أسلوب القسم فى القرآن الكريم وبلاغته




 القسم: من الأساليب البلاغية التي افتتح القرآن الكريم كثيرا من السور به، كما ورد أيضًا أقسامًا في ثنايا عدد غير قليل من آيات.
ومادة (قسم) لها معنيان: الأول (قسْم) بسكون السين ومعناها التجزئة والتفريق، والجمع: أقسام. و(قسَّم) بالتضعيف: للتكثير. 

والثاني: (قَسَم) بفتح القاف والسين، وهو بمعنى: الحلف واليمين، وجمعه أقسام. والمعنى الثاني هو المراد بالحديث عنه هنا.

والقَسَمُ في اللغة العربية: من المؤكدات المشهورة، التي تمكن الشيء في النفس وتقويه، وقد نزل القرآن الكريم للناس كافة، ووقف الناس منه مواقف متباينة، فمنهم الشاك، ومنهم المنكر، ومنهم الخصم الألد، فجاء القسم في كتاب الله، لإزالة الشكوك، وإحباط الشبهات، وإقامة الحجة، وتوكيد الأخبار، لتطمئن نفس المخاطب إلى الخبر، لا سيما في الأمور العظيمة التي أقسم عليها.

لقد أقسم الله بمخلوقاته مع نهيه عن القسم بغيره، للإشارة إلى أن هذه المخلوقات، ما هي إلا آيات يستنير بها أولوا الألباب في مناهج الاستدلال على وجود الصانع الحكيم، ولتصحيح العقائد الباطلة، فالقسم بالنجم إذا هوى وأمثال ذلك، فيه ردٌ على من اعتقدوا ألوهية الكواكب، وللفت الأنظار إلى الكون وما يحويه من حقائق وأسرار، ونظام بديع محكم، ولتقرير أن الكتاب الذي جاء به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منزل من عند الله، وأن الله تكفل بحفظه من التبديل، والتحريف، والنقص، والزيادة، وأنه كتاب هداية، ينير البصائر والأبصار، لتهتدي إلى أقوم طريق.

                       وأسلوب القسم في اللغة:

 طريق من طرق توكيد الكلام، وإبراز معانيه ومقاصده على النحو الذي يريده المتكلم؛ إذ يؤتى به لدفع إنكار المنكرين، أو إزالة شك الشاكين. والقسم من المؤكدات المشهورة التي تمكن الشيء في النفس وتقويه، ومعلوم أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، وعلى أسلوب كلامهم، ومناحي خطابهم، وكان من عادتهم أنهم إذا قصدوا توكيد الأخبار وتقريرها، جاءوا بالقسم، وعلى هذا جاءت في القرآن الكريم أقسام متنوعة، في مواضيع شتى، لتوكيد ما يحتاج إلى التوكيد.

وباستقراء البيان القرآني في استعمال القسم، يدلنا على أنه يعتبر بحال المقسم عند عقد اليمين، فيخص القسم بمن كان صادقا عند عقده لليمين، حتى ولو خالف ذلك الحق، وجانب الصدق في واقع الأمر، وإنما كان ذلك هو اعتقاده الجازم، ونظرته المخلصة في نظر نفسه، أو على الأقل إيهام المقسم له بذلك. ومن هنا يمكن أن نفهم إشارة القرآن الكريم المتكررة إلى الجهد المبذول عند عقد اليمين من قبل بعض الكفار، والمشركين، مما يوحي بصدقهم وإخلاصهم في اعتقادهم، وإن لم يكن هو الحق، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى إقسامهم بالله جهد أيمانهم ليوحي اجتهادهم غاية الجهد في هذه الأيمان بصدقهم فيها، وإن تبين فيما بعد أن الأمر بخلاف ذلك.

أركان القسم فى القرآن الكريم

للقسم أركان أربعة وهي:

·    الركن الأول:

 الْمُقْسِم، وهو إما الله، وإما العباد.

والسؤال: ما معنى القسم منه تعالى؟ لأنه إن كان لأجل المؤمن، فالمؤمن مصدق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر، فلا يفيده.

