التشبيه المجمل فى القرآن الكريم


                       التشبيه المجمل فى القرآن الكريم 

تعريف التشبيه المجمل: هو التشبيه الذي حذف منه وجه الشبه فلم يُحدَّد فيه جهة الاشتراك بين الطرفين فيأتي الكلام مجملا، وهو عكس المفصل.

ومثاله كقول الشاعر:

إِنَّما الدُّنْيَا كَبَيْتٍ          نَسَجَته الْعَنْكَبُوت

المشبه: الدُّنيا، والمشبه به: بيت نسجته العنكبوت، وأداة التَّشبيه: حرف الكاف. ووجه الشَّبه: محذوف.

وقد شبّهت الجُملة الدُّنيا ببيت العنكبوت؛ وذلك للدّلالة على ضَعْفِ الدُّنيا وعدم قوّتها، وكذلك هو بيت العنكبوت ضعيفٌ واهنٌ، هبّة ريحٍ واحدةٍ تُهدمه، هذا هو وجه الشَّبه بين الدُّنيا وبيت العنكبوت، وهو ما لم يُذكَر في العبارة، ولكن تمّ استنتاجه من خلال سِياق الجُملة. وضعف بيت العنكبوت مذكور في قوله تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41].

***

ويعتمد التشبيه المجمل في حذف الوجه على العُرف الذي يلمح المقصود من التشبيه دون عُسْرٍ، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58]. فإن ترك الوجه وعدم تحديده يُدْخِله في باب الإجمال حتى يصير محتملا لأن يكون صفة واحدة أو أكثر من صفة بحسب الغاية من التشبيه، فوجه الشبه: إما أن يكون في صفائهما، أو في حسن بياض اللؤلؤ وحمرة الياقوت.

فترك الوجه وعدم تعيينه في قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]. يوسع باب الاحتمال حتى يمكن أن يدخل في الوجه كل صفة للباس تنسحب على العلاقة الزوجية كالستر والصون والحماية والاشتمال والملاصقة والزينة... وغير ذلك.

واختار القرآن كلمة «لباس»، في هذه الآية توحي تلك الكلمة بشدة الاحتياج، كاحتياج المرء للباس، حيث يكون مصدر راحة، وعنوان زينة معا.

وقوله تعالى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]. لم ينص فيه على وجه الشبه لتتعدد الصفات المحتملة والمرتبطة بجذوع النخل الخاوية لتنسحب على الصرعى من قوم عاد كالخفة والحقارة والتكور والاستدارة مع دفع الرياح حتى تلتقي الأرجل مع الرؤوس، ويحتمل مع هذا انتزاع الحياة، فأعجاز النخل الخاوية قد انتزعت منها الحياة عندما انفصلت عن نخيلها ومكانها، كذلك هؤلاء الصرعى قد انتزعت منهم الحياة {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8].

وقد ذكر البلاغيون أن الوجه قد يكون ظاهرًا مُتَعارفًا عليه، نحو: (محمد أسد)، وقد يدق ويلطف حتى يحتاج استنباطه إلى تأمل، كقول فاطمة بنت خُرْشُب الأنماريَّة، وقد سُئلت عن بنيها أيُّهم أفضل؟ فقالت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفاها؟ فوصفت الحلقة بكونها مفرغة فيه إشارة إلى استوائها وصعوبة تحديد طرفيها.

فالوجه المقصود هنا: هو التناسب المانع من وجود التفاوت، وهذا وجه عام يتحقق في المشبه به تحققًا حسيًّا؛ لأن الدائرة مستوية لا يمكن تحديد طرفيها، ويتحقق هذا الوجه في المشبه تحققًا معنويًّا؛ لأن الأبناء يتشاكلون ويلتقون في الشرف.

ولعل ما ذكروه من الدقة واللطف يرجع إلى أن الوجه لا يتحقق في المشبه كما يتحقق في المشبه به؛ لأن وجوده في المشبه معنوي، وفي المشبه به حسي. ولذلك يقول ابن يعقوب المغربي عن هذا التشبيه: "ولا يخفى على ذوق سليم أن الانتقال من تناسبهم في الشرف إلى تناسب أجزاء الحلقة غاية في الدقة، فالوجه بين الطرفين لا يدركه إلا الخواص".

***

من الشواهد القرآنية على التشبيه المجمل

ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50].

المشبه: حصول ما أمر الله تعالى به وأراد تكوينه. والمشبه به: لمح البصر. وأداة التشبيه: الكاف. ووجه الشبه: اليسر والسرعة.

يخبر سبحانه وتعالى مبينًا عظيم قدرته، ونفوذ مشيئته وإرادته، أن أمره إذا أراد تكوين شيء، فإنه إنما يأمر به مرة واحدة، لا يحتاج إلى تأكيد فيكون حصوله وتحققه على مراد الله كلمح البصر.

