المجاز
العقلي والتوسع في اللغة:
المجاز العقلي طريق من طرق التوسع في اللغة، وفن من فنون البلاغة، له شأن
رفيع ومنزلة عظيمة، ولذلك اهتم به البلاغيون وعلى رأسهم الإمام عبد القاهر
الجرجاني، فقد درس المجاز العقلي في كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، وبيَّن
الفرق بين المجازين اللغوي والعقلي، ويكفي أن أنقل قوله في الإشادة بالمجاز العقلي
والتنويه بشأنه، حين قال في الدلائل ص 295: "وهذا الضرب من المجاز كنز من
كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع
في طريق البيان، وأن يجيء بالكلام مطبوعًا مصنوعًا وأن يضعه بعيد المرام قريبًا من
الأفهام".
***
المجاز
العقلي يفيد إثارة الخيال:
تكمن روعة المجاز العقلي في أن المتكلم بهذا الأسلوب يعدل عن الإسناد
الحقيقي، وينسب الفعل إلى غير ما هو له، فيخيل إليك أن الفعل وقع من غير فاعله أو
على غير مفعوله، وفي هذا التخييل متعة نفسية لا يفطن إليها ولا يُدْرِكُ سحرها إلا
صاحب الذوق البياني الرفيع، حيث يُعِينُه الذوق على إدراك الفروق بين الأساليب
المختلفة حقيقةً ومجازًا، وإن شئتَ فقارن بين قولك: صام فلان نهاره وقام ليله، وجرى
الماء في النهر، وصار الناس في الطريق؛ يعني: على الحقيقة، وبين قولك على المجاز:
صام نهاره وقام ليله، وجرى النهر، وسار الطريق، على المجاز، فستجد في الثاني روعة
وطرافة في التعبير لا تجدها في الأول. وهذا أثر من آثار المجاز العقلي في التخييل.
***
المجاز
العقلي يفيد المبالغة في التعبير:
والتخييل الذي يحدثه المجاز العقلي يؤدي إلى المبالغة في إثبات الفعل
لفاعله بطريق مؤكد، ففي قولك: أذل الحرص أعناق الرجال، جعلت الحرص فاعلًا للإذلال،
وأصله: أذل الله أعناق الرجال بسبب الحرص، فبلغت في تأكيد المعنى حين أسندت الفعل
إلى سببه، وهذا أبلغ في ذم الحرص من أسلوب الحقيقة.
وفي قولك: جرى النهر، مبالغة في كثرة الفعل وطغيانه، فقد جعلت النهر بضفافه
ومائه وكل ما يحتويه يجري، مع أن الجريان للماء فقط، وإذا صح أن يقع الفعل من
الفاعل المجازي وهو فرع فإن حدوثه من الأصل الذي هو الفاعل الحقيقي آكد فالمجاز
العقلي إثبات للحكم بالدليل، وأنت تعرف أن الدعوة المشفوعة بالبينة آكد وأقوى من
دعوى لا تؤيدها بينة ولا يؤازرها دليل.
***
المجاز
العقلي يفيد إيجاز القول:
هذا بالإضافة إلى ما في المجاز العقلي من الإيجاز الذي هو فن من فنون
البلاغة، ولا شك أن قولك: صام نهاره أوجز وأبلغ من قولك: صام فلان في نهاره،
وقولك: بنى الأمير المدينة أوجز وآكد في إثبات المعنى من قولك: بنى العمال المدينة
بأمر الأمير، وقولك: سال الوادي أكثر إيجازًا وأرقى بلاغةً من قولك: سال الماء في
الوادي؛ لما في المجاز من الإيجاز والمبالغة والتخييل.
***
مقالات مرتبطة
أقسام المجاز العقلي من حيث طرفيه
الفرق بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي
***
نخلص من هذا إلى أن بلاغة المجاز العقلي تكمن فيما يفيده من المبالغة في التعبير، وإيجاز القول، وإثارة الخيال،
عندما يسند الفعل إلى غير فاعله الحقيقي، كما ترجع بلاغة المجاز العقلي إلى أنه
يفتح أمام المتكلم الميدان للتفنن في القول، وتلوين العبارة، وإخضاع الكلام لما
يريد، وتشكيل البناء حسب ما يهدف إليه ويرمي، فهو يلجأ إليه لنفي تهمة أو لتخلص من
جريمة، أو لتحقيق مقصد من المقاصد، حيث يجد في إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي
مَيْدانًا رحبًا لتحقيق هذه المقاصد.
ويتضح لك هذا من خلال تأملك لشواهد الإمام عبد القاهر وأمثلته. انظر إلى
قوله -تبارك وتعالى-: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] تجد أن
الفعل قد أسند إلى مكانه، وفي هذا الإسناد تخييل مُحرِّك ومُثِير، إذ يصور لنا
الأرض فاعلةً جاهدةً تخرج أثقالها تقذف بنفسها ما بداخلها، فلا تُبقي في باطنها
شيئًا.
وتأمل معي الشواهد الذي أسند فيها الفعل إلى سببه أو إلى زمانه أو إلى
مكانه، نحو: بنى الأمير، ونهاره صائم، وليله قائم، وطريق سائر، ولاحظ ما فيها من
الإيجاز وتقليل الألفاظ، وفضلًا عما ذكرناه من إفادة الإيجاز، تجد التجوزَ في تلك
الأمثلة قد أفاد المبالغة في وقوع هذه الأفعال؛ لشدة اهتمام الأمير بالبناء،
وتأكيد كمال الصوم وتمام القيام، وسرعة السير في الطريق، وكثيرًا ما يلجأ المتكلم
إلى المجاز العقلي لتحقيق مقصد من المقاصد كما ذكرنا، فننظر مثلًا في ذلك إلى
قولهم: فلان قتله جهله، وقضى عليه غروره، فهم يريدون بهذا تبرئة القاتل من جريمة
قتله ونفي التهمة عمن قضى على غيره؛ وذلك بإسناد القتل إلى جهل المقتول وقضى إلى
غرور المقضي عليه وتكبره وعجرفته، فقد وجدوا في المجاز العقلي تحقيقًا لهذا
المقصد.
هذا؛ والمتكلم يحتاج في استخدامه لهذا المجاز أن يهيئ العبارة له، فليس كل
شيء كما يقول عبد القاهر يصلح لأن يُتعاطَى فيه هذا المجاز، بل تجدك في كثير من
الأمر وأنت تحتاج إلى أن تهيئ الكلام وتصلحه لذلك بشيء تتوخاه في النظم، وكلما هيأ
المتكلم العبارة لهذا المجاز، وجدته قد سارع أوقع في النفس وألطف وآكد وأبلغ.
وفي استطاعتك أن تتبع هذا الأسلوب في صوره المختلفة وعلاقاته المتعددة،
وتوازن بين حقيقة الإسناد ومجازه في كل منها؛ لتقف على أسرار بلاغة المجاز العقلي
من خلال شواهده في القرآن ومأثور كلام العرب شعرًا ونثرًا.
***