تعريف المسند إليه: هو المحكوم عليه
فاعلًا كان، أو نائب فاعل، أو مبتدأ أصلًا أو حالًا.
وأحواله هي ما يعرض له من ذكر،
وحذف، وتعريف، وتنكير، وتقديم، وتأخير، وغير ذلك.
وموضع المسند إليه في جملة
الإسناد والمحكوم عليه أو المخبِر عنه كالفاعل والمبتدأ وما أصله المبتدأ وهو -كما
نعلم- أحد أركان الجملة، ويمثل هذا المحكوم عليه في جملة الإسناد، والمسمى بالمسند
إليه الفعل في الجملة الفعلية، والاسم المبتدأ في الجملة الاسمية، وقد يُؤْتَى في
الجملة الفعلية بشيء مما يتعلق بالفعل كالجار والمجرور والظرف إلى غير ذلك، وهذا
مبحث وجزء ثالث من أجزاء الإسناد يختص بالجملة الفعلية، ويسمى بمتعلقات الفعل.
إذن يقصد بأحوال المسند إليه
الأمور التي يأتي عليها ليكون الكلام بها مطابقًا لمقتضى الحال، أما ما يعرض له لا
من هذه الحيثية بل من حيث إنه مطلق لفظ ككونه ثلاثيًّا أو رباعيًّا، فليس ذلك مما
نحن بصدده؛ لأننا نريد أن نتحدث هنا عن أحوال المسند إليه التي يقتضيها المقام،
ويصير بها الكلام مطابقًا لمقتضى الحال، مثل الحذف والذكر والتعريف والتنكير
والتقديم والتأخير، إلى آخر ذلك.
***
ولا يصح الحذف لغةً إلا إذا وجد
دليل يدل على المحذوف، فإذا لم يوجد هذا الدليل كان الذكر واجبًا متعينًا لفساد
الكلام بالحذف، أما إذا دل على المحذوف دليل كان الحذف جائزًا؛ لأن المحذوف حينئذٍ
في حكم المعلوم لوجود القرينة الدالة عليه، كما أن الذكر يكون جائزًا أيضًا؛ لأنه
الأصل كما يقتضي العقل والإعراب.
ومما ينبغي أن يُعلم أن البلاغة
لا تدلي بدلوها في الكلام إلا بعد صحته لغةً، فما منعته اللغة أو أوجبته لا يكون
للاعتبارات البلاغية فيه مجال.
ومن هنا يتضح أن الحذف الممنوع؛
انعدام القرينة والذكر المتعين لذلك لا تنظر إليهما البلاغة، وإنما محط نظرها هو
جواز كل من الحذف والذكر لغةً لوجود القرينة، فإذا وجد بعد ذلك سر بلاغي يطلب
الحذف ويرجحه على الذكر، صارت البلاغة في الحذف، وإذا وجد داع بلاغي يوجب الذكر
ويستدعيه ونُكتة تتطلبه وتقتضيه كانت البلاغة في الذكر.
ورحم الله عبد القاهر الجرجاني
حين قال منوهًا بشأن الحذف ومبرزًا قيمته البلاغية: هو باب دقيق المسلك، لطيف
المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصد عن
الإفادة أزيد للإفادة، وتجد أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم
تبِن.
وهذه بعض الدواعي والأسرار التي
تقتضي حذف المسند إليه نعرضها فيما يلي:
1- الاختصار والاحتراز عن العبث
بِناءً عن الظاهر:
إن الكلام الذي يحذف منه المسند
إليه أخصر وأوجز من نظيره الذي يذكر فيه المسند إليه، كما أن المسند إليه الذي علم
من القرينة والسياق، ولم يوجد سر بلاغي يقتضي ذكره يصبح ذكره حينئذٍ بمثابة
الزيادة التي لا قيمةَ لها، فحذفه يصون الكلام ويُبْعِدُه عن العبث من منظور
البلاغة، التي ترى أن ذكر الشيء المعلوم الذي لا يظهر لذكره فائدة يُعَدُّ عبثًا
يتسامَى عنه كلام البلغاء.
والأصل أن ذكر المسند إليه ليس
عبثًا في الحقيقة، وإن كان ذكر المسند إليه ليس عبثًا في الحقيقة والواقع؛ لأنه
ركن من الكلام، ولذلك جعل البلاغيون العبث المحترز عنه مبنيًّا على ظاهر الكلام
المشتمل على القرينة الدالة فقط لا على الحقيقة والواقع.