والواحدة وصف لموصوف محذوف دل عليه الكلام، تقديره :(إلا كلمة واحدة)، أو (قولة واحدة)، وهي كلمة (كن).

والمقصود بقوله: (كلمح بالبصر) النظر بالعين؛ لأن النظر بالعين أسرع حركة في الإنسان، فيكون المراد تفهيم الناس بأعجل شيء يحسونه.

والمشبه في الآية ليس أمر الله تعالى، وإنما هو تحقق ما أمر به، وحصول ما أراده الله تعالى على الصفة التي أرادها، وفي الوقت الذي أراده سبحانه.

والتشبيه بلمح البصر في تقريب الزمان أسرع وأبلغ ما جاء في كلام العرب.

والغرض من التشبيه بلمح البصر في السرعة تقريبه إلى الأذهان، وإلا فإن أمر الله تعالى أسرع من ذلك.

ويجوز أن يكون وجه الشبه: اليسر وعدم الكلفة، فلما كانت حركة العين أخف الحركات، وأيسرها على الإنسان، فكذلك أمر الله تعالى في اليسر والسهولة، لا يصعب عليه شيء، ولا يمانع إرادته مانع.

والوجهان متفقان ليس بينهما اختلاف، بل هما مرتبطان؛ إذ لا يمكن أن يكون تحقيق الأمر على هذه السرعة إلا إذا لم يكن فيه كلفة ولا مشقة. سوفي هذا دلالة واضحة على عظمة الله تعالى وعظيم قدرته سبحانه.

فالتشبيه الوارد في الآية مرسل لأنه ذكرت أداته وهي الكاف، مجمل لم يذكر وجه الشبه فيه.

***


ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18].

المشبه: حلف المنافقين لله يوم القيامة. والمشبه به: حلف المنافقين للمؤمنين في الدنيا. وأداة التشبيه: الكاف. ووجه الشبه: مضمون الحلف الكاذب بأنهم كانوا مؤمنين.

يخبر جل وعلا عن المنافقين أم يبعثهم الله يوم القيامة، فيحلفون لله تعالى ويقسمون له بأنهم كانوا في الدنيا مؤمنين، ولم يكونوا مشركين.

ثم أخبر سبحانه عنهم بأنهم يحسبون أن هذا الحلف لله تعالى الذي لا تخفى عليه خافيه، وهو يعلم سرائرهم وبواطنهم، يحسبون أن ذلك الحلف نافع لهم ومنج لهم من العذاب.

والمشابهة فيه في كونه كذبًا وهم يعلمون، وفي الإقسام على أنهم مؤمنين غير مشركين، وفي حسبان أن ذلك نافعا لهم.

وفيه دلالة على توغلهم في النفاق والكذب ومرونهم عليهما، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل.

فهذا تشبيه مرسل مجمل؛ ذكرت أداته ولم يذكر وجهه.

***

ومنه قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ* فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر: 15، 16].

في هاتين الآيتين تشبيهان:

التشبيه الأول: المشبه: بنو النضير من اليهود. والمشبه به: بنو قينقاع لقرب زمن جلائهم من زمن جلاء بني النضير. وأداة التشبيه: الكاف. ووجه الشبه: التشابه في الدين والمسكن، والعقوبة، مع اتحاد سببها.

التشبيه الثاني: المشبه: المنافقون في إغوائهم لبني النضير، ووعدهم لهم بالنصرة. والمشبه به: الشيطان في إغوائه لبني آدم إن اتبعه وكفر بالله، ووعده له بالنصرة وقت الحاجة. وأداة التشبيه: الكاف. ووجه الشبه: الإغواء ثم الخذلان والتبرؤ وقت الحاجة.

يقول سبحانه وتعالى: إن مثل يهود بني النظير في عصيانهم ونزول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم في الزمن القريب.

واختلف في المراد بالذين من قبلهم: قيل مشركي قريش يوم بدر، فقيل هم بنو قينقاع وهذا القول أشبه بالصواب فيهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا.

ثم ضرب الله تعالى مثلا آخر لِمُمَثَّل آخر، وهو: خُذلان المنافقين لبني النضير حين زينوا لهم عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقض عهده، وحربه، ووعدوهم بالنصر والوقوف معهم، فلما وقعت الحرب خذلوهم، وتخلوا عنهم، بمثل الشيطان حين يغوي الإنسان، ويُزَيّن له الكفر بالله تعالى، فلما كفر هذا الإنسان، واستمر على كفره حتى مات، ووافى يوم القيامة العذاب، قال له الشيطان الذي كان يرجو أن ينصره: إني بريء منك، فخذله وتخلى عنه.

وإنما قيل إن هذا الجواب من الشيطان يكون يوم القيامة، لأنه لا يتكلم مع الناس في الدنيا. وصدق الشيطان في براءته من الإنسان، ولكنه كذب في خوفه من الله تعالى.