والجواب: إن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إن أرادت أن تؤكد أمرًا، كما أن الحكم يفصل باثنين: إما بالشهادة، وإما بالقسم، فإذا اجتمعت البينة وهي: الشهادة، مع اليمين، على دعوى، اكتسبت مزيد ثبوت وتقرير، فذكر الله تعالى في كتابه النوعين، حتى لا يبقى لهم حجة. فالقسم ضرب من البيان ألفه العرب، ليوثقوا به أنباءهم، وتبين أنه كثيرا ما يجيئ للاستشهاد والاستدلال على صدق المقال، فهو إذن نوع من الدليل الواقعي المحسوس، الذي يستميل المشاعر والوجدان، ويثير الانتباه والتفكير.

الركن الثاني:

 المقْسَم به، ولمجيئه في القرآن الكريم أغراض:

الأول: أنه قد يكون شيئًا علويًّا بعيدًا عنا يثير الرهبة والعظمة والجلال، ويدعونا ذكره والقسم به، إلى أن يثير لدينا الفضول العلمي، وحُب الاستطلاع، فأخذ في توجيه أنظارنا إليه بالبحث والدرس والتحليل، ومحاولة تسخيره لمنافعنا، وذلك كالسماء، وما فيها من شمس، وقمر، ونجوم، ومظاهر كونية كثيرة، فالقسم بهذه الكائنات العلوية، يدفع الناس إلى البحث والتنقيب، ونصوص القرآن الدالة على النظر والبحث كثيرة، ومنه قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101].

الثاني: إن المقسم به قد يكون شيئا أرضيا مما يحيط بالإنسان ويتعايش به ومعه، ويقسم الله تعالى به لما فيه من منافع وفوائد، كالتين، والزيتون، والبحر المسجور، والأرض وما طحاها.

الثالث:

 أن يكون المقسم به شيئا ذاتيا للإنسان، وذلك كالنفس البشرية التي أقسم الله تعالى بها في قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8]. وقوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، ولا شك أن القسم بهذه الأشياء يفتح للباحثين مجالا كبيرا في المباحث الفكرية، والنفسية، والاجتماعية.

·       الركن الثالث:

جواب القسم أو المقسم عليه:

الغالب في المقسم عليه أن يكون في الكلام، لأنه المقصود بالتحقيق، وقد يحذف كما يحذف جواب (لو)، إما: للعلم به، أو لتذهب النفس فيه كل مذهب. كما في مثل قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5]، فجواب لو محذوف، تقديره: لو تعلمون علم اليقين عاقبة التفاخر ما اشتغلتم به. وهذه عادة العرب في كلامهم إذا رأوا أموراً عجيبةً، وأرادوا أن يخبروا بها الغائب عنها.

·       الركن الرابع:

 أدوات القسم:

للقسم أدوات منها: (الباء، والواو، والتاء، واللام، ومن)، والأدوات التي وردت للقسم في القرآن الكريم هي الحروف الثلاثة الأولى، إذ لم ترد (اللام)، أو (من)، للقسم في القرآن الكريم.

أولها: الباء: وهي الأصل في أدوات القسم، وهي حرف جر يأتي لأربعة عشر معنى كما ذكر ابن هشام في مغني اللبيب.

ثانيها: الواو: وتأتي لعدة معان أخرى غير القسم.

ثالثها: التاء، وهي تختص بلفظ الجلالة، وذلك لكثرة الحلف به، مثل قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57].

***

وقد ورد المقسم به مسبوقا بأداة النفي (لا) في ثمانية مواضع من القرآن الكريم، وهي:

أ - مقسم به تقدمته أداة النفي مقترنة بالفاء، وذلك في ستة مواضع من القرآن الكريم، وكلها في ثنايا السور وهي:

القسم فى القرآن الكريم

1-            قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].

2-            قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38، 39].

3-            قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40].

4-            قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75].

5-            قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15، 16].

6-            قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16].

ب – مقسم به مسبوق بأداة النفي غير مقترنة بالفاء، وذلك في موضعين:

1-            قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1، 2].

2-            قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1].

وقد تناول المفسرون هذا النوع من المقسم به بالحديث، ويمكن أن نجمل حديثهم عنه فيما يلي:

·       الرأي الأول: أن (لا) للنفي، وهذا الأسلوب يتضمن التعظيم.

