التشبيه المؤكد والبليغ وصوره فى القرآن الكريم

                          التشبيه المؤكد والبليغ في القرآن الكريم

 تعريف التشبيه المؤكد أو البليغ :

هو ما حُذِفت منه أداة التشبيه، وسمَّاه علماء البلاغة (التشبيه البليغ)، لأن التأكيد والمبالغة قد شاعا فيه، كما أنه يوهم باتحاد الطرفين، وفيه إيجاز لعدم ذكر الأداة، وصارت نسيًا مَنْسِيًّا، بحيث لا تكون مُقدَّرة في نظم الكلام لأجل الإشعار بأن المشبه عين المشبه به، بخلاف ما لو كانت الأداة مقدرة فلا يفيد الاتحاد ولا يكون التشبيه مؤكدا.

انواع التشبيه البليغ أو المؤكد في القرآن الكريم:

1) وقوع المشبه به خبرًا عن المشبه:

ومنه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187]. المشبه: الزوج والزوجة، والمشبه به: اللباس، ووجه الشبه: الستر، وغرض التشبيه: بيان حال المشبه. وفي الآية التشبيه بالثياب؛ لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر، وهذا تعليل للإباحة، فكل واحد منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور. فجعل الله سبحانه الزوجين سترًا لبعضهما البعض، يمنع كل واحد منهما الآخر من الفاحشة، فإذا لم يردع الزواج من الفجور كان لا بد من التشديد في الحد بالرجم. وقد جعله سبحانه تعليلاً للإباحة بعد التحريم؛ لشدة الحاجة لهذا اللباس.

ومنه قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]. المشبه: المنافقون، والمشبه به: الصم والبكم والعمي، وأداة التشبيه: محذوفة، ووجه الشبه: عدم الانتفاع بالحواس ووسائل الإدراك والتواصل. ومعنى (فهم لا يرجعون) أي: لا يرجعون عن الجهل والضلال إلى الإسلام والهدى. بين لنا هذا التشبيه صفة من صفات المنافقين وهي أن أدوات الإدراك عندهم معطلة، لذلك فالإصرار على هدايتهم وبذل الجهد معهم لن يأتي بنتيجة، فوسائل الإدراك عندهم معطلة. ومجيء التشبيه على هذه الصورة بين لنا شدة التشابه بين المنافقين والصم والبكم والعمي.

ومنه قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]. المشبه: الزوجة، والمشبه به: الحرث، وأداة التشبيه: محذوفة، ووجه الشبه: الإنتاج، وهو محذوف أيضًا، نوع التشبيه: تشبيه بليغ؛ لحذف أداة التشبيه ووجه الشبه، وغرض التشبيه: بيان حال المشبه. التشبيه في الآية الكريمة بيَّن خطأ قول من زعم أن قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} دليل على عدم إباحة إتيان النساء في الأدبار؛ لأن الدبر لا يحترث فيه، وفي الآية الكريمة من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة هذه وأشباهها في كلام الله، آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها.

ومنه قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. المشبه: عرض الجنة. والمشبه به: عرض السماوات والأرض. ووجه الشبه: السعة والعظمة. والغرض من التشبيه: بيان حال المشبه. وخُصَّ العَرْضُ بالذكر؛ لأن ذكره يدل على الطول، أما ذِكر الطول فقط فلا يدل على قَدْرِ العَرْض، وذكر العرض يدلُّ على المبالغة؛ لأن طول كل شيء يكون غالبًا أكثر من عرضه، فإذا كان هو حال عرضها فما بالك بطولها؟! والمراد بهذا التشبيه: وصف سعة الجنة، فشُبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه، كما أن العرض أقصر الامتدادين ففي ذكره دون ذكر الطول مبالغة، وزاد في المبالغة بحذف أداة التشبيه فكان التشبيه بليغًا.

ومنه قوله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 25، 26]. المشبه: ختام قارورة الخمر، والمشبه: المسك، ووجه الشبه: في الطيب والبهجة، فحذف منه الأداة، ووجه الشبه، فأصبح بليغًا. والرحيق: اسم للخمر الطيبة الصافية الخالية من كل ما يكدر أو يذهب العقل. والختام: اسم للطين الذي يُخْتَم به، حيث كانوا يجعلون طين الختام على محلِّ السداد من القارورة لِمَنْعِ تخلُّل الهواء إليها، وذلك أصلح لاختمارها وزيادة صفائها وحفظ رائحتها. وجعل ختام خمر الجنة بعجين الْمِسْك عوضًا عن طين الختم. والمختوم: أي المسدود الذي لم تمسه يد قبل أيدي هؤلاء الأبرار. وقوله: {خِتامُهُ مِسْكٌ} صفة ثانية للرحيق. أي: إن هؤلاء الأبرار من صفاتهم- أيضا- أنهم يسقيهم ربهم- بفضله وكرمه- من خمر طيبة بيضاء لذيذة، خالصة من كل كدر.. هذه الخمر مختوم على إنائها بخاتم، بحيث لم تمسها يد قبل أيديهم. وهذه الخمر-أيضا- من صفاتها أن شاربها يجد في نهاية شربها ما يشبه المسك في جودة الرائحة.