فكان عاقبة الشيطان، والإنسان الذي أطاعه، النار، خالدين فيها أبداء جزاء كفرهما بالله تعالى، وهذا الجزاء جزاء لجميع الظالمين الكافرين بالله تعالى.

فالتشبيه الأول: تشبيه مرسل مجمل؛ حيث ذكرت أداته ولم يذكر ووجهه؛ والمشابهة بينهما من جهات متعددة، فالمشابهة بين بني قينقاع وبني النضير كانت من جهات متعددة، فهم جميعا يهود، وساكنون بالمدينة، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق وحلف، واشتركوا في نقض العهد، ثم تحصنوا في حصونهم أثناء الحصار، ثم نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استووا في العقوبة التي عاقبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي الجلاء، وقد كان جلاء بني قينقاع بعد غزوة بدر في ذي القعدة من السنة الثانية من الهجرة، وجلاء بني النضير كان في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة.

وفي جعل عقوبة بني قينقاع مشبها به، دليل على بلوغهم الغاية في الشر والكفر حيث صاروا أصلا يشبه به.

والتشبيه يتضمن التعيير ببني النضير؛ حيث لم يتعظوا بمن نزلت بهم عقوبة الله تعالى، وقد كانوا في زمن قريب من زمنهم.

وأما التشبيه الثاني: فهو مرسل مجمل ذكرت أداته ولم يذكر وجهه. ووجه الشبه فيه مركب من إغواء المنافقين لبني النضير، ووعدهم بالنصرة، ثم خذلانهم وقت الجد والحرب، كما يغوي الشيطان الإنسان ويعده ويمنيه ثم يخذله بعد ذلك، ثم تؤول العاقبة إلى الخسارة وعدم الظفر بالمطلوب.

فقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر: 17]. داخل في التشبيه، لأن عاقبة كل من الفريقين الخسارة والهلاك وعدم الانتفاع من الموعود بشيء.

***

ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20]

المشبه: جنة أصحاب الجنة. والمشبه به: الصريم. وأداة التشبيه: الكاف. ووجه الشبه: الهلاك والفناء.

يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن أناس كانت لهم جنة وبستان، فلما جاء وقت الحصاد والصرام، أجمعوا على أن يمنعوا المساكين من دخولها، وعلى منع حق الله فيها، فأنزل الله عقوبته على هذه الجنة في وقت غفلة أصحابها، فأصبحت كالصريم، واختلف في معنى الصريم فقيل: هو الرماد الأسود، وقيل هو الليل المظلم، وقيل: الصبح أو النهار، وقيل: الصريم بمعنى المصروم أي المقطوع، وقيل: هي رملة باليمن لا تُنبت شيئًا سُميت بالصريم، وكل معنى من هذه المعاني سيختلف معه بيان وجه الشبه كما سيأتي.

فالتشبيه في هذه الآية مرسل مجمل؛ ذكرت أداته ولم يصرح بوجهه ليعم كل وجه يصلح للمشابهة بين الطرفين في إرادة الهلاك والفناء.

فعلى القول بأن الصريم هو الليل المظلم، أو الرماد الأسود، يكون المعنى: بأن جنة أولئك قد احترقت واسودت، حتى صارت سوداء كالليل المظلم وكالرماد، ويجوز أن تشبه بالرماد الأسود في خفته وتطايره مع الريح وتفرق أجزائه كنتيجة حتمية للاحتراق، فكل شيء احترق احتراقا تامًّا يكون هذا مصيره، ويجوز أن تُشَبَّه به في عدم الفائدة منه والانتفاع به، لأن الرماد لا ينتفع به.

وعلى القول بأنه الصبح أو النهار، فالمعنى أن هذه الجنة قد ذهبت خضرتها ويبست وابيضت حتى صارت بيضاء كالنهار، أو أنها ابيضت وفرغت ولم يعد فيها شيء، من قولهم بيضت الإناء إذا أفرغته.

وعلى القول بأنها أصبحت كالمصرومة لهلاك الثمر، فهذه مشابهة مقيدة، إذ إن الجنة بعد طواف طائف العذاب عليها، هلكت وذهب ثمرها فأشبهت المصرومة في ذهاب الثمر، وليس في كل وجه، لأن الأشجار التي يقع عليها الهلاك لا تشبه الأشجار التي صرم ثمرها إلا من هذه الجهة.

وأما على القول بأنها أصبحت كأرض اليمن المسماة بالصريم أو الضروان، أو الرملة المعروفة باليمن أو القطعة من الرمل، فالجامع بينهما على هذا المعنى عدم الانتفاع منها بعد الهلاك حيث لا ثمر فيها ولا خير، كما أن هذه الرمال لا تنبت شيئا ولا ينتفع منها بشيء

تعليقات