-      أن (لا) لنفي القسم، فكأن الله تعالى يريد أن يقول: لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب، فهو أعظم وأجل من أن يقسم عليه بهذه الأشياء. وقد يكون الغرض من هذا الكلام تعظيم المقسم عليه، وتفخيم شأنه.

-      أن (لا) هذه إذا وقعت خلال الكلام، فهي صلة تزاد لتوكيد القسم، لتأكيد وجوب العلم. وإذا وقعت ابتداء كما في سورة القيامة، وسورة البلد، فهي للنفي، لأن الصلة لا تكون في أول الكلام. ووجهه: أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به، فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية. والمراد: أنه لا يعظم بالقسم؛ لأنه في نفسه عظيم، أقسم به أولا، ويترقى من هذا التعظيم إلى تأكيد المقسم عليه، إذ المبالغة في تعظيم المقسم به، تتضمن المبالغة في تعظيم المقسم عليه.

-      أن (لا) لنفي ما ينبئ عنه القسم من إعظام المقسم به وتفخيمه، فإن معنى لا أقسم بكذا: لا أعظمه بإقسامي حق إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من ذلك.

***

·       الرأي الثاني: أن صيغة (لا أقسم) عبارة من عبارات القسم، واختلفوا في توجيهها على أقوال:

أولا: أن (لا) صلة، أي: زائدة، والمعنى: أقسم، وقيل بأن فائدتها توكيد القسم، وهذا القول غير سديد ومردود عليه بأن ليست زائدة لتأكيد القسم، لأن ما يراد توكيده ينبغي أن يكون متأخرا عما هو مؤكد له، فليس من المقبول أن نجعل (لا) مزيدة لتأكيد معنى القسم الوارد بعدها، كما أن زيادة الحرف يدل على إطراحه، وكونه في أول الكلام يدل على قوة العناية به. وقيل: إن (لا) زيدت توطئة وتمهيدا لنفي الجواب، وهو أيضًا مردود بمثل قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، فإن جوابه هو قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77، 78]، وهو مثبت غير منفي.

***

ثانيًا: إن (لا) نافية لكلام سابق ثم استأنف القسم، فقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1]. فـ (لا) نافية لكلام المشركين المنكرين للبعث، أي: ليس الأمر كما زعموا، ثم ابتدأ: أقسم بيوم القيامة.

وهذا القول أيضًا ضعيف من وجوه:

-      أن هذا الكلام المحذوف الذي قدروه لا دليل عليه.

-      قولهم هذا يتنافى مع ما قرره النحويون من أن اسم -لا - وخبرها لا يجوز حذفهما إلا إذا كانا في جواب سؤال، كما تقول: هل من رجل في الدار، فيكون الجواب: لا، أي: لا رجل في الدار.

-      قرر علماء المعاني في مثل هذا الموضع تعيين العطف بالواو حتى لا يحصل اللبس، كما يقال: هل شفي فلان من مرضه؟ فيقال: لا، وشفاه الله. ولا يصح أن نقول: لا شفاه الله حتى لا يتوهم أنه دعاء عليه لا له، فلو كان الأمر كما يقولون، لقال سبحانه: لا وأقسم بيوم القيامة.

-      لو كان الأمر كما يقولون من أن (لا) جاءت لنفي كلام سابق، لم يكن ثمة داع لإعادة حرف النفي مرة أخرى، في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2].

ثالثًا: إن أصل (لا أقسم): لأقسم: أشبعت فتحة اللام فظهرت الألف، وهو أيضا رأي ضعيف ومردود عليه.

***

ومن خلال العرض الموجز للأقوال الثلاثة السابقة نصل إلى:

·       ليست اللام لام ابتداء، أشبعت فتحتها فتولدت عنها ألف، وليست زائدة كذلك.

·       أن القسم المسبوق بالنفي، هو عبارة من عبارات القسم، وليست (لا) أداة نفي نافية للقسم كما ادعى البعض، إذ أنه مردود بتعيين المقسم به، كما في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76]، فقد صرح بالقسم هنا، وليس بعد بيان الله بيان.

·       تأكيد الأمر عن طريق النفي مألوف في لغة العرب، فإنك إذا قلت لصاحبك: (لا أوصيك بفلان)، فإنما تريد تأكيد التوصية به، وتبالغ في الاهتمام به. فتبلغ بالنفي ما لا تبلغه بالأسلوب الصريح المباشر، وكذلك نفي القسم، استعمل في القسم من طريق آكد وأبلغ.

