حذف المسند أو المسند إليه



قد يأتي الكلام على الحذف، ثم تراه يحتمل أن يكون المحذوف هو المسند أو المسند إليه كما سيأتي:

الحذف في قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]:

قال الله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ففي هذه الآية الكريمة يحتمل أن يكون المحذوف المسند إليه، وتقديره: فصبري صبر جميل أو فشأني وأمري صبر جميل. ويحتمل أن يكون المحذوف المسند، وتقديره: فصبر جميل أولَى بي، أو فصبر جميل أجمل. والصبر الجميل: هو الذي لا شكوى معه. وغير الجميل ما كان معه شكاية، ولكنه خير من عدمه. فيصح تفضيل الصبر الجميل عليه.

والأرجح، أن يكون المحذوف هو المسند إليه؛ إذ الآية الكريمة مسوقة لمدح يعقوب -عليه السلام- وحين يكون المحذوف والمسند إليه يكون الكلام دالًّا على حصول الصبر له. إذ التقدير: فأمري أو فصبري صبر جميل. أو على جعل المحذوف هو المسند، فليس في الكلام ما يدل دلالةً مباشرةً على حصول الصبر ليعقوب -عليه السلام- إذ تقديره: فصبر جميل بي أو فصبر جميل أجمل.

الحذف في قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1]:

ومن ذلك قول الله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] ويحتمل أن يكون المراد: هذه سورة أنزلناها. فيكون المحذوف هو المسند إليه، ويحتمل أن يكون: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. فيكون المحذوف هو المسند.

الحذف في قوله تعالى: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53]:

وقوله -جل وعلا-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53]. هذه الآية نزلت في شأن المنافقين الذين ذهبوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرهم أن يخرجوا من أموالهم لخرجوا. فنزلت هذه الآية الكريمة: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ}. وهي تحتمل حذف المسند إليه، فيكون المعنى: أمركم أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو طاعتكم طاعة معروفة، أي: بأنها بالقول دون الفعل. وتحتمل حذف المسند، فيكون المعنى: طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.

وما من ريب في أن الكلام إذا احتمل حذف المسند أو المسند إليه يكون أوفر معنًى، وأغزر دلالةً؛ لأنه يحتمل وجهين. ووفرة التأويلات من فضائل الكلام الجيد.

الحذف في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء: 171]:

هذا، وتقدير المحذوف أو القول بالحذف يحتاج من الدارس إلى تأمل دقيق ونظر واع؛ حتى لا يتناقض مع صحة المعنى واستقامته، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ} [النساء: 171] فالمراد: النهي عن التثليث. أي: لا تقولوا بالتثليث، انتهوا عنه يكن خير لكم؛ فالله واحد لا شريك له. الآية الكريمة فيها حذف، ويحتمل أن يكون المحذوف المسند، والتقدير: لنا آلهة ثلاثة، أو في الوجود آلهة ثلاثة. فحذف المسند: لنا أو في الوجود، ثم حذف الموصوف: آلهة. فصارت الآية: {لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ}. أو التقدير: لا تقولوا لنا، أو في الوجود ثلاثة آلهة. فحذف الخبر ثم التمييز المضاف إليه فصارت الآية: {لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ}. ويحتمل أن يكون المحذوف المسند إليه، وتقديره: ولا تقولوا الله، والمسيح، وأمه ثلاثة. أي: لا تعبدوهما كما تعبدون الله، ولا تسووا بينهم في الرتبة والصفة. كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73].

وذلك أنهم إذا أرادوا التسوية بين اثنين، قالوا: هما اثنان. وإذا أرادوا إلحاق واحد باثنين، قالوا: هم ثلاثة. ولا يصح أن يكون التقدير: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة؛ لأن في هذا التقدير تقرير لثبوت آلهة، إذ النفي إذا سلط على جملة لا يتوجه إلى أحد طرفيها وإنما يتوجه للحكم المستفاد من الطرفين. فإن قلتَ: ليس أمراؤنا ثلاثة. فإنك تثبت بهذا القول أن لكم أمراء وتنفي أن يكون عددهم ثلاثة، فجائز أن يكون عددهم أقل من ثلاثة أو أكثر؛ ولذا فإن التقدير: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة. فيه إثبات أن عدد الآلهة اثنان أو أكثر من ثلاثة، وهذا إشراك -والعياذ بالله-. وقول الله -عز وجل- بعده: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يناقضه. وتأمل معي، قول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] في قراءة من حذف التنوين، تنوين عزير. فلا يجوز أن يقدر مسند محذوف، وأن تعرب: {عُزَيْرٌ}: مبتدأ، و{ابْنُ}: صفته. ويكون التقدير: عزير بن الله معبودنا. هذا خطأ وإشراك؛ لأن فيه إثبات وتقرير الصفة للموصوف، أي: صفة ابن الله ثابتة لعزير. ولا يخفى عليك ما في هذا من فساد. والصواب: أنه لا حذف في الآية، وأن: {عُزَيْرٌ}: مبتدأ، وخبره: {ابْنُ اللَّهِ}، وأن التنوين، تنوين عزير مراد لذاته، وقد حذف لالتقاء الساكنين أو أنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، كآزر.

