الأغراض البلاغية لتنكير المسند
إليه:
1،
2- الدلالة على فرد منتشر شائع غير معين، أو إفادة النوعية:
يؤتَى بالمسند إليه منكرًا؛
لإفادة أنه فرد غير معين من أفراد جنسه، أو لإفادة النوعية، فإذا قلت: "جاءني
رجل"، صلح هذا القول بإرادة الإفراد؛ أي: جاءني رجل لا رجلان، وصلح لإرادة
النوعية؛ أي: جاءني رجل لا امرأة، وهذه الإفادة إفادة أصلية للنكرة، وقد تتمحض
النكرة في الدلالة على العدد وذلك إذا وصفت به كقولك مثلًا: جاءني رجل واحد ورجلان
اثنان. من ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ
اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51].
وقد تتمحض لإفادة النوعية؛ أي:
الجنس، كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ
يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] فقد محض الوصف
في الأرض ويطير بجناحيه النكرتين "دابة وطائر" لإفادة الجنس.
ولتفصيل ذلك نقول:
إن المراد بالإفراد الدلالة على
فرد منتشر شائع غير معين سواء أكانت النكرة بلفظ المفرد أم بلفظ الجمع، فإذا كانت
بلفظ المفرد دلت على واحد، وإن كانت بلفظ المثنى دلت على مطلق اثنين، وإن كانت
بلفظ الجمع دلت على مطلق جمع مثل: لقيني رجلان وتبعني رجال؛ فأنت ترى المسند إليه
في الأحوال الثلاثة غير معين، سواء أكان واحدًا مثل: جاءني رجل أو اثنين أو جمعًا،
وهو في الأمثلة الثلاثة يسمى عند البلاغيين فردًا بالنظر إلى مفهوم لفظ النكرة
المعبر بها عن المسند إليه، وبهذا ندرك أن الإفراد ليس مقصورًا على الواحد كما
يتبادر إلى الذهن، بل يشمل الواحد والاثنين والجماعة، فالمدار على عدم التعيين.
وعلى الرغم من أن الدلالة على
غير معين معنى أصلي للنكرة، فإن المقام قد يقتضيه من أجل ذلك ينكر المسند إليه إما
لأن الغرض لم يتعلق بتعيينه، وإما لأن المتكلم لم يعلم جهة من جهات التعريف، فيلجأ
في المقامين إلى تنكير المسند إليه قاصدًا بالحكم فردًا غير معين من الأفراد التي
يسقط عليها مفهوم اللفظ. مثال الأول: قول الله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ
بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20] فقد
أتى بالمسند إليه: {رَجُلٌ} في الآية منكرًا للقصد فيه إلى رجل ما من أفراد مفهوم
لفظ رجل؛ لأن الحكم بالمجيء لم يثبت لغير فرد واحد من هذا الجنس، فهو وإن أمكن
تعيينه لكن ليس هناك غرض يتعلق بتعيينه ويقتضي تعريفه، بل الغرض أن يعلم موسى
بائتمار القوم ليقتلوه، ولذا خرج خائفًا سائلًا ربه النجاة من القوم الظالمين،
وهذا الغرض قد تحقق، ولا حاجة بعد ذلك إلى تعريف وتعيين من جاء بهذا النبأ وأسدى
إليه النصح.
ونظير ما سبق ما جاء في قول الله
تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28].
والمثال الثاني قولك: قابلني في
المسجد رجل وسأل عنك، تقول ذلك إذا لم تعرف اسمه ولا شيئًا يتعلق به، فالقصد فيه
حينئذ إلى فرد ما من أفراد مفهوم لفظ رجل.
قد ينكر المسند إليه أيضًا لقصد
النوعية؛ وذلك بأن يقصد المتكلم بالحكم نوعًا خاصًّا من أنواع الجنس غير ما
يتعارفه الناس، فيعمد إلى تنكير المحكوم عليه؛ لأن النوعية معنى أصلي في النكرة،
فإذا اقتضاها المقام صارت غرضًا يقتضي تنكير المحكوم عليه المتمثل في المسند إليه،
ك قول الله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] فقد نكر المسند
إليه؛ لأن المقصود نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس؛ وهو غطاء التعامي عن آيات
الله؛ أي: الإعراض عنها، ولو عرف المسند إليه فقيل: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] ل انصرف اللفظ إلى المعنى المتعارف الذي هو الغطاء المعروف
مع أنه ليس مرادًا، وليس القصد إلى فرد واحد من أفراد الغشاوة ب أن يكون المعنى
وعلى أبصارهم غشاوة واحدة لا غشاوتان مثلًا؛ لأن الفرد الواحد منها لا يمكن أن
يقوم بالأبصار المتعددة، فيتعين إذن أن يكون التنكير هنا للنوعية؛ لأنه هو الذي
يقابل أبصارهم المتعددة.