***
2 - ضيق المقام بسبب شعر أو ضجر أو
شدة أو حزن أو ألم أو خوف فوات فرصة:
إن المتكلم إذا كان على شيء من
ذلك عمد إلى الإيجاز بحذف المسند إليه، أما المقام في مثل هذه السياقات يضيق بذكره
فيقتضي حذفه، تأمل مثلًا قول القائل للصياد: غزال، والأصل هذا غزال، ولكنه حذف
المسند إليه لضيق المقام حتى تفوت الفرصة لصيده، وعلى هذا قول المستغيث: حريق أو
غريق، والأصل هذا حريق أو هذا غريق، فضيق المقام بسبب خوف فوات فرصة الإنقاذ اقتضى
حذف المسند إليه والمبادرة بذكر المسند.
ومن الحذف لضيق المقام بسبب
الحذف والألم والشدة والضجر قول الشاعر:
قال لي كيف أنت قلت عليل ... سهر
دائم وحزن طويل
والأصل: أنا عليل، وحالي سهر
دائم وحزن طويل، لكن ضيق المقام بالنظر لما عليه الشاعر من حزن وضجر بسبب العلة
والمرض اقتضى حذف المسند إليه، وفي مثل هذا البيت يمكن أن يكون ضيق المقام بسبب
آخر، وهو المحافظة على وزن الشاعر مع السبب المذكور آنفًا؛ لأن النكات البلاغية لا
تتزاحم كما يقولون.
كما نراه في قول السيدة سارة زوج
سيدنا إبراهيم - عليه السلام - عندما دخل الملائكة المكرمون على زوجها وبشروه بأنه
سيولد له ولد غزير العلم، هو إسحاق - عليه السلام - قال القرآن عنها: {فَصَكَّتْ
وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] لم تقل: أنا عجوز، أنا عقيم؛
لما كانت تحسه من ضيق صدرها عن الإطالة في الكلام بسبب ما انتابها من استغراب
وتعجب واستبعاد؛ نظرًا لما كانت عليه من عقم وما لحقها ولحق زوجها من كبر.
***
3 - اختبار تنبه السامع أو اختبار
مقدار تنبهه ومبلغ ذكائه:
ذكر البلاغيون أن من دواعي حذف
المسند إليه: إرادة اختبار تنبه السامع عند وجود القرينة الواضحة، مثل أن يزورك
رجلان سبقت لأحدهما صحبة لك فتقول لمن معك العالم بهذه الصحبة: وفي، تريد: الصاحب
وفي، فتحذف المسند إليه اختبارًا لهذا السامع؛ أي: يتنبه إلى أن المسند إليه
المحذوف هو الصاحب بقرينة ذكر الوفاء، إذ هو المناسب لمعنى الصحبة والصداقة أم لم
يتنبه.
***
4 - إرادة اختبار مقدار هذا التنبه
عند وجود القرينة الخفية:
كأن يزورك رجلان أحدهما أقدم
صحبةً من الآخر فتقول لمن معك العالم بهذه الصلة: جدير بالإحسان، تريد أقدمهما
صحبةُ جديرٌ بالإحسان، فتحذف المسند إليه اختبارًا لمبلغ تنبه السامع؛ أي: يتنبه
إلى هذا المحذوف لهذه القرينة الخفية، وهي أن أهل الإحسان قديمو الصحبة دون حادثها
أم لم يتنبه.
***
5 - تعين المسند إليه:
إما لأن الخبر لا يصلح إلا له
حقيقة، فيكون وضوح المسند إليه لدى المخاطب حقيقيًّا، كما في قوله تعالى: {عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] فإن قوله: {عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو؛ أي: الله -عز وجل- ولكن
لما كان هذا الخبر لا يكون إلا له حقيقة جاء الكلام على الحذف؛ لتعين المسند إليه
حقيقةً، في ذلك إشارة إلى وحدانيته سبحانه وعظمته وجلاله، وإما لأن الخبر لا يصلح
إلا للمسند إليه ادعاءً، فيكون وضوح أمره عند المخاطب ادعائيًّا كذلك، وهذا يكون
فيمن اشتهروا بصفات بلغوا فيها الكمال ولو عند المتكلم، فيأتي بالخبر حاذفًا
المسند إليه ادَّعاءً منه أن الصفة -أي: المسند- لا تكون هنا إلا للموصوف المحذوف
وهو المسند إليه، فكأنه متعين.
وقد يكون في ذلك إشارة إلى تقدير
المسند إليه وتعظيمه والمبالغة في اتصافه بالمسند المذكور، بادعاء أنه بلغ فيه حد
الكمال فلا يكون إلا له؛ مثل قولنا مثلًا: عادل في حكومته؛ أي: عمر بن الخطاب -رضي
الله عنه- وقولك: وهاب الألوف، تريد كريمًا لا تذكره ادعاءً؛ لتعينه وشهرته.