2) أن يكون المشبه به حالا من الْمُشَبَّه:

ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91]. المشبه: الكتاب، والمشبه به: نورًا وهدى. أي: ضياء من ظلمة الجهالة وهداية تعصم من الأباطيل والضلالة. فنُورًا منصوب على الحال، وهُدًى معطوف على: (نُورًا).

ومنه قوله تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] المشبه: جبريل عليه السلام. المشبه به: بشرًا سويًّا. وجه الشبه: الهيئة. تضمن هذا التشبيه إثبات حقيقة الكرامة التي أرادها الله لأمته المؤمنة مريم فأرسل لها) الروح الأمين (جبريل وصوره لها في صورة البشر السوي التام الخلقة كامل الصفات ليكون أهون عليها من لو أنه جاءها في صورته الملائكية العظيمة فهو لم يتغير منه إلا صورته الخارجية الحسية ليشبه البشر وما هو بالبشر.

3) أن يكون المشبه به مصدرًا مُبَيِّنُا لنوع المشبه به:

ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. المشبه: التبرج الذي نهي عنه نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة داخلات فيه. المشبه به: تبرج الجاهلية الأولى. ووجه الشبه هو: إظهار المفاتن وكشف ما حرَّمه الله. التبرُّج: إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحُليها بمرأى الرِّجال. والمقصود من النهي الدوام على الانكفاف عن التبرج وأنهن منهيات عنه. وفيه تعريض بنهي غيرهن من المسلمات عن التبرج. والجاهلية: الْمُدَّة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام. وأريد بهذا النهي المداومة والاستمرار على هذا الأمر، فهن رضوان الله عليهن لم يكن متبرجات قبل ذلك.

ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20]. المشبه: نظرهم إليك، والمشبه به: نظر المغشي عليه من الموت، وقد انْتُصِب على المفعولية المطلقة؛ لبيان صفة النظر من قوله: {ينظرون إليك}. ووجه الشبه: ثبات الحدقة وعدم التحريك، أي: ينظرون إليك نظر المتحيّر بحيث يتجه إلى صوب واحد ولا يشتغل بالمرئيات لأنه في شاغل عن النظر، وإنما يوجهون أنظارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا بمجلسه حين نزول السورة، وكانوا يتظاهرون بالإقبال على تلقي ما ينطق به من الوحي فلما سمعوا ذكر القتال بهتوا، فالمقصود المشابهة في هذه الصورة.

ومنه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 87، 88] المشبه: مرور الجبال، والمشبه به: مرور السحاب، وأداة التشبيه: محذوفة، ووجه الشبه: سرعة الحركة وعدم الثبوت. معنى ذلك: أنَّ الجبالَ ستُرَى يوم ينفخ في الصور بعد تفجيرها ونسفها وهي تسير في الهواء محمولةً كسير السحاب الذي تدفعه الرياح، فهو تشبيه مؤكد تُنوسي فيه تقدير الكاف ليكون المعنى: أن مرور الجبال هو مرور السحاب بعينه، وهذا المعنى هو ما ينبغي أن يفهم تصويرًا للحالة التي ستكون، ولو فرض تقدير الكاف في الكلام لكان تشبيهًا مرسلًا.

وقد يأتي التشبيه البليغ بغير إضافة المصدر إلى المشبه به، ومثاله في القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. المشبه: المشركون. والمشبه به: النجس. وجه الشبه: تنجيس الغير وإيذاؤهم. وقد سمَّاهم بذلك، لأن الشرك نجَّسهم، أو هم ذو نجس، لخبث باطنهم. فهذه التسمية لذمهم، وتنفيرًا منهم، فهم كالرفيق السيء، فهو يؤذي رفيقه، كما تؤذي النجاسة من يقترب منها، وكما دَلَّت هذه الآية الكريمة على: نجاسة المشرك، دَلَّت أيضًا على: طهارة المؤمن.