ويرى بعض البلاغيين أن التنكير
في الآية للتعظيم، وأن المراد غشاوة عظيمة؛ لأنها تحجب أبصارهم حجبًا تامًّا،
وتحول دون إدراكها الأدلة على معرفة الله تعالى.
وإذا كان ت النكات البلاغية لا
تتزاحم -كما قلنا مرارًا- فيجوز أن يكون للتنكير هنا السران معًا التعظيم وقصد
النوعية؛ لأن الغشاوة العظيمة التي هي غطاء التعامي عن آيات الله نوع خاص من أنواع
الأغشية وليست من الأغطية المعروفة، ومن التنكير لقصد النوعية قول الشاعر:
لكل داء دواء يُستطب به ... إلا
الحماقة أعيت مَن يداويها
فتنكير المسند إليه دواء بقصد
النوعية؛ إذ ليس المراد المطلق دواء، وإنما المراد نوع خاص منه وهو الملائم للداء،
وقد ينكر المسند إليه ب قصد تعظيمه؛ أي: أن يقصد المتكلم التنبيه على أن المسند
إليه بلغ في ارتفاع الشأن درجة عظيمة هي أجل من أن توصف مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ
فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] أي: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو
القصاص حياة عظيمة؛ لأن فيه منعًا لهم عما كانوا عليه في الجاهلية من قتل جماعة
بواحد متى اقتدروا؛ فالقصاص فيه حَقن لدماء هؤلاء جميعًا، وأي حياة أعظم من هذه
الحياة؟ ففرق بين التعظيم هنا والتعظيم فيما سبق.
هذا؛ ويصح أن يكون السر في
التنكير في الآية الكريمة التي معنا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} قصد النوعية؛
أي: إفادة نوع خاص من الحياة وهو امتدادها الحاصل للهام بالقتل والمهموم بقتله
بالارتداع عن القتل للعلم بالقصاص؛ فإن الإنسان إذا هم بالقتل تذكر الاقتصاص
فارتدع عنه، فعصَم صاحبه من القتل، وهو من القود، وامتدت حياتهم إلى أجل، وهذا
الامتداد نوع خاص من الحياة.
3- إفادة التعظيم:
ومن تنكير المسند إليه للتعظيم
كلمة يسر في قول الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6] منه أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم-: "إن
من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمةً"؛ أي: سحرًا عظيمًا وحكمة بليغة.
4- إفادة التحقير:
وقد يقصد من تنكير المسند إليه
العكس؛ أي: تحقيره بأن يقصد المتكلم التنبيه على أن المسند إليه بلغ في انحطاط
الشأن درجةً لا يُعتد بها، ولا يمكن معها أن يعرف كقوله: شعور بالكرامة منجاة من
مواقف الذل؛ أي: شيء ضئيل من الشعور بالكرامة عند الحر يقيه مواطن الهوان ويجنبه
مواقفَ الصغار، وكقول إبراهيم بن العباس وكان عاملًا على الأهواز من قِبل الواثق
بالله ثم عزل في وزَارة محمد بن عبد الملك الزيات، فقال مخبرًا عما صار إليه حاله
من تخلي الأصحاب وتسلط الأعداء:
فلو إذ نبا دهر وأُنكر صاحب ...
وسلط أعداء وغاب نصير
تكون على الأهواز داري بنجوة ...
ولكن مقادير جرت وأمور
فقد نكر كلمة الدهر ليشعر أنه
دهر منكر مجهول، وليس هو الدهر الذي عهده أيام نعمته وولايته على الأهواز، كما نكر
صاحب للتحقير وقال: أ ُ نكر بالبناء للمجهول، ولم يقل: أنكرت صاحبًا حتى لا يسند
إنكار الصاحب إلى نفسه صريحًا في اللفظ، وإن كان هذا الصاحب صاحبًا حقيرًا لئيمًا،
ونكَّر أيضًا أعداء في قوله: وسلط أعداء، لبيان أن هؤلاء قد أصبحوا أداةً في أيدي
غيرهم، فهم لا يستطيعون عداوتي إلا إذا دُفِعوا إليها من مجهول ساقط.
هذا؛ وقد اجتمع التعظيم والتحقير
في قول الشاعر:
ولله مني جانب لا أضيعه ...
