التشبيه التمثيلي وشواهده من القرآن الكريم

التشبيه التمثيلي  

آراء العلماء في تعريف التشبيه التمثيلي وغير التمثيلي:

التشبيه التمثيلي من الأمور المتعلقة بوجه الشبه، وقد اختلف العلماء في أمره على أربع آراء، وهي: رأي للإمام عبد القاهر، ورأي للسكاكي، ورأي للخطيب القزويني، ورأي للزمخشري.

 

أولا: رأي الإمام عبد القاهر الجرجاني في التشبيه التمثيلي

 تعريف التشبيه غير التمثيل عند الإمام عبد القاهر:

تشبيه غير التمثيل عنده هو: ما كان وجه الشبه فيه أمرًا ظاهرًا لا يحتاج إلى تأول وإعمال فكر وصرف عن الظاهر.

فما كان وجه الشبه فيه أمرًا حسيًّا مدركًا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة سواء كان هذا الوجه مفردًا أو مركبًا، وكذلك ما كان الوجه فيه عقليًّا حقيقيًّا كالأخلاق والغرائز والطباع، يعتبره الإمام عبد القاهر من تشبيه غير التمثيل.

 تعريف التشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر:

أما تشبيه التمثيل عنده هو: ما لا يكون الوجه فيه أمرًا بيِّنًا بنفسه، بل يحتاج في تحصيله إلى ضرب من التأويل والصرف عن الظاهر.

فما كان وجه الشبه فيه ليس حسيًّا ولا من الأخلاق والغرائز الحقيقية بل يكون عقليًّا غير حقيقي، سواء كان هذا الوجه مفردًا أو مركبًا، يعتبره الإمام عبد القاهر تشبيه التمثيل؛ لأن المشبه لم يشارك المشبه به في صفته الحقيقية.

ويتحقق ذلك فيما إذا كان وجه الشبه عقليًّا غير حقيقي، أي: غير متقرر في ذات الموصوف يكون تشبيهًا تمثيليًّا. مثال ذلك مثلًا قولنا: (هذه حجة كالشمس في الظهور)، قد شبهت الحجة في قوة بيانها بالشمس من جهة ظهورها، هذه ظاهرة، وهذه ظاهرة، لكن هذا التشبيه لا يتم إلا بتأول، وذلك بأن نقول: حقيقة ظهور الشمس أو غيرها من الأجسام ألا يكون دونها حجاب، ونحوه مما يحول بين العين وبين رؤيتها، والشبهة التي تزال بالحجة والبرهان هي نظير الحجاب فيما يدرك بالعقول؛ لأنها تمنع القلب رؤية ما هي شبهة فيه، فإذا ارتفعت الشبهة قيل: هذا ظاهر كالشمس، فقد احتجنا في تحصيل الشبه بين الحُجَّة وبين الشمس، وهو إزالة الحجاب في كل إلى مثل هذا التأويل.

والصرف عن الظاهر مثاله أيضًا عند الإمام عبد القاهر قولنا: "كلام ألفاظه كالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرقة، وكالعسل في الحلاوة": فالمراد أن اللفظ لا يستغلق، ولا يشتبه معناه، ولا يصعب الوقوف عليه، فليس بغريب، ولا وحشي، وليس في حروفه تكرير وتنافر يكد اللسان، فصار لذلك كالماء الذي يسوغ في الحلق، والنسيم الذي يسري في البدن، ويهدي إلى القلب روحًا ونشاطًا، وكالعسل أيضًا الذي يلذ طعمه، وتهش النفس له، ويميل الطبع إليه؛ فوجه الشبه إذن هو الاستحسان، وميل النفس الذي هو لازم من لوازم الحلاوة؛ إذن فنستطيع أن نقول: إن الإمام عبد القاهر سمى هذا اللون الذي يكون وجه الشبه فيه عقليًّا غير حقيقي غير مقرر في ذات الموصوف أسماه بالتشبيه التمثيلي. إذن خرج من ذلك كل ما كان عدا هذا. 

فالتشبيه مثلًا ما كان وجه الشبه فيه بينًا لا يحتاج إلى تأويل، عند هذا لا يدخل في التشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر التشبيه مثلًا من جهة اللون، أو من جهة الهيئة، أو كمثل التشبيه بأن يجمع فيما يجمع بين شيئين فيما يدخل تحت الحواس، كل هذا يدخل في التشبيه الحسي، ومن ثَمَّ لا يدخل في التشبيه العقلي. 