قد يكون في هذا الادعاء إشارة
إلى الاستخفاف بالمسند إليه وعدم الاعتداد به، كما في قول قوم موسى - عليه السلام
- الذي حكاه القرآن عنهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا
سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] أي: هذا ساحر هذا كذاب، قاصدين بذلك الحذف أن قولهم:
ساحر كذاب لا ينصرف عند إطلاقه إلا إلى موسى -عليه السلام- زعمًا منهم أن هذه
الصفة لا تصلح إلا له، فهو متعين في اعتقادهم الباطل وزعمهم الكاذب لهذه الصفة:
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:
5].
هذا؛ وقد يكون تعيين المسند إليه
المقتضي للحذف بسبب أنه معهود بين المتكلم والمخاطب كقولك مثلًا: حضر، تريد رجلًا
معينًا بينك وبين مخاطبك.
وقد يحذف المسند إليه لتأتي
الإنكار عند الحاجة إليه كقولك عن رجل معروف بظلمه وفسقه: فاجر ظالم، والأصل: فلان
فاجر، فلان ظالم، ولكنك تحذف المسند إليه؛ ليكون الحذف سبيلًا إلى الإنكار عندما
يواجهك فلان هذا باللوم أو العتب، فييسر عليك الحذف ويمكنك حينئذٍ من أن تقول له:
ما قصدتك وإنما أردت غيرك، ولو ذكرت المسند إليه في مثل هذا المقام لَمَا تأتى لك
الإنكار.
***
مواضيع متعلقة
****6 - صون المسند إليه عن اللسان
تعظيمًا له، أو العكس، صون اللسان عن ذكره تحقيرًا له:
ففي حالة إرادة التعظيم للمسند
إليه وتكريمه قد يحذف للإشعار بأنه بلغ من كرم المنزلة وسمو المكانة حدًّا يخشى
عليه بذلك من مجرد الجريان على لسانه، فيوهم المتكلم سامعه ويشعره أن في جريان
المسند إليه على اللسان وذكره تقليلًا من شأنه، ونقصًا من طهارته، وكأن اللسان شيء
حقير ينبغي أن يحفظ منه المسند إليه ويصان.
وإذا أريد تحقير المسند إليه قد
يحذف كذلك؛ إشعارًا بأنه بلغ من المهانة والحقارة حدًّا جعل ذكره فادحًا في طهارة
لسان ذاكره، وفي معنى هذا يقول الشاعر:
ولقد علمتُ بأنهم نجَس ... فإذا
ذكرتهم غسلت فمي
وعند التأمل ندرك أن النجاسة هنا
التي يخشَى منها على المسند إليه لجريانه على اللسان أو يخشى على اللسان منها
لذكره المسند إليه، أمر اعتباري افتراضي يهدف إلى الإشعار بالتعظيم أو التحقير.
ومن الحذف لصون المسند إليه عن
اللسان؛ تعظيمًا له قول الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ...
دجى الليل حتى نظم الجذع ثاقبه
نجوم سماء كلما انقض كوكب ...
بَدَا كوكب تأوي إليه كواكبه
والأصل هم نجوم سماء، فحذف
المسند إليه؛ لصونه عن اللسان تعظيمًا له.
ومن الحذف لصون اللسان عن ذكر
المسند إليه تحقيرًا له قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] وقوله
سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 10، 11]
والتقدير هم صم؛ أي: المنافقون، هم بكم، هم عمي، وكذلك وما أدراك ما هي؟ هي نار
حاميه.
هذا؛ وقد ذكر البلاغيون أنه من
مألوف الأسلوب عند العرب أنهم يريدون الكلام على حذف المسند إليه في مقامات المدح
والهجاء، وعند ذكر الديار والأطلال، وهي مقامات تدعو إلى الإيجاز لضيق صدر المتكلم
كما يظهر لنا ذلك عند ذكر الديار والأطلال، وتدعو كذلك إلى ما يوحي به الحذف من
تعدد المعاني وتباين الصفات، حتى كأن اللاحق منها شيء جديد مستقل عن السابق، ولا
شك أن هذا الذي يوحي به الحذف أبلغُ في تأدية الغرض من مدح أو قدح.
***
7 - التعجيل بالمسرة أو المساءة:
فقد ذكر البلاغيون أنه من
الأسرار التي تقتضي حذف المسند إليه تعجيل المسرة إذا كان الخبر مما يسر به كقولك
للسائل: دينار، وكقولك لمخاطبك: نجح، تريد ابنك نجح، فتحذف المسند إليه إذا أردت
أن تعجل بذكر ما يفرح ويسر.
***
8 - إرادة تعجيل المساءة إذا كان
الخبر مما يساء به:
مثل قولك: راسب؛ أي: المهمل،
تخاطب بذلك مَن تريد إساءته.