وللهو مني والخلاعة جانب
يريد الشاعر أن يقول: إن الجانب
الأكبر من تفكيره وعلمه مبذول في طاعة الله ومرضاته، أما اللهو والعبث فلهما مني
الجانب الأدنى؛ ولذلك نكَّر الجانب الخاص بالله لتعظيمه في الشطر الأول من البيت،
ونكر الجانب الآخر لتحقيره في الشطر الأخير من نفس البيت، ومثله قول الآخر:
فتًى لا يبالي المدلجون بناره ...
إلى بابه ألا تضيء الكواكب
يصم عن الفحشاء حتى كأنه ... إذا
ذكرت في مجلس القوم غائب
له حاجب عن كل أمر يشينه ...
وليس له عن طالب العرف حاجب
فإنك ترى كلمة حاجب في البيت
الأخير وقعت مسندًا إليه وتكررت منكرةً في شطري البيت، وتنكيرها في الشطر الأول
للتعظيم، وفي الشطر الثاني للتحقير والتقليل، وبذلك اجتمع التعظيم والتحقير في بيت
واحد، فالشاعر يريد أن يصف ممدوحه بالنزاهة والطهر، وأنه بلغ منهما مبلغًا بحيث لو
هم بفعل ما يشين حال دون ذلك مانع حصين وحاجب عظيم، ومع ذلك فممدوح هـ مَحط رجال
قاصديه من ذوي الحاجات، لا يحول بينهم وبينه أدنى حاجة، والذي يدل على إرادة
التعظيم أولًا والتحقير ثانيًا أن المقام مقام مدح وتنويه بنبالة الممدوح وكرمه.
5- إفادة التكثير:
ويؤتَى بالمسند إليه منكرًا
أيضًا لإفادة التكثير مثل قولهم: إن له لإبلًا وإن له لغنمًا؛ أي: إن له لإبلًا
كثيرة وغنمًا وفيرة، ومن هذا القبيل على ما ذهب إليه الزمخشري قول الله تعالى
حكايةً عن سحرة فرعون: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الأعراف: 113] يريدون معنى
التكثير؛ أي: إن لنا قدرًا وفيرًا من الأجر. ويحق لك أن تسأل: كيف يفيد التنكير
هنا التكثير مع أن الأصل في النكرة الإفراد؟ وللإجابة أقول: إن التنكير يشعر بعدم
الإحاطة بالمنكر، وهذا يدل على أنه كثير بالغ الكثرة، ومن هنا كانت إفادة التنكير
للتكثير كما أن المقام وصيغة الكلمة لهما دخل، ومن التنكير لهذا الغرض قول الشاعر:
وفي السماء نجوم لا عداد لها ...
وليس يكسف إلا الشمس والقمر
أي: نجوم كثيرة، وقد اجتمع
التكثير والتعظيم في قول الله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] وقد نكر المسند إليه وهو رسل بقصد إفادة التعظيم
والتكثير باعتبارين مختلفين؛ فعلى اعتبار أنهم أصحاب شأن عظيم يحملون آيات عظامًا
لمن أرسلوا إليهم يكون التنكير للتعظيم، وعلى اعتبار أنهم ذوو عدد كثير يكون
التنكير للتكثير، ومما أفاد تنكير المسند إليه فيه التكثير والتعظيم معًا قول
الشاعر:
له هِمم لا منتهى لكبارها ...
وهمته الصغرى أجل من الدهر
فقد أفاد تنكير همم التكثير والتعظيم؛ أي: همم كثيرة عظيمة؛ ولذا قال: لا منتهى لكبارها أجل من الدهر، فدل الأول على الكثرة، ودل الثاني على التعظيم والتفخيم.
6- إفادة التقليل:
ويؤتى بالمسند إليه منكرًا أيضًا
لإفادة التقليل كما في قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ُوَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:
72] أي: شيء قليل من رضوان الله خير مما ذكر في صدر هذه الآية من الجنة ونعيمها،
وإنما كان الرضوان وإن قل أكبر من كل ما في الجنة من النعيم؛ لأن المراد إعلامهم
بأنه أكبر من كل نعيم يأتي بلا إعلام، أو أن ما عَدَا الرضوان من صنوف النعيم مسبب
عنه ولأنه من ثمراته ونتائجه، يقول الخطيب القزويني: وشيء من رضوانه أكبر من ذلك
كله؛ لأن رضاه سبب كل سعادة وفلاح، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر
في نفسه مما وراءه من النعيم، وإنما تهنأ له برضاه، كما أنه إذا علم بسخطه تنغصت
عليه ولم يجد لها لذة وإن عظمت.
