التشبيه الْمُفَصَّل في القرآن الكريم

 التشبيه الْمُفَصَّل  في القرآن الكريم

وجه الشبه: هو المعنى الذي يشترك فيه الطرفان (المشبه والمشبه به) تحقيقًا أو تخييلا؛ لأن هذا المعنى (الوصف) غالبًا ما يكون من الصفات الواضحة في المشبه به، كوصف الجرأة في تشبيه الشجاع بالأسد، وهو متحقق بذات الطرفين.

وفي قول الشاعر:

وكَأَنَّ النُّجُومَ بَيْنَ دُجَاه            سُنَنٌ لَاحَ بَيْنَهُنَّ ابْتِدَاع

فإن الوجه موجود تحقيقًا في المشبه وليس كذلك في المشبه به وإنما وجوده متخيَّل؛ لأن السنن والبدع من الأمور المعقولة التي لا تتصف بصفة المحسوسات، والشاعر هنا شبه النجوم في السماء وقد تخللتها قطع مظلمة من سواد الليل، شبه ذلك بالسنن الواضحة التي اختلط بها ألوان من البدع التي ليست من الإسلام.

ووجه الشبه في البيت: هو الصورة الحاصلة من وجود أشياء مضيئة في جوانب شيء مُظْلِم، وإنما ساغ للشاعر أن يشبه السنن بالبياض، والبدع بالظلام، لما شاع وعرف من وصف السنة بالبياض والكفر بالظلمة، ومن ثم تخيل أن للسنن وكل ما هو شرع إشراق وضياء وأن لكل ما هو بدعة ظُلمة. ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].

***

وينقسم التشبيه باعتبار وجه الشبه إلى تشبيه مُفَصَل (وهو الذي ذُكِر فيه وجه الشبيه)، وتشبيه مجمل (وهو ما لم يُذكر فيه وجه الشبيه).

أولا: التشبيه الْمُفَصَّل: وهو ما صُرِّح فيه بذكر وجه الشبه على طريقته.

وطرق ذكر وجه الشبه:

أن يذكر الوجه مجرورًا بـ(في) أو منصوبًا على التمييز على معنى (في) كما تقول: "طبع فؤاد كالنسيم رقة" أو "في رقته"، و"يده كالبحر سخاء أو في سخائه"، و"كلامه كالدر حسنًا أو في حُسْنِه"، و"قوامه كالسَّيْفِ استقامة أو في استقامته"، و"يده كالسحاب في الفيض، أو فيضا"، وكقول الشاعر:

يَا شَبِيهَ الْبَدْرِ حُسْنًا               وَضِياءً وَمَنَالا

وشَبِيهَ الْغُصْنِ لِينًا                 وقوامًا واعتدالا

أنت مثل الورد لونًا               ونسيمًا وملالا

عقب الشاعر بوجه الشبه فور كل تشبيه، فالمحبوبة تشبه البدر في الحسن والضياء، وتشبه الورد في اللون والنسيم في البيت الثالث، فقد فصل في كل تشبيه بالمشابهة ووجهها.

***

ومما يُعدُّ من التشبيه المفصل: ما ذُكر فيه ما يستتبع وجه الشبه، فيوضع في مكان وجه الشبه أمر يستلزم ذلك الأمر وجه الشبه.

وكيفية ذكره في مكانه: أن يؤتى به على طريقته من إدخال (في) عليه ليخرج بذكر ذكر الوصف الْمُشعر بالوجه لأحد الطرفين أو لكليهما.

ومثال ذلك قولهم في وصف الألفاظ الفصيحة التي لا تبعد دلالتها على معانيها هي كالعسل في الحلاوة، وكالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرقة، فإن المذكور هنا من الأمور الثلاثة ليس وجه الشبه بذاته، ولكنه وصف يستلزم وجه الشبه، ففي الحلاوة، المراد: لازم الحلاوة وهو ميل الطبع واستحسانه للكلام، وليس للحلاوة نفسها؛ لأن الكلام ليس فيه حلاوة على الحقيقة، كما أن المراد في السلاسة والرقة لازمهما، وهو إفادة النفس نشاطًا ورَوْحًا.

***

ومن أمثلة مجيء وجه الشبه تمييزًا منصوبًا ما ورد في الحديث الشريف أنه: (أُتِيَ بأَبِي قُحَافَةَ – وهو والد سيدنا أبو بكر رضي الله عنه- يَومَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: غَيِّرُوا هذا بشيءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ).

والثَّغَامَةُ: نبت أبيض الزَّهْر، وثمره يُشَبَّهُ به الشَّيب. فكلمة (بياضًا) هو وجه الشبه، ووقع في الجملة تمييزًا.

