يحذف المسند عند وجود
القرينة الدالة على حذفه؛ ليفيد أغراضًا بلاغية متعددة. هذه الأغراض لا يمكن
الإحاطة بها؛ لأنها دقائق ولطائف تكمن وراء العبارات والصيغ، ولا يدركها إلا
المتأمل الواعي، والذوَّاقة الخبير بالنظم وأحواله.
الأغراض البلاغية لحذف المسند:
عندما نتحدث عن أغراض
الحذف، إنما نذكر بعضًا من تلك الدقائق، وأنت عندما تتأمل النظم الجيد، والأساليب
الرفيعة، لا تقف عند ذاك البعض الذي نذكره، بل عليك أن تطيل النظر والبحث
والتنقيب؛ حتى تصل إلى دقائق أخرى كثيرة.
فمن المعلوم أن وراء كل
حذف سواء كان المحذوف مسندًا إليه أو مسندًا أو أحد متعلقات الفعل، ثلاث مزايا
بلاغية، هي: الإيجاز، والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر، وإثارة حس مخاطب،
وإيقاظ مشاعره؛ كي يقف على المطوي من العبارة، ويحيط به.
وبالإضافة إلى تلك
المزايا التي تكمن وراء كل حذف، نجد لحذف المسند أغراضًا بلاغيةً أخرى، أهمها:
1- ضيق المقام:
من الأغراض البلاغية لحذف
المسند ضيق المقام، كما في قول ضابئ بن الحارث البرجمي، وكان الخليفة عثمان -رضي
الله عنه- قد حبَسَه في المدينة؛ لهجائه بني نهشل، ورميه أمهم. فضاق ضابئ بسجنه،
وقال معبرًا عن آلامه وواصفًا ومصورًا أحزانه:
ومن يك أمسى بالمدينة
رحلُه ... فإني وقيار بها لغريب
رحله: يعني: منزله
ومأواه، وقيار: اسم فرسه، وقوله: فإني وقيار بها لغريب، محل الشاهد هو: من عطف
الجمل.
فقد أراد الشاعر هنا أن
يبين عما في نفسه من أن من أمسى بالمدينة مستقرًا له منزله الذي يأوي إليه، وأهله
وأصحابه الذين يأنس بهم، ويسكن إليهم، طابت نفسه، وحسن حاله، ورضي بعيشته، أما أنا
وقيار فإنا بها لغريبان، وأنَّى للغريب أن يسعد ويهنأ، فالشاعر حزين مكروب؛ قد ضاق
صدره لغربته وحبسه، وتتجدد آلامه كلما تذكر مع الذنب الذي ارتكبه الأهل والأصحاب
والمنزل الهنيء، وكلما مر بخياله الانطلاق والحرية، ولذا تراه قد طوى المسند إلى
قيار في الشطر الثاني، وتقديره: فإني لغريب بها وقيار، غريب بها أيضًا، فطيه: ينبئ
بالحال الكئيبة التي يعيشها، فهو -كما تراه- قد طوى جواب الشرط، وتقديره: ومَن يك
أمسى بالمدينة رحله فهو مسرور طيب النفس، مستريح البال، طواه لنفس السبب، وكأن
الكلمات لا تسعفه؛ كي يذكر جواب الشرط وخبر قيار، ثم كيف يذكر الجواب وهو من جنس
السعادة والهناء. إن لسانه ليتوقف عاجزًا عن النطق به؛ لأن في الإفصاح عنه زيادة
لآلامه وأحزانه.
وتأمل؛ كيف قدم قيارًا،
فقال: وإني وقيار، ولم يقل: فإني لغريب بها وقيار؛ وذلك للإشارة إلى أن قيارًا ولو
لم يكن من جنس العقلاء قد بلغه هذا الكرب، واشتدت عليه تلك الغربة حتى صار مساويًا
للعقلاء في التشكي منها، ومقاساة شدائدها. فتقديم قيار وإقحامه بين جزئي الجملة
ينبئ بالتسوية بينهما في التحسر، ومقاساة الألم، وينبئ بالتالي بشدة ما يلاقيه
الشاعر، فلم تعد الآلام مقصورةً عليه، بل تجاوزته إلى جواده، فصار الجواد يشعر بما
يشعر به ضابئ صاحبُه من ألم وضيق.
2- تعظيم المسند إليه:
قد يفيد حذف المسند تعظيم
المسند إليه، على نحو ما ترى في قول الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ
أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74]. وقوله تعالى:
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].
فالأصل: إلا أن أغناهم
الله من فضله وأغناهم رسوله، والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. فحذف المسند في
الموضعين؛ لدلالة المذكور عليه، وحذفه يفيد تعظيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وهو المسند إليه، إذ جعل إرضاءه من إرضاء الله، وإغناءه من إغنائه تعالى، وهذا
تعظيم ما بعده تعظيم.