ونظير ذلك قوله تعالى:
{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:
15] وقد أفاد تنكير المنسد إليه سلام التقليل؛ لأنه من قبل الله تعالى والقليل منه
كثير ومغن عن كل تحية، ولذا جاء معرفًا في قصة عيسى - عليه السلام-: {وَالسَّلَامُ
عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 33]؛
لأنه ليس واردًا من جهة الله، بل هو من قول عيسى - عليه السلام- ولهذا الغرض تجد
أن السلام لم يرد من جهة الله تعالى في النظم الكريم إلا منكرًا، فارجع مثلًا إلى
قول الله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] {اهْبِطْ
بِسَلَامٍ مِنَّا} [هود: 48] {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] وهكذا.
ومن تنكير المسند إليه لإفادة
التقليل قولهم: كلمات تتضمن حكم ًا خير من سفر يمتضخ هُراء، فقد نكر المسند إليه
كلمات ل إفادة معنى التقليل وللمقام أيضًا نصيب في إفادة هذا المعنى، كما أن
للكلمة ذاتها نصيبًا في هذه الإفادة -كما قلنا- في إفادة التنكير بالتكثير؛ إذ لا
مانع من أن يجتمع في المثال الواحد عدة دلالات على معنى واحد، ومن هنا كان التنكير
في قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء:
46] لإفادة التقليل كما ذهب السكاكي بمعونة المقام وبناء المصدر للمرة وبالكلمة
نفسها، خلافًا للخطيب القزويني الذي ظن أن إفادة التنكير يجب أن تكون بمعزل عن مثل
هذه الدلالات، كما يدل على ذلك كلامه في [الإيضاح].
ومن تنكير المسند إليه لإفادة
التقليل قوله تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام- لأبيه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] فقد جاء المسند إليه: {عَذَابٌ}
منكرًا لإفادة التقليل؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - إذا كان يروعه أن يمس أباه
قدر ضئيل من العذاب فكيف بالكثير الجسيم؟!
وإلى هذا ذهب الزمخشري معللًا إرادة
التقليل بأن إبراهيم - عليه السلام - لم يخلِ الكلام من حسن الأدب مع أبيه، حيث
إنه لم يصرح فيه أن العذاب لاحق لاصق به، ولكنه قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} فذكر الخوف والمس ونكَّر العذاب، وذهب بعض
البلاغيين منهم السكاكي إلى جواز إرادة التهويل والتعظيم من هذا التنكير، ومع أن
النكات البلاغية لا تتزاحم فإن ما ذهب إليه الزمخشري أدق وألطف لمناسبته الواضحة
للمقام.
إلى غير ذلك من الأغراض التي
تقتضي تنكير المسند إليه كأن يمنع من تعريفه مانع كما في قول الشاعر:
إذا سئمت مهنده يمين ... بطول
الحمل بدله شمالًا
حيث نكر لفظ يمين وهو المسند
إليه؛ تحاشيًا من أن ينسب السآمة بصريح اللفظ إلى يمين الممدوح فيما لو قال: يمينه
بالإضافة، ومع أن المراد بيمين في قول الشاعر: هو يمين الممدوح فإن إسناد السآمة
إليها معرفة فيه جفوة تتنافَى مع مقام المدح، وكأن ينكر المسند إليه لإرادة إخفائه
عن المخاطب؛ خوفًا عليه، مثل أن تقول لآخر: قال لي رجل: إنك انحرفت عن الحق فتخفي
اسمه لئلا يلحقه أذى من هذا المخاطب؛ لأنه نسب إليه ما لا يحب.
هذا؛ وما يسري على المسند إليه
من تنكير للأغراض البلاغية -السالف ذكرها- يسري على غيره فكثير من الأغراض التي
ذكرناها لتنكير المسند إليه تأتي في غيره كما في قول الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29] فالمضروب به المثل في الموضوعين فرد من أفراد
الرجال، وهو غير مسند إليه فيهما.
ومن تنكيره لإفادة النوعية قول
الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]
فليس المراد مطلق حياة، إذ لا معنى لأن يحرص الإنسان على شيء قد استوفاه بالفعل
إنما يحرص على شيء لم يحصل له بعد، فالمراد إذن نوع خاص من الحياة وهو الحياة
الممتدة الزائدة، وكأنه يقول: ولتجدنهم أحرصَ الناس وإن عاشوا على أن يزدادوا إلى
حياتهم في ماضيهم وحاضرهم حياةً مستقبلة ً؛ ولهذا نكَّر لفظ الحياة؛ للدلالة على
هذا النوع منها وهو غير مسند إليه وهكذا.
***
مقالات مرتبطة
***