إذن باختصار فالتشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر هو: ما كان وجه الشبه فيه عقليًّا غير حقيقي، يخرج من هذا كل ما كان حسيًّا، وكل ما كان عقليًّا، لكن يتعلق بالغرائز، والطباع، والأخلاق. فكل هذه تدخل في التشبيه غير التمثيلي.

إذن فالتشبيه التمثيلي عند الإمام عبد القاهر هو ما كان عقليًّا غير حقيقي كهذين المثالين الذي مثل بهما، وهو قوله هذه حجة كالشمس في الظهور، وقوله كذلك: كلام ألفاظه كالعسل في الحلاوة، هذا هو رأي الإمام عبد القاهر.

أمثلة على التشبية التمثيلى عند الإمام عبد القاهر: 

ما جاء في قول ابن المعتز: 

اصْبِر عَلَى مَضَضِ الْحَسُود    فإنَّ صبرك قَاتِله

فالنار تأكل بعضها        إن لم تجد ما تأكله

 إذ المراد -كما قلنا- تشبيه حال الحاسد يهمله المحسود بالإعراض عنه حتى يموت كمدًا بحال النار، لا تمد بالحطب فيأكل بعضها بعضًا حتى تصير رمادًا، وجه الشبه هنا هيئة عقلية حاصلة من سرعة الفناء؛ لعدم الإمداد بما يسبب البقاء والحياة، وهذه صورة عقلية غير حقيقية. إذن فهي داخلة عند الإمام عبد القاهر في التشبيه التمثيلي. 

ثانيًا: رأي الإمام السكاكي في تعريف التشبيه التمثيلي

تعريف التشبيه غير التمثيل عند السكاكي هو: ما كان وجه الشبه فيه مفردًا بنوعيه حسيًّا أو عقليًّا، أو كان مركبًا حسيًّا.

تعريف التشبيه التمثيل عنده، هو: ما كان وجه الشبه فيه مركَّبًا عقليًّا، ومثَّل له بقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: ١٧] فنجد أن وجه الشبه في الآية الكريمة -وهو تعاطي الأسباب المقربة لتحقيق الآمال حين ظهرت- دلائل النجاح، فانقلب الأمر، وجاء على عكس ما كانت تطمع إليه هذه الآمال. فوجه الشبه هنا: هيئة عقلية انتزعت من أمور متعددة. 

ومنه قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: ٥] نجد أن وجه الشبه، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه، وهذه هيئة مركبة عقلية. 

فالتمثيل عند السكاكي أشبه بالتمثيل عند الإمام عبد القاهر، إلا أن السكاكي اشترط التركيب، أما عبد القاهر فيرى أن التمثيل قد يأتي في المفرد. فكل تمثيل عند السكاكي تمثيل عند عبد القاهر وليس العكس لانفراد عبد القاهر بالمفرد.

***

ثالثا: رأي الإمام الخطيب القزويني وجمهور البلاغيين في التشبيه التمثيلي

تشبيه غير التمثيل عند الخطيب القزويني وجمهور البلاغيين هو: ما كان وجه الشبه فيه مفردًا حسيًّا أو عقليًّا.

وتشبيه التمثيل: ما كان وجه الشبه فيه مركَّبًا سواء كان حسيًّا أو عقليًّا.

هذا أعم من رأي السكاكي، فمدار التفرقة عندهم بين التشبيه والتمثيل: تركيب الوجه وإفراده، بغض النظر عن كونه حسيًّا أو عقليًّا.

فإذا كان وجه الشبه هيئة منتزعة من شيئين، أو عدة أشياء؛ كان التشبيه تمثيلًا، سواء كانت هذه الهيئة حسية أم عقلية، طبعًا يخرج من هذا كل ما كان وجه الشبه فيه مفردًا بنوعيه الحسي والعقلي. 

***

رابعًا: رأي الإمام الزمخشري في التشبيه التمثيلي

لا يرى الزمخشري أن هناك فرقًا بين التشبيه والتمثيل، فكل تشبيه عنده تمثيل، وكل تمثيل عنده تشبيه. 