4) وقوع المشبه به خبرًا لما دخل على المشبه من النواسخ:

ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47]. في هذه الآية ثلاثة تشبيهات بليغة حذفت منها الأداة: التشبيه الأول: المشبه: الليل. المشبه به: اللباس. وجه الشبه: الستر. التشبيه الثاني: المشبه: النوم. المشبه به: السُّبَات (الراحة للأبدان). وجه الشبه: الراحة والسكون. التشبيه الثالث: المشبه: النهار. المشبه به: النشور. وجه الشبه: الحركة بعد سكون. يظهر في هذه التشبيهات الثلاثة بديع صنع الله عز وجل وآثار قدرته وعظيم منته على عباده وسعة رحمته بهم، فقد جعل لهم هذا الليل وكأنه اللباس الذي يستر البدن فتقضى فيه الكثير من الأمور التي ينبغي سترها، فترى الكون متشحًا بالظلام وكأنه لباس ساتر قد لفت به الأرض وتلك نعمة وأي نعمة. ومن النعم المترتبة على النعمة المتقدمة أن جعل النوم كأنه الموت الذي يقطع الناس عن علائق الدنيا فيتوقف به ركض الإنسان الدؤوب في تحصيل المصالح وابتغاء الأرزاق، فإذا ما نظرت إلى النائم حال نومه بدا لك وكأنه ميت فعلاً بعد أن كان يملأ الأرض حركة وضجيجًا، وتبين لك أيضًا كم هو ضعيف هذا الإنسان وكم هو محتاج لنعم ربه ومن أعظمها النوم. ثم شبه النهار بالنشور وهو القيام بعد الموت فالإنسان حين يستيقظ من نومه فيسارع إلى ما اعتاد فعله في أوقات يقظته من معالجة أمور معيشته كأنه الميت الذي أحياه الله فقام يسعى إلى المحشر. ففي التشبيه امتنان على الناس بهذه النعم العظيمة التي لولاها ما استقام عيش، ولا كانت حياة فالله العليم الحكيم هو الذي خلق الليل والنهار وقدرهما بحكمته البالغة على النحو الذي تصلح به حياة العباد.

ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6، 7]. في هذه الآيات تشبيهان: أما الأول فأركانه: المشبه: الأرض. المشبه به: المهاد (أي: ممهدة منبسطة). أداة التشبيه: تشبيه بليغ محذوف الأداة. وجه الشبه: الانبساط. أما التشبيه الثاني فأركانه: المشبه: الجبال. والمشبه به: الأوتاد. وأداة التشبيه: تشبيه بليغ محذوف الأداة. وجه الشبه: التثبيت. لما كانت قضية البعث من القضايا الكبيرة في العقيدة الإسلامية، وكان المشركون منكرون لها غاية الإنكار، ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة جملة من الآيات الدالة على قدرته وعظمته، بحيث تكون حجة على المشركين، بأن من قدر على هذا وهو أعظم من خلق الناس، فهو قادر على البعث بطريق الأولى، ويمكن أن يقال: إن الذي خلق هذه الأمور العظيمة، منزه عن العبث لا يخلق شيئا إلا لحكمة، وإنكار البعث يؤدي إلى أنه خلق هذه الأشياء عبثا، وليس لها حكمة، وهو قول باطل. وأول هذه الدلائل على قدرة الله تعالى، أنه سبحانه جعل الأرض مهادا أي: ممهدة منبسطة كالمهاد والفراش، وذلك لعظمها واتساعها، حتى أنها تشمل المخلوقات الكثيرة دون أن تضيق عليهم. وثاني هذه الدلائل أنه خلق الجبال مثبتة للأرض كالأوتاد لها، كما أن الأوتاد تثبت الخيمة، ولولا وجود هذه الجبال لكانت الأرض تميد بمن عليها، وتتزلزل، ولا تكون مستقرة صالحة للعيش عليها، فثبتها الله ذه الجبال لتكون مستقر للمخلوقات. والغرض منه هذين التشبيهين: بيان قدرة الله تعالى التي لا يعجزها شيء على بعث الناس من قبورهم، وإعادة خلقهم من جديد. ومجيء التشبيه هنا تشبيها بليغا للدلالة على كون المشبه هو عين المشبه به، فالأرض كالمهاد، والجبال كالأوتاد.