***

والأقسام التي جاء بها  القسم فى القرآن الكريم  على ضربين

الضرب الأول: ما ورد على طريق الحكاية، في ضمن ما قصه القرآن من قصص المخلوقين، كقوله تعالى حكاية لقول إبراهيم – عليه السلام – لقومه: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57]، وهذا الضرب من القسم كثير في القرآن.

الضرب الثاني: ما أقسم الله تعالى به، وهذا على نوعين:

النوع الأول: القسم المضمر، وهو القسم المحذوف، المدلول عليه بجوابه المقرون باللام،
كقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186]، والتقدير: والله لتبلون ولتسمعن، بدلالة الجواب المقرون باللام.

أو المدلول عليه بالمعنى والسياق، كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، أي: والله ما من كافر إلا وارد النار، بدلالة المعنى والسياق، لأن هذه الآية جاءت بعد آيات مؤكدات بالقسم الملفوظ، وهو قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم: 68 - 70]، فدل القسم الملفوظ على القسم الملحوظ، وهذا النوع من القسم كثير في القرآن كذلك.

·       النوع الثاني

: القسم الظاهر، وهو الملفوظ:

ومنه جاء إقسامه سبحانه تعالى بذاته وصفاته، وقد جاء في خمسة مواطن من القرآن الكريم:

الأول: قوله تعالى في سياق الكلام على المنافقين {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

الثاني: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93].

الثالث: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68].

الرابع: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23].

الخامس: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج: 40، 41]

***

ومنه إقسامه تعالى بمخلوقاته، وهو كثير في القرآن الكريم.

فيُقْسِم على أن الله واحد كما قال تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات: 1 - 4]. وعلى أن القرآن حق، كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 75، 77]. وعلى أن الرسول حق، كقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1 - 3]. وعلى الجزاء، كقوله تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 1 - 8]. وعلى حال الإنسان، كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 1 - 4].

***

وقد أثار كون القسم من الله عز وجل بذاته وصفاته وبمخلوقاته بعض الشبهات التالية:

أولا: أن الجري على عادة الحلف عندنا غير محمود شرعا، فالذي يلجأ للقسم مُتَّهم في صدقه، مفتقر إلى تأييد دعواه، فلماذا أكثر الله من الأقسام في القرآن؟

ثانيًا: نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الحلف بغير الله، ثم إن الحلف بغير الله يقتضي تعظيمه، والعظمة لله وحده، واجتناب الحلف مطلوب شرعا، فكيف يحلف الله بمخلوقاته، كالتين والزيتون؟

ثالثًا: القسم القرآني وقع على أمور مهمة جدا، هي أصول الإيمان، فما المقصود به؟ فإن كان المقصود تحقيق المحلوف عليه وإثباته في ذهن المؤمن، فالمؤمن مُصَدِّق لا يحتاج إلى يمين، وإن كان المقصود به تحقيقه وإثباته في ذهن الكافر، فالكافر لا يصدق باليمين، ولا يقنعه إلا الدليل الساطع، والبرهان القاطع.

ولعل السبب في تسرب هذه الشبهات إلى الأذهان، ظنها أن الغرض من القسم تقديس المقسم به، أو تشريفه وتعظيمه، وساعد على ذلك، أن معظم ما أقسم الله به من مخلوقاته شريف في ذاته، كالقرآن، والشمس، والقمر، ولكن القسم في اللغة قد يكون بالخسيس كذلك، ليؤدي غرضًا مقصودًا، فجيء القسم بالمخلوقات في القرآن الكريم لا لتقديسها وتشريفها كما ذهب إليه البعض، ولكن جيء بها ليؤدي به غرضاً جليلا لا يؤديه غيره.