***

وخلاصة هذه الآراء في التفرقة بين التشبيه والتمثيل، والتي هي مبنية على إفراد وجه الشبه، أو تركيبه، وحسيته، أو عقليته: هو أنه إذا كان وجه الشبه مركبًا عقليًّا غير حقيقي، كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: ٥]، والآية الكريمة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: ٣٩]، وقول الشاعر: 

اصبر على مضض الحسود ...

كل هذا يعد تشبيهًا تمثيليًّا بإجماع الآراء؛ لأن وجه الشبه فيه مركبًا عقليًّا غير حقيقي، كذلك وجه الشبه لو كان مركبًا حسيًّا مثل قول بشار: 

كأنَّ مُثارَ النَّقع فوق رُؤوسنا      وأسيافَنا ليلٌ تَهاوَى كواكبُهْ

فإنه شبه هيئة الغبار، وفيه السيوف مضطربة، بهيئة الليل وفيه الكواكب تتساقط في جهات مختلفة.

كأن أجرام النجوم لوامعًا         دُرَرٌ نثرن على بساط أزرق

فوجه الشبه في البيت هو الهيئة المكونة من أجرام بيضاء مضيئة صغيرة نثرت على صفحة شيء أزرق صافي الزرقة.

وسِقْطٍ كَعَيْنِ الدَّيكِ عَاوَرْتُ صُحْبَتِي         أَبَاهَا وهَيَّأْنَا لِمَوْضِعِهَا وَكْرَا

فالوجه هو الهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكرى والمقدار المخصوص إلى غير ذلك كان التشبيه تمثيليًّا عند الخطيب، وعند جمهور البلاغيين؛ لأن الوجه مركب حسي، وإذا كان الوجه مركبًا عقليًّا غير حقيقي؛ كان تشبيهًا تمثيليًّا عند الإمام عبد القاهر، وإذا كان مفردًا حسيًّا أو عقليًّا حقيقيًّا لكونه من الأخلاق والغرائز، فهذا بالإجماع عند جميع البلاغيين هو من قبيل التشبيه لا التمثيل. 

إذن نخلص من كل هذا إلى أن مدار الحكم على الصورة بأنها من قبيل التمثيل، أو من قبيل التشبيه التمثيلي متوقف على وجه الشبه، فإن كان وجه الشبه مركبًا عقليًّا غير حقيقي، فهو تمثيل بالإجماع، وإن كان وجه الشبه مركبًا حسيًّا غير حقيقي؛ فهو تمثيل عند الخطيب، وجمهور البلاغيين -وإن كان وجه الشبه مركبًا عقليًّا غير حقيقي- فهو تمثيل عند السكاكي، وإن كان وجه الشبه مفردًا عقليًّا غير حقيقي فهو تمثيل عند الإمام عبد القاهر، وإن كان وجه الشبه حسيًّا غير حقيقي مفردًا طبعًا فهو تشبيه عند كل البلاغيين. 

فالزمخشري لا يفرق بين هذا وذاك. وإذا تأملنا كل من تعريف عبد القاهر والسكاكي والخطيب نجد أن بعضها قد تولَّد من بعض، فالتقت في أشياء واختلفت في أخرى، فأصل المسألة عند عبد القاهر (ما كان وجهه متأولا)، ثم إن عبد القاهر أولى المركب مزيد عناية على حد ما ذكر في حملة التوراة، وآية مثل الحياة الدنيا.

ثم جاء السكاكي وأطلق (غير حقيقي) مكان التأويل، واقتبس المركب في الوجه وترك المفرد.

ثم جاء الخطيب وصرف النظر عن موضوع التأول وغير الحقيقي أي صرف النظر عن طريق قيام الوجه بأحد الطرفين وسوَّى بين ما كان الوجه قائمًا فيهما على سبيل الحقيقة وما كان قائمًا على وجه التأول، وعُني فقط بمسألة التركيب.

ورأي الخطيب القزويني وجمهور البلاغيين هو أوسع المذاهب وأخفها وأيسرها.

***

العلاقة بين التشبيه والتمثيل

التشبيه عام والتمثيل أخص منه، فكل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلاً.

***

أمثلة التشبيه التمثيلي في القرآن الكريم

من شواهد التشبيه التمثيلي قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17].

المشبه: المنافقون. والمشبه به: مستوقد النار، وإظهارهم الإيمان بالإضاءة، ثم انقطاع انتفاعهم به بانطفاء النار، وأداة التشبيه: (الكاف). وجه الشبه: الضلال بعد الهدى.