وتأمل؛ تقديم المسند
إليه: {رَسُولُهُ}، وإيلاءه لفظ الجلالة، ففيه تنبيه ولفت إلى تعظيم رسول الله
-صلوات الله عليه- ودلالة على أنه من الله بمكان. ومن البلاغيين من يرى أنه لا حذف
في الآيتين مجوزًا أن تكون جملة واحدة، وتوحيد الضمير في: {مِنْ فَضْلِهِ}، و
{يُرْضُوهُ}، ينبئ بأنه لا تفاوتَ بين إغناء الله وإغناء رسوله، ولا بين إرضاء
الله وإرضاء رسوله؛ فهما في حكم مغن واحد ومرضٍ واحد، كما تقول: إحسان عمرو وكرمه
غمرني. وتفرد الضمير جاعلًا الإحسان والكرمَ بمعنًى واحدٍ، ولا يخفى عليك ما في
هذا أيضًا من تعظيم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورفعة بشأنه.
ومثل هذا وعلى طريقته قول
الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ
وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 69] حيث قدم: {الصَّابِئُونَ} على خبر إن، وهو
مبتدأ، أي: الصابئون كذلك؛ وذلك لأن الصابئين أشد هذه الفرق. ويُظن أنهم لا يستوون
مع غيرهم، فأقحم للدلالة على التساوي كما في الشواهد التي مضت. وقد ترى سر التأثير
ومرجع المزية في حذف المسند كامنًا في تكاثر المعنى؛ نظرًا لكثرة الوجوه التي تصلح
لتقدير المحذوف.
ومن ذلك: قوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:
41] وقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}: مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير: فحق أو
فواجب أو فثابت. قال الزمخشري: كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه لا سبيل إلى
الإخلال به والتفريط فيه، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات.
كقولك: ثابت، واجب، حق، لازم، وما أشبه ذلك، كان أقوى للإيجاب من النص على واحد.
وتأمل قول الله تعالى:
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ
أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33] تجد أنه قد حذف المسند وتقديره: أفمن
هو قائم كمَن ليس كذلك، والقائم على كل نفس هو الله -جل وعلا- فهو متولي أمر كل
نفس وحافظ شأنها. ومن ليس كذلك هو المعبود بالباطل من دون الله -عز وجل-. والحذف
هنا يشعر بتعظيم الله -تبارك وتعالى- وتحقير وازدراء تلك المعبودات، وينبئ بأنه لا
وجه للمقارنة بين الخالق القادر القائم على كل نفس وبين تلك المعبودات.
فينبغي عدم الجمع بينهما
ولو في اللفظ. وكذا القول في الآيات الكريمة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] والتقدير: كمن قَسَا قلبه، وكان
صدره ضيقًا حرجًا. ومثله: قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24] أي: كمن ينعم في الجنة. وقوله:
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] أي: كمن لم
يزين له، أو كمن هداه الله، فالحذف في الآيات يشعر بأنه لا وجه للمقارنة بين
الاثنين، فهذا قد شرح الله صدره للإسلام، وذاك قد أمسى قلبه وأضحى صدره ضيقًا
حرجًا، وهذا يتقي بوجهه سوء العذاب. هذا يتقي بوجهه سوء العذاب، وذاك ينعم في
الجنة، هذا قد زين له عمله السيئ فرآه حسنًا، وذاك قد هداه الله للخير والعمل
الصالح.
فحذف المسند كما ترى ينبئ
بالتباعد بين الفريقين، ويوحي بالمسافات المتناهية بينهما، ويجعل الذهن يتشبع
ويمتلئ بصورة المسند إليه فتقر في القلب، وترسخ في العقل.
ولا يخفى عليك أن الحذف
في الآيتين الأخيرتين قد أفاد تعظيم المسند المحذوف ورفعة شأنه، كما أفاد تحقير
المسند إليه المذكور وانحطاطه، وذلك عكس ما أبصرت في الآيتين السابقتين، إذا أفاد
الحذف فيهما تعظيم المسند إليه المذكور وعلو منزلته، وتحقير المسند المحذوف
وانحطاطه، وازدياد وازدراء النفوس له.
3- اتباع الاستعمال الوارد
عن العرب:
وقد يحذف المسند اتباعًا
للاستعمال الوارد عن العرب كقولك: خرجت فإذا زيد، لولا زيد لهلك الناس، لعمرك
لأفعلن، كل رجل وضيعته، والتقدير: فإذا زيد حاضر، لولا زيد موجود، لعمرك يميني كل
رجل مقترنان، وقد ذكر النحاة أن الأساليب العربية جرت على إسقاط المسند في هذه
المواضع، وهي: إذا الفجائية، ولولا، والقسم الصريح، وواو المصاحبة، وكذا مع الحال
الممتنع كونها خبرًا، نحو: ضربه زيدًا قائمًا. أي: ضربه زيدًا حاصل إذا كان
قائمًا.