والقرآن نزل بلغة العرب، ومن عاداتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرا، وكثيرا ما يحتاج المتكلم إلى تأكيد خبر يسوقه، أو توثيق وعد يصدر منه، وبخاصة في الأمور المهمة كالمحالفات، والمعاهدات، وكان للتأكيد عند العرب صيغ مختلفة، وكان القسم أقواها تأكيدا وتحقيقا، لأنه يفيد الجزم بصحته، والقطع بصدقه، وقد بلغ من شأن القسم عندهم، أنهم كانوا يحترزون كل الاحتراز من الأيمان الكاذبة، ويعتقدون أنها شؤم على صاحبها، تخرب الديار، وتدعها بلاقع، لما فيها من الغدر والخيانة، ومن أجل هذا كانت اليمين عندهم قاطعة في إثبات الحقوق .
فالغرض الأصلي من القسم تأكيد المقسم عليه، أما تقديس المقسم به، أو تشريفه، فغير مقصود أصالة، وإن أتى تبعا.

فالتقديس والتشريف لا يلازمان المقسم به، بل قد يكون حقيرا، أو بغيضا ثقيلا، وقد يكون القسم للتذكير بالمقسم به، والتنبيه إليه، وقد يكون للاستدلال بالمقسم به على المقسم عليه، أو لتشبيه المقسم عليه بالمقسم به.

ويمكننا أن نجمل أغراض القسم في القرآن الكريم فيما يلي:

-      تأكيد الخبر وتقريره، وتلك عادة العرب الذين كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، لأن (القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده)، وهذا الغرض يظهر لنا إذا علمنا أن المقسم عليه كثيرا ما يكون من الأمور الخفية الغائبة، فيقسم عليها لإثباتها، مثل قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 1 - 4]، فالقسم في كلام الله يزيل الشكوك، ويحبط الشبهات، ويقيم الحجة، ويؤكد الأخبار، ويقرر الحكم في أكمل صورة.

-      لفت الأنظار إلى الكون وما يحويه من أسرار عجيبة، وما فيه من نظام بديع محكم، ، إذ كل يجري إلى أجل مسمى، وكل في فلك يسبحون، فجاء القسم في القرآن الكريم على هذه الأمور لأجل ذلك.

-      إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ العرب كانت تعتقد أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع، وأنها تضر صاحبها.

-      إبراز المعقول في صورة المحسوس، وذلك أن الأمر المعقول إذا صور في شيء حسي، فإن العقل يستوعبه، أكثر ما لو كان مجردا عن الحس، ومثله تشبيه الوحي بالضحى في رابعة النهار، وتشبيه الباطل بالليل، وانتصار الحق بالنهار، إشارة إلى أن الليل البهيم، لابد وأن يعقبه صبح مشرق بهيج، يبدد ظلامه وظلماته، وكذلك ظلام الشرك والجهل، لابد وأن يعقبه نور الحق واليقين.

-      تصحيح العقائد الباطلة، فالقسم بالنجم إذا هوى، وبالكواكب، وبالشمس، والقمر، فيه رد على من اعتقد أنها آلهة، وأن لها تصرفا في العالم السفلي.

-      لفت الأنظار إلى أحدات بارزة، كان لها أكبر الأثر في تاريخ البشر، وذلك الغرض يظهر في القسم بالأمكنة مثل (الطور)، فالقسم به فيه إشارة إلى ما كان عند ذلك الجبل من الآيات التي ظهرت لموسى عليه السلام-، والقسم بالبلد الأمين {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3] فيه إشارة إلى حادثة ظهور النور المحمدي من هذا البلد الأمين، ذلك النور الذي بدد ظلمات الجهل والضلال، ثم شع في آفاق الدنيا وملأ جنباتها، إلى آخر ما هنالك من أهداف وأغراض.

***

ويمكن إجمال الأمور المقسم عليها في القرآن الكريم في أصول أربعة، هي أسس الإيمان، وهي:

الأول: تثبيت أساس التوحيد، ومنه قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات: 1 - 4]، وأكثر المفسرين على أن المراد بالصافات، والزاجرات، والتاليات، جماعة من الملائكة، موصوفة بهذه الصفات.

الثاني: تقرير أمر النبوة، والإشادة بصدق الكتاب الحكيم، ومنه قوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1 - 3]. أقسم جل شأنه بالقرآن الحكيم، المعجز في نظمه، وبديع معانيه، المتقن في تشريعه وأحكامه، الذي بلغ أعلى طبقات البلاغة، على أن محمدا –صلى الله عليه وسلم- رسول من المرسلين، والتأكيد بالقسم لشدة إنكارهم لرسالته.