حذف المسند والمسند إليه لإفادة السرعة:

وقد يحذف كل من المسند والمسند إليه، كما في قولهم: أهلك والليل. يريدون: الحق أهلك وبادر الليل؛ حتى لا يحول بينك وبينهم. فالمقام يقتضي السرعة الخاطفة؛ ولذا حسن حذف المسند والمسند إليه. ومن لطيف ذلك قول الله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30] أي: أنزل ربنا خيرًا.

فحذف الفعل والفاعل، وحذفهما ينبئ بسرعة استجابة هؤلاء المتقين وقوة إيمانهم وامتثالهم لأمر ربهم. وفرق بين إجابة المتقين في هذه الآية، وإجابة الكفرة في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24] أي: ذلك أساطير الأولين.

يقول الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت: فصلًا بين جواب المقر، وجواب الجاحد. يعني: أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينًا مكشوفًا مفعولًا للإنزال. فقالوا: {خَيْرًا}. أي: أنزل ربنا خيرًا. وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا: هو أساطير الأولين. وليس من الإنزال في شيء.

ومثله: قوله -عز وجل-: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] أي: قال ربنا الحق. فحذف المسند والمسند إليه وهو الفعل والفاعل؛ إسراعًا إلى الإفصاح عن الجواب، إذ المقام مقام إيجاز، يتطلب أن تكون الإجابة إشارة أو لمحًا. كيف لا؟! وقد فزع عن قلوبهم من الكلمة الواحدة بل الإشارة في مثل هذا المقام تغني عن الكلمات الكثيرة.

وتأمل قول الله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 11: 13] أي: ذروا ناقة الله واحذروا سقياها. تجد أن الحذف هنا ينبئ بلهفة صالح -عليه السلام- وشدة حرصه على هداية قومه ونجاتهم؛ ولذا صاح بهم محذرًا: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}.

حذف المسند والمسند إليه لدلالة الكلام عليهما:

وانظر إلى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لجابر: "ما تزوجتَ؟ فقال: ثيبًا. فقال -صلى الله عليه وسلم-: فهلَّا جارية تلاعبها وتلاعبك؟". أراد -عليه السلام-: فهلَّا تزوجت جارية. فحذف الفعل والفاعل؛ لدلالة الكلام عليهما. وفي هذا الحذف تنقية للعبارة وتصفية لها مما أقيم عليه الدليل؛ حتى لا يكون ذكرُه عبثًا وفضولًا.

حذف المسند والمسند إليه وإقامة المصدر مقامَهما:

كما في قول الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] أي: فاضربوا رقابهم ضربًا. فحذف الفعل وفاعله، وهذا الحذف يلائم السياق؛ إذ الضرب المأمور به هو الضرب السريع الخاطف فور اللقاء. وتأمل هذه الفاءات: {فَإِذا لَقِيتُمُ}، {فَضَرْبَ}، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا} [محمد: 4] وما تقتضيه من التعقيب والسرعة الخاطفة.

حذف القول وفاعله:

حذف القول وفاعله كثير في كتاب الله تعالى. من ذلك: قوله -جل وعلا-: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:47، 48]. أي: فيقال لهم: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا}. ولعلك تشعر بما وراء هذا الحذف من تأنيب وتعنيف شديد، ويساعد في إبراز هذا التعنيف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب: {وَعُرِضُوا}، {جِئْتُمُونَا}. ومنه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأحقاف: 34] أي: فيقال لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}. ولا يخفى عليك ما وراء الحذف هنا من سرعة إبراز السخرية والتهكم بهؤلاء الكفرة الذين لم يجدوا بُدًّا من الإذعان والإقرار بعد فوات الأوان، بلى وربنا.

                                            *** 

مقالات مرتبطة

حذف المسند إليه

ذكر المسند إليه

تعريف المسند إليه بالإضمار

تنكير المسند إليه

توابع المسند إليه

تقديم المسند إليه

حذف المسند

حذف المسند أو المسند إليه

***



إرسال تعليق


أحدث أقدم