وتشبيه حال المنافقين في الآية، أمر حقيقي منتزع من متعدد، وهو: الطمع في حصول مطلوب، لمباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب.

يعطينا الحق سبحانه صورة عما في داخل قلوب المنافقين؛ من اضطراب وذبذبة وتردد في استقبال منهج الله، وبما أن ما يجري في القلوب غيب عنَّا، قرَّب سبحانه هذا المعنى إلينا بهذا التشبيه.

والتشبيه هنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نورًا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.

***

ومنه قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19].

المشبه: المنافقون. والمشبه به: قوم أخذتهم السماء في ليلة شديدة المطر، مليئة بسحب مظلمة، مع رعد يقصف بالآذان، وبرق يأخذ بالأبصار، وصواعق يصحبها الهلاك والموت. وأداة التشبيه: (الكاف)، ووجه الشبه: الشك والتردد، وهو تشبيه تمثيلي؛ لكون وجه الشبه صورة منتزعة من متعدد.

تبين لنا هذه الآية أن المنافقين قسمان:

منافقون خُلَّص: وهم المضروب لهم المثل الناري. ومنافقون مترددون: تارة يظهر لهم لمع الإيمان وتارة يخبو، وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالاً من الذين قبلهم.

وفي التشبيه الناري والمائي خصائص تتضمن لهما الخلود والبقاء على مر العصور والأزمان، كما هي خصائص التشبيهات القرآنية دائمًا، بل كما هي خصائص القرآن الكريم كله.

ولعل السر في ذلك أن عناصر التشبيه في جانب المشبه به انتزعت مما يعرفه الإنسان ويقع عليه بصره، وهي مأخوذة من أحوال الطبيعة ومَشاهد الكون. 

وبهذا يحقق التشبيه مغزاه ويكشف معاني تُدرك بالعقل وحده فيصيرها مَشاهد تُرى وتُبصَر، وينفخ فيها حياة تحركها لتسير بها إلى أعماق النفس.

كما أن من هذا حاله، فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماع أنواع الظلمات، فحصلت في المنافقين نهاية الحيرة في الدين، ونهاية الخوف في الدنيا؛ لأن المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقُتِل، فلا يزال الخوف في قلبه مع النفاق.  

ولعل مجيء التشبيه بصورة تمثيلية لمزيد إيضاح لحالة المنافقين من التردد والشك.

***

ومنه قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

المشبه: حال مَنْ يُنفق من ماله قليلا في سبيل الله ثم ينال عليه جزاء عظيمًا. والمشبه به: حال باذِرُ حَبَّةٍ فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.

وهذا التمثيل تصوير للإضعاف، كأنها حاضرة بين يدي الناظر فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس؛ حيث شبّه الصدقة بالبذر، يعطي الله تعالى بها سبعمائة حسنة. والمضاعفة لمن يشاء سبحانه بفضله، وعلى حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه. والله واسع لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة، عليم بنية المنفق وقدر إنفاقه

ووجه الشبه: هو صورة من يعمل قليلا ثم يجني من ثمار عمله كثيرُا، فهو دفع القليل من ماله وحصل له من وراء ذلك على الخير الكثير.

***

ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264].

المشبه: الكافر الذي يتصدق رياءً، المشبه به: الحجر الأملس المغطى بالتراب فيصيبه مطر غزير يتركه أملسَ يابسًا، أداة التشبيه: (الكاف)، ووجه الشبه: سرعة الزوال وعدم القرار. فهذا تشبيه تمثيلي؛ لكون وجه الشبه صورة منتزعة من متعدد، والغرض من التشبيه: تقبيح المشبه.

***

ومنه قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: 24].

المشبه: الكفار والمؤمنون.  المشبه به: الأعمى والأصم، والبصير والسميع.

وأداة التشبيه: الكاف. 

ووجه الشبه: استفادتهم من الحق المسموع والمنظور وعدمها.