وذكر سيبويه أن الحروف
الخمسة التي تعمل فيما بعدها عمل الأفعال، وهي: إن، ولكن، وليت، ولعل، وكأن، يحسن
السكوت عليها، مع إضمار خبرها. من ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للمهاجرين،
وقد شكروا عنده الأنصار: "أليس قد عرفتم أن ذلك لهم؟ قالوا: بلى. قال -عليه
الصلاة والسلام-: فإن ذلك"، يريد: فإن ذلك مكافأة لهم.
وقول عمر بن عبد العزيز
لرجل من قريش جاء يكلمه في حاجة له، فجعل يمت بقرابته، فقال له عمر: "فإن ذلك"،
أي: فإن ذلك لك، ثم ذكر الرجل حاجته، فقال عمر: "لعل ذلك"، أي: لعل ذلك
يُيَسَّر لك ويُقْضَى، وتقول لمن قال لك: هل لك أحد ينصرك، إن الناس إلب عليك،
تقول: إنْ زيدًا، وإنْ عمرًا، وإنْ ولدًا، وإنْ مالًا. وعليه قول الأعشى:
إن محلًّا وإن مرتحلًا
... وإن في السفر إذا مضوا مهلًا
يريد: إن لنا محلًّا في
الدنيا، وإن لنا مرتحلًا عنها إلى الآخرة. ومحِلًّا ومرتحلًا: مصدران ميميان بمعنى
الحلول والارتحال.
والسفر: اسم جمع بمعنى:
المسافرين. والمراد بهم في البيت: الموتى. والمهل: مصدر بمعنى: الإمهال وطول
الغيبة، والمعنى: إن في غيبة الموتى طولًا وبعدًا؛ لأنهم مضوا مضيًا لا رجوع معه
إلى الدنيا. ومنه قول الآخر: ليت أيام الصبا رواجعًا، يريد: ليت أيام الصبا لنا
رواجعا، أو أقبلت رواجعا. وتقول لمن قال لك: هل أحد يشبه عمرَ في عدله؟: كأن
فلانًا. ولمن قال لك: الخسارة فادحة، والخطب جلل، الناس جميعًا ضدك، لكنْ مالًا،
ولكنْ ولدًا، يريد: كأن فلانًا يشبهه، لكنّ لي مالًا ولي ولدًا. والعفو في هذا الموضع
أفاد الإيجاز ونقاء الجمل وترويقها. أو كما قال البلاغيون: الاحتراز عن العبث.
فالذي حذف قد وجدت القرينة الدالة عليه، والمقام مقام إيجاز، ولمح.
وذكر ما قد دل الدليل
عليه في مثل هذا المقام يعد عبثًا. تأمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "فإن
ذلك"، قول عمر: لعل ذلك. فستدرك قوة لمح المتكلم، وحسن اقتداره على تصفية
العبارة وترويقها من زوائد لا يستدعيها المقام. تأمل قولك: ضربي زيدًا قائمًا.
ووازن بينه وبين قولك: ضربي زيدًا حاصل إذا كان قائمًا. فستجد أن المحذوف أكثر من
المذكور، وعلى الرغم من ذلك، فقد ازداد المثال جمالًا؛ بسبب الحذف، وبَدَا موجزًا
أنيقًا. وأراك تشعر بما وراء قول القائل: إنَّ مالًا وإن إبلًا ولكن ولدًا. من
اعتداد واعتزاز وقوة لا تكون لو قدر المحذوف فقيل: إن لنا مالًا ولكن لنا ولدًا؛
لأن استرخاء العبارة عندئذ يوحي بفتور الشعور، وضعف المعنى.
4- التأكيد والاختصاص:
وقد يفيد حذف المسند
التأكيد والاختصاص، كما في قول الله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ
خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} [الإسراء:
100]. فالتقدير: لو تملكون تملكون، فأضمر المسند تملك الأول إضمارًا على شريطة
التفسير، ولما أضمر الفعل انفصل الضمير أنتم، فأنتم: فاعل الفعل المضمر، و
{تَمْلِكُونَ}: تفسيره. ودليل الحذف: لو؛ لأن "لو" لا تدخل إلا على
الأفعال.
قال الزمخشري في [الكشاف]:
وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب. فأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن:
{أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ}، فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون بالشح
المتبالغ. ونحوه: قول حاتم: لو ذات سوار لطمتني، قالها عندما لطمته أَمة قد جاءته
ببعير؛ ليفصده فنحره. ويعني بذات السوار: الحرة من النساء.
***
مقالات مرتبطة
***