الثالث: إثبات الحياة الأخرى، وما يتصل بها من حساب، فثواب أو عقاب، ومنه قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 1 - 6]، أقسم الله –جل شأنه- بأمور أربعة على أن ما توعد به من البعث، وأمر الساعة حق، وعلى أن الدين وهو الجزاء، من ثواب أو عقاب، واقع لا محالة، فهو قسم على البعث، وعلى الجزاء.

الرابع: توضيح المهم من أحوال الإنسان وتصرفاته المختلفة في هذه الحياة، ومنه قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 1 - 4]، والمقسم عليه في هذه السورة يتكون من أمور ثلاثة:

أ‌)       دليل من أدلة القدرة الإلهية على البعث، والجزاء، وهو قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].

ب‌) وعيد صارم شديد، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5]، وأسفل سافلين: النار على الصحيح، أو هو سجين موضع الفجار، كما أن عليين موضع الأبرار، ورددناه: معناه ونرده، فعبر بالماضي موضع المضارع المستقبل، إيذانا بأن الرد أسفل سافلين واقع لا محالة، وتشبيها للمستقبل المحقق وقوعه، بالماضي الواقع فعلا.

ت‌) وعد حسن، وهو قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6]، أي: مقطوع. والقسم في هذه السورة أكثر انصبابا على الوعد والوعيد.

***

بلاغة القسم القرآني:

-      يمتاز أسلوب القسم بإيجازه، ولهذا يهجم على السامع، فيمتلك مشاعره، ولعل العرب أكثروا منه، وأفتتنوا فيه لوجازته، وهم إلى الإيجاز أميل في شعرهم ونثرهم، ومن هنا راجت الأمثال بينهم وشاعت، وذاعت الحكم والتوقيعات فيما بعد العصر الجاهلي، وتسابقوا إلى تجديدها، والاحتفاظ بها.

-      القسم ضرب من الأسلوب الإنشائي، لا مناص للخصم من الإقرار به، ولا وجه له في إنكاره، فإن شاء أن ينكر، انصب إنكاره على جواب القسم، لا على القسم نفسه، لأن الجواب خبر لا إنشاء.

-      قد يحذف جواب القسم في القرآن، وهو المقسم عليه، فينتقل بعد القسم إلى كلام آخر، لكنه مرتبط بالجواب المحذوف. والسر في هذا أنه يسد على المخاطب المنكر طريق الفرار، فلا ينتقل من القسم وهو إنشاء، إلى الجواب وهو خبر، لئلا يجاري المنكر في الجواب، ثم ليكون القسم كالتمهيد والتنبيه، فيسترعي سمع المخاطب، فيرهف أذنيه ليستمع ما بعد القسم، فإذا به يسمع ما يؤيد الاستدلال المقصود من القسم نفسه.

-      إن من مزايا القسم أنه يسهل الجمع بين عدة أدلة في جملة واحدة، أو في جمل متلاحقة، كما في سور: التين، والبلد، والطور، والشمس، والليل، والفجر، مع الإيجاز، ولو أن الأدلة فصلت وبسط فيها القول، لفقد الكلام روعته وتأثيره.

-      يشرك القسم الاستدلالي السامع في استنباط الدليل، ويخفف من عناده وخصامه، فيشعر أنه تعرف وتأمل، ولهذا كانت الأساليب الإنشائية كلها أكثر اجتذابا من الأساليب الخبرية.

-      من ضروب بلاغة القسم أنه تقديم لتوثيق الصدق قبل ذكر الدعوى، لأنه يقرع أذني المخاطب، فيصغي ويترقب ما بعده، ثم تجيء الدعوى فيسهل قياده لها، ولكنه إذا فوجئ بالدعوى التي ينكرها، انصرف عنها ونفر منها، وشتان ما بين قولك: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون. أقسم بالقلم وما يسطرون)، وقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1، 2].

***

المصدر:                                                                        

أصل هذا المقال من بحث بعنوان: أسلوب القسم الظاهر في القرآن الكريم بلاغته … وأغراضه ، د. سامي عطا حسن، جامعة آل البيت – المفرق المملكة الأردنية الهاشمية. تم اختصاره وتهذيبه وتبويبه وتنسقيه وضبط آياته وترتيبه.
تعليقات