***

الشواهد القرآنية التي جاء فيها التشبيه المفصل

 أتى التشبيه المفصل في القرآن الكريم على نوعين:

الأول: التشبيه الْمُرْسَل الْمُفصَّل

وهو الذي ذكرت فيه أداة التشبيه، وذُكر فيه وجه الشبه، ولم يأت وجه الشبه في القرآن الكريم على طريقة الجار والمجرور أو التمييز، وإنما أتى بصورة أخرى، وهي مجيئه على هيئة الجملة الحالية وجاء كثيرًا في القرآن الكريم:

ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29].

المشبه: الماء الذي يشربه أهل النار. والمشبه به: المهل (الزيت المغلي). وأداة التشبيه: الكاف. ووجه الشبه: الحرارة والمرارة والسَّواد المعبَّر عنه في الآية بقوله: (يَشْوِي الْوُجُوهَ)، وجاء وجه الشبه هنا الجملة الحالية: (يَشْوِي الْوُجُوهَ). ومعنى: (يستغيثوا) أي يطلبوا الشراب، لشدة ما يجدون من العطش.

جاء هذا التشبيه يحمل صورة بليغة من التهكم والاستهزاء بأولئك الأشقياء من أهل النار الذين كانوا يستهزئون بأوامر الله وينتهكون حدوده، فكان جزاءهم النار التي أحاطت بهم إحاطة السوار بالمعصم، فيلفحهم حرُّها، ويتجرَّعون عذابها، ويغصون بزقومها، وتحترق أجسامهم من قطرانها الذي تلبَّس بهم.

فإذا استغاثوا من أيٍّ من ذلك ليدفعوا عطشًا أو ليتخلصوا من حرٍ أو غير ذلك، جاء الغوث ولكن أي غوث إنه ماءٌ يغلي، تحترق منه وجوههم عند دُنُوِّه من أفواههم فيتحاملون على أنفسهم، أو يُسقونه بالقوة دون رغبة منهم فيُقَطِّع ما يَمُرُّ به من أجسامهم حتى يخرج من أدبارهم. قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15].

لقد كانوا يُؤمِّلون في ماء يروي ظمأهم أو يُطْفِئ حريق أجسادهم، فكان ذلك الماء عذابًا فوق العذاب.

فالتشبيه في هذه الآية مُرْسَلًا (فقد ذكرت أداة التشبيه وهي الكاف) مُفَصَّلا (وقد ذكر فيه وجه الشبه).

***

(13) التشبيه المجمل فى القرآن الكريم

(14) التشبيه القريب والبعيد فى القرآن الكريم

ومنه قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ *  كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46].

المشبه: طعام الأثيم وهو ثمر شجرة الزقوم بعد أكله. المشبه به: غلي الحميم. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الحرارة والألم والفساد الحاصل بأكله. وجملة (يَغْلِي) حال من الزقوم، أو من طعام الأثيم.

نجد أنه شبه بغلي الحميم وذلك بعد أكله؛ فهو يعقب حرارة وغليانا شديدين في البطون كما يغلي الماء الحميم الذي اشتد غليانه وانتهت حرارته، فيجدون ألمه بعد أكله ويُحدث من الضرر والفساد في البطن ما يحدثه الماء الحميم.

فهو تشبيه مُرْسَل ذكرت فيه أداة التشبيه وهي الكاف، مُفَصَّل ذكر فيه وجه الشبه وهي جملة الحال (يَغْلِي في البطون).

***

ومنه قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل: 10].

المشبه (عصا سيدنا موسى عليه السلام)، المشبه به: (جانٌّ)، والجانّ: اسم جمع للجن، وهي: حية صغيرة خفيفة الحركة، وقيل: هي حية كبيرة جدا وإن كانت خفيفة في سرعة الحركة. سُميت بذلك لسرعة حركتها وخفتها. وقد ورد التصريح بلفظ حية في قوله تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20].

وأداة التشبيه: (كأن)، ووجه الشبه: الاهتزاز والحركة. وجملة (تَهْتَزُّ) في محل نصب على الحال؛ لأن الرؤية هنا بصرية، وكأنها جان كأن واسمها وخبرها، والجملة في محل نصب حال ثانية أو هي حال من ضمير تهتز فهي حال متداخلة.

وليس المقصود هنا هو تشبيه العصا بالحية، فقد أصبحت بأمر ربها حية على الحقيقة وهذا هو الإعجاز، فقد سأله ربنا عز وجل عما في يمينه {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]. فسأله ليقرره، ثم بعد ذلك أمره فألقاها، فكانت عند ذلك المعجزة أبلغ من لو وقعت المعجزة على عصا أخرى لم يعرفها موسى من قبل.