ومنه قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 19، 20]. في هاتين الآيتين تشبيهان: التشبيه الأول: المشبه: السماء. المشبه به: الأبواب. أداة التشبيه: تشبيه بليغ محذوف الأداة. ووجه الشبه: التشقق والانفتاح. يذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات طرفًا من أهوال يوم القيامة، ومن ذلك تفتح السماء حتى تكون كالأبواب، ومعناه: تتفطر وتتشقق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجداران. والغرض من هذا التشبيه: بيان أهوال يوم القيامة التي تصيب الأجرام العظيمة فتغيرها من حالتها إلى حالة أخرى، بعيدة كل البعد عن حالتها الأولى. نجد أن السماء بعد أن كانت مشدودة متماسكة، تصبح في يوم القيامة أبوابا لكثرة الشقوق التي فيها، وتفطرها وتقطعها. التشبيه الثاني: المشبه: الجبال. المشبه به: السراب. أداة التشبيه: تشبيه بليغ محذوف الأداة. وجه الشبه: أن يحسب شيئا وهو ليس بشيء. من أهوال القيامة أن تسير الجبال فتكون كالسراب، بمعنى لا شيء، فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئًا، كما أن من يرى السراب من بُعْدٍ إذا جاء الموضع الذي كان يراه فيه لم يجده شيئًا. والغرض من هذا التشبيه: بيان أهوال يوم القيامة فنجد أن الجبال بعد أن كانت صلبة راسية، لا يقادر قدرها، جعلها الله تعالى كالسراب في تفرق أجزائها وتناثرها، مما يجعل الرائي يحسبها من بعيد شيئا وهي في الحقيقة ليست بشيء. فالتشبيه بالسراب ليس في تفرق أجزائها فقط، ولكن أيضا مع حسبان أنها شيء وهي ليست بشيء.

5) وقوع المشبه به مضافًا للمشبه:

ومنه قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]. المشبه: التقوى. المشبه به: اللباس. وجه الشبه: الستر، أي: خلقنا لكم لباسًا يستر عوراتكم، ولباس التقوى خير لكم من التعري والتجرد من الثياب في طوافكم بالبيت. فهناك تلازم بين شرع الله (اللباس) لستر العورات والزينة، وبين التقوى، كلاهما لباس. هذا يستر عورات القلب ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان، فعن شعور التقوى لله والحياء منه، ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه. وهو تشبيه بليغ، من إضافة المشبه به إلى المشبه.

ومنه قوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13] المشبه: العذاب، والمشبه به: السوط، وجه الشبه: في سرعته، وشدته وتتابعه، فهو تشبيه بليغ من إضافة المشبه به إلى المشبه.

ومنه قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]. هذه الآية تبين مصير الظالمين الكافرين يوم القيامة، ويأمر الحق عز وجل فيها نبيه بأن يخبر الناس بأن الحق الذي جاء في القرآن هو من عند الله لا من وحي الشيطان، ولا من افتراء الكهنة، ولا غير ذلك، ثم يبين أن هناك طريقين، طريق الإيمان وطريق الكفر، ثم بين مصير من يختار طريق الكفر وأنهم في النار خالدون. المشبه: النار. والمشبه به: السرادق (وهو: الفسطاط يجْتَمع فِيهِ النَّاس لعرس أَو مأتم وَغَيرهمَا)، والغرض من التشبيه: تهويل شأن النار وتعظيمها، فهي نار تحيط بالكافرين من كل جانب كالسرادق بحيث لا يتمكنون من الفرار منها. وهو تشبيه بليغ من إضافة المشبه به إلى المشبه.

6) وقوع المشبه به نعتًا للمُشَبَّه:

ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 15 - 17]. وردت هذه الآيات في وصف العذاب الأليم الذي سيلقاه كل كافر بربه يوم القيامة، وهي تخبر بأن الكافر الذي عاند الحق سبحانه وتعالى وعادى المرسلين قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وأن جزاءه جهنم وبئس المصير. وفي قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} فيه تشبيه بليغ، المشبه: الماء، المشبه به: الصديد، وهو نعت للماء، وتقدير الكلام: ويسقى من ماء كالصديد في طعمه ولونه ورائحته وشدة حرارته، أي: في جميع هيئته، وذلك مما يُصور مبلغ عذاب الكافر يوم القيامة. وهو الأمر الذي يجعل الإنسان ملتزمًا طريق الرشاد كي يفوز برضوان الله عز وجل يوم القيامة مُجتنبًا هذا العذاب الأليم. ومنه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 48- 49]. المشبه: البلدة. المشبه به: الميت. وجه الشبه: عدم النفع والحركة. شبه الله الأرض الجدباء المحرومة من نعمة السماء بالميت الذي لا روح فيه ولا حياة، والحياة إنما تكون بهذا الماء الطهور المبارك الذي يرحم به الله أهل الأرض.

***

تعليقات



التشبيه المؤكد والبليغ وصوره فى القرآن الكريم - مدونة البلاغة العربية أرسل بريدًا إلكترونيًا