***
هذا وقد عد بعض البلاغيين من باب
حذف المسند إليه حذف الفاعل فيما بُني فعلُه للمعلوم باعتباره أيضًا مسندًا إليه؛ وذلك
كقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26،
27] وقوله سبحانه: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83:
85] أي: بلغت الروح التراقي وبلغت الروح الحلقوم، وسر حذفه هنا ظهوره ظهورًا
واضحًا والعلم به؛ لأن الآيات في ذكر الموت والأموات، ولا يبلغ التراقي والحلقوم
عند الموت إلا الروح، وهنا سر آخر سوى ظهور الفاعل والعلم به، يتمثل في الإشارة
إلى ما عليه الروح من قرب مفارقتها لصاحبها، وكأن حذفها من العبارة يشعر بذهابها.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى حكايةً
عن سيدنا سليمان - عليه السلام-: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] فالمراد هنا بالضمير المستكن في
الفعل: {تَوَارَتْ} الشمس، لكن حذفت من الكلام لقوة الدلالة عليها، ولأنها غابت
وغربت، وهذا يلائم غيابها من العبارة المتمثل في حذفها.
ومنه أيضًا قوله -جل وعلا-: "لقد تقطَّع بينكَم" [الأنعام: 94] على
قراءة نصب "بينكم" وحذف الفاعل المراد به والله أعلم الأمر، وهو الصلة
بين القوم وشركائهم، وسر الحذف هنا الإشارة إلى أن هذه الصلة لا جدوى منها ولا
فائدةَ فيها يوم لقاء الله -عز وجل-فهي صلة ساقطة لا اعتداد بها ولا قيمة لها كما
يشير إلى ذلك السياق في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا
خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ
ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ
فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94].
وبالتأمل نجد للحذف في هذه
المواطن سرًّا عامًّا يتمثل في ظهور الفاعل ظهورًا بينًا لدلالة الكلام عليه
دلالةً قويةً، حتى لكأنه مذكور بلفظه، ولعل هذا ما سوغ حذف الفاعل عند مَن أجازه،
ثم لكل حذف بعد ذلك سره الخاص الذي يدل عليه المقام والسياق.
***
مقالات مرتبطة
***
كما جعلوا كذلك من باب حذف
المسند إليه حذف الفاعل الذي بني فعله للمفعول، باعتباره هو الآخر مسندًا إليه،
وذكروا من هذا الحذف أسرارًا تقتضيه منها ما يأتي:
العلم به كقول الشاعر:
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها
... منعنا بها من جيئة وذهوب
وكقوله -عز من قائل -: {فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] وتأمل قوله:
{وقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ} [هود: 44] تجد أن الفعل قد بني للمفعول في قوله: {قِيلَ} و {غِيضَ}
و {قُضِي} للعلم بالفاعل الحقيقي وهو الله القادر، ووراء حذف الفاعل سر آخر وهو
الإشارة إلى سرعة الاستجابة والامتثال، وأن هناك قوةً خارقةً قد اختطفت الماء،
فانمحى وزال.
وانظر لذلك إلى قول الله -عز وجل -: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا
صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 119، 120] تجد أن وراء
حذف المسند إليه دقائق ولطائف؛ أهمها الإشارة إلى قدرة الخالق فهو الغالب وليس
موسى، بل لقد أوجس موسى في نفسه خيفة عندما رأى حبالهم وعصيهم، وخيل إليه من
سحرهم أنها تسعى، كقوله تعالى:
{فَغُلِبُوا} بالبناء للمجهول إشارة إلى قدرة الله القاهر، وتنبيهًا على أن الغلبة
كانت بتدبيره تعالى وصنعه، وبهذا يظل موسى في مرتبة العبودية العاجزة التي لا تصنع
شيئًا خارقًا، وإنما يجريه الله تعالى على يديها.
وتأمل قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ} وإشارته إلى سرعة امتثالهم بأمر الله، وكأن قوة القهار قد نزعت
العناد والكفر من رؤوسهم، فانكبوا ساجدين مؤمنين برب العالمين.
***
وهناك من البلاغيين من عَدَّ
اتباع الاستعمال الوارد عن العرب غرضًا يقتضي حذف المسند إليه كما في الأمثال نحو
قولهم: رمية من غير رام؛ أي: هي رمية موفقة ممن لا يحسن الرمي، وحُذف المسند إليه
وهو الضمير اتباعًا للاستعمال الوارد عن العرب.
***
هذه هي الدواعي والأسرار التي
تقتضي حذف المسند إليه، ولا يمكننا أن ندعي حصرها أو الإحاطة بها، والذي يتأمل
الأساليب ويسترشد بالسياق وقرائن الأحوال، قد تتكشف له أسرار سوى ما ذكر، ويقع على
أغراض ونكات لم تدون من قبل، والأمر أولًا وآخرًا مبني على الذوق وتلمس أسباب
الحذف.
***