ولكن المقصود من التشبيه هو تشبيه حركة الثعبان العظيم بالجان النحيل خفيف الحركة سريعها وذلك بإبراز صفة اضطرابها.

وعبَّر بالاهتزاز: وهو افتعال؛ لبيان عظمة اضطرابها، ولا أدل على ذلك من تولي سيدنا موسى عليه السلام وهو القوي الشجاع، وما كان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليهرب إلا لما عاينه من هول حركتها فقد رأى أمرًا عظيمًا مخيفًا، ويدلنا هذا على إثبات بشرية الأنبياء فإنه ينتابهم ما ينتاب البشر من المشاعر كالخوف ونحوه وأنهم إنما عُصِموا من الخطأ في الأمر المناط بهم ألا وهو تبليغ دين الله للناس.

فالتشبيه في الآية هو تشبيه مُرْسَل ذكرت فيه أداة التشبيه وهي (كأن)، مُفَصَّل ذُكِر فيه وجه الشبه وهي جملة الحال (تَهْتَزُّ).

***

وقد أتى وجه الشبه في القرآن الكريم بطريقة الحال الْمُتَدَاخِلَة:

وذلك حيث يقع في التشبيه حالان متداخلان، ويكون وجه الشبه هو الحال الأولى، وتكون الحال الثانية مشتملة على أداة التشبيه والمشبه به، وتكون الحال الأولى مشتملة على الحال الثانية.

ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].

المشبه: اصطفاف المجاهدين المقاتلين في سبيل الله. والمشبه به: البنيان المرصوص (وآثر نظم القرآن استخدام لفظ (بُنْيانٌ) في الآية لما تثيره في النفس من معنى الالتحام والاتصال والاجتماع القوى، وغير ذلك من معان، مما لا يثار في النفس عند كلمة حائط أو جدار مثلا)، وأداة التشبيه: كأن. ووجه الشبه: الثبات، والقوة، والانتظام.

الإعراب: قوله: (صَفًّا) حال من الواو في (يُقَاتِلُون) وكأن واسمها، وبنيان خبرها، ومرصوص نعت لبُنْيَان، والجملة: حال ثانية من الضمير في صفًّا؛ لأنه بمعنى صافّين أنفسهم، فهي حال متداخلة.

فهذه الآية فيها حالان مُتَداخلان، ووجه الشبه: في الحال الأولى وهو قوله (صفًّا)، والحال الثانية (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) مشتملة على أداة التشبيه والمشبه به، والحال الأولى مشتملة على الحال الثانية.

***

ومثله قوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43].

المشبه: إسراع الكافرين عند خروجهم من قبورهم نحو صوت الداعي. المشبه به: إسراع المشركين نحو أصنامهم للعبادة، أو إسراع المتسابقين نحو علم منصوب. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الإسراع.

فهو من التشبيه المرسل (لذكر أداة التشبيه الكاف)، المفصل (لذكر وجه الشبه) وهو: سراعًا.

***

الثاني: التشبيه المؤكد المفصل

وهو التشبيه محذوف الأداة، ومذكور وجه الشبه، ولم يأت فيه في القرآن الكريم إلا قوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، وقد ذكر ذلك ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير فقال: ويجوز عندي أن يكون وجه الشبه كثرة الشقوق كأوراق الورد، وعلى هذا القول يكون في الآية تشبيهان:

التشبيه الأول: المشبه: السماء، المشبه به: الوردة، ولا يوجد أداة تشبيه، ووجه الشبه: انشقت.

شبه انشقاق السماء بانشقاق الوردة، والوردة تَنْشَقُّ من أعلاها حين يَنْفَتِحُ بُرعُومُها فيُوشِك إن هنَّ تفطَّرن أن يَخْرِرْنَ على الأرض.

فوجه الشبه على رأي ابن عاشور هو: الانشقاق، لذلك فهو تشبيه مؤكَّد مفصل.

والتشبيه الثاني:

المشبه: تموج السماء واضطرابًا. والمشبه به: الدِّهان (وهو جمع دُهن، فقالوا إن السماء يعتريها يوم القيامة ذوب وتميع من شِدَّة الهول)، وإعرابه: خبر (كان) ثان والخبر الأول: وردة، وأداة التشبيه: الكاف. ووجه الشبه: الذوبان، واللمعان، والتلون.

وهو تشبيه مرسل (ذكرت فيه أداة التشبيه وهي الكاف) مجمل (لم يذكر فيه وجه الشبه).

وقيل: إعراب (كالدهان) نعت لوردة، ففي هذه الحالة يكون شبه الوردة بالدهان وليس السماء.

***

تعليقات