فهو تشبيه تمثيلي: مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع، ومثَّل فريق الكافرين كالأعمى والأصم، وقد زادت الآية على جميع أمثلة التشبيه التمثيلي كقول امرئ القيس:

كأنَّ قلُوبَ الطيْر رطبًا ويابسًا          لدى وكْرها العنَّاب والحشَفُ الْبَالِي

وقول بشار:

كأنَّ مُثارَ النَّقع فوق رُؤوسنا              وأسيافَنا ليلٌ تَهاوَى كواكبُهْ

ففي البيت الأول: تشبيه قلوب الطير الرطبة بالعناب، وتشبيه قلوب الطير اليابسة بالحشف البالي، وفي البيت الثاني: تشبيه الغبار القاتم والسيوف الملتمعة فيه بالليل الذي تنقض فيه الشهب والكواكب.

أما الآية فقد زادت بتشبيه اثنين بأربعة كما هو واضح فقد شبهت كل واحد من الكافر والمؤمن تشبيهين.

وبيان وجه الشبه: بأنه قد انتزع من حال الفريق الأول في تصامِّهم وتعاميهم المذكورين ووقوعهم بسبب ذلك في العذاب المضاعف والخسران الذي لا خسران فوقه، هيئة منتزعة ممن فقد حاسة البصر والسمع فتخبط في مسلكه فوقع في مهاوي الردى ولم يجد إلى مقصده سبيلا، وينتزع من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرهم في آيات الله تعالى حسبما ينبغي وفوزهم بدار الخلود هيئة تشبه بهيئة منتزعة ممن له بصر وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مرامه.

***

ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

المشبه: حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال وعدم ثباتها على حال. والمشبه به: حال النبات في جفافه وذهابه حُطامًا بعدما التف وتكاثف وزيَّن الأرض بخضرته. ووجه الشبه: صورة شيء مبهج يبعث الأمل في النفوس في أوَّل أمره ثم لا يلبث أن يظهر في حال تدعو إلى اليأس والقنوط.

لقد أضفى التشبيه على معنى الآية صورة منفرة للدنيا يدركها المؤمن الحصيف فلا يغتر بها وبما يبدو عليها من الزينة الظاهرة والبهرج الخادع، فكما أن ذلك الزرع الجميل الذي اكتست به الأرض حلة جميلة زاهية الألوان هلك فجأة وصار إلى زوال ودمار لما جاءه أمر ربه، فكذلك الحياة الدنيا إلى زوال وفناء.

وقد أطنب وأطال في وصف الخصب والزينة والاطمئنان حتى كأن السامع ينظر إلى ذلك المشهد الجميل وبدون حجب، فلما آن الأوان بالهلاك جاءت كلمة واحدة مقتضبة خاطفة (حصيدا) ليقول لهم: في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة.

وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان− هذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس، ويضيعون الآخرة كلها لينالوا بعض المتاع، هذه هي، لا أمن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يملك الناس من أمرها شيئاً إلا بمقدار.

إنها حقيقة عظيمة وموعظة جليلة يجليها الله سبحانه لعباده المؤمنين حتى لا ينخدعوا بهذه الحياة الدنيا التي هذه حالها، فكشف عوارها وهتك أستارها وبين لخلقه أسرارها لكي لا يركنوا إليها ولا يفرحوا بملذاتها.

وهذا الجمال في التشبيه من أسرار بلاغة القرآن التي تذهل العقول وتخلب القلوب، وتكاد لحسنها تسحر الأسماع.

***

ومنه قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18]

المشبه: أعمال الكفار في عدم قبولها عند الله.

المشبه به: الرماد الذي أطارته الريح بشدة فأخذته في يوم شديد العصف ففرقته في أماكن متباعدة متفاوتة لا يمكن حصرها أو الوصول إليها.

أداة التشبيه: الكاف في قوله كرماد.

وجه الشبه: هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه وهو هنا ضياع الأعمال وعدم الاستفادة منها كما يضيع الرماد في الريح فلا يتوصل إليه ولا ينتفع به.

لقد صور التشبيه للناس مشهداً متحركاً عاصفاً يقرع القلوب المؤمنة، ويوقظ النفوس الحية، ويحرك المشاعر الكامنة في الفطر السليمة الزكية، ليقول لها: عليك بالإخلاص أولاً، عض عليه بالنواجذ فهو العروة الوثقى، وحبل الله المتين، وصراطه المستقيم.

فكل عمل −وإن بلغ من الصلاح ما بلغ− فمآله الضياع، ما لم يؤسس على قاعدة التوحيد وركنه الركين ويتزين بزي الإيمان واليقين.

***

إرسال تعليق


أحدث أقدم