للتخصيص، وإذا كان معرفةً اسمًا ظاهرًا تعين الكلام للتقوي، وإن كان المسند
إليه ضميرًا كان الكلام محتملًا للتخصيص والتقوي، ولا فرقَ في ذلك كله بين أن يكون
الكلام مثبتًا أو منفيًا تقدم النفي على المسند إليه أو تأخر.
هذا ملخص مذهب السكاكي
الذي يفترض فيمن يريد الكلام بنحو هذا الأسلوب أن يقف قبل النطق مستحضِرًا ما يريد
صياغته مقدرًا ما يريد أن ينطق به مقدمًا، وهذه افتراضات مستبعدة؛ لأن أحوال الصياغة
وما فيها من دقائق عجيبة وخفية ما هي إلا استجابات تلقائية لخواطر المتكلم
ومقاصده، فصنيع السكاكي بما اشترطه يتنافَى مع فكرة اللغة العربية ويثري أدائها
لمعانيها.
***
مقالات مرتبطة
***