التناسب بين الآيات والسور لون من ألوان إعجاز القرآن الكريم


التناسب بين الآيات والسور لون من ألوان إعجاز القرآن الكريم

نهج القرآن الكريم منهجا فريدا في عرضه للقضايا التي عرض لها، خالف به سائر المناهج السابقة واللاحقة، التي اصطلحت في مناهجها أن تبنى على مقدمات، ومباحث متسلسلة، أو أبواب، وفصول، إلى غير ذلك من تقسيمات، في إطار مقاصد محدودة، ونتائج مرسومة.

فتراه يذكر طرفا من الشيء، ثم يتركه، ثم يعود إلى إتمامه، بطريقة لا تسأم النفوس هديه، ولا تستثقل حديثه، مراعيا في تسلسل نصوصه أن يقارب بين أفرادها، فتجد الآية متسقة في كلماتها، متآزرة مع أخواتها من الآي، وتلتقي السورة بالتي بعدها، والتي قبلها، برابط لا يجعل منها جنسا غريبا عنها، بل تبدو فيه كعقد نظمت حباته، ورتبت أبدع ترتيب، فكان بذلك معجزا بنظمه، بديعا في اتساقه، متناسبا في آياته، وسوره، وأجزائه.

هذا المنهج الفريد استرعى قلة من العلماء والمفسرين – قديما وحديثا –، فانكبوا على دراسته، وأفردوا له علما مستقلا، يدرس خصائصه، ويحدد معالمه، أطلقوا عليه اسم: علم المناسبة. فما المناسبة؟ وما أنواعها؟ وما فوائدها؟ وما موقف العلماء منها؟ وما المصنفات التي تكلمت عنها؟ ومن اهتم بذكرها من المفسرين؟ هذا ما سأقوم بالإجابة عنه في هذا البحث، الذي نحوت فيه منحى نظريًّا، على أن يتبعه بحث تطبيقي بإذن الله.

ترتيب سور القرآن الكريم وآيات:

نزل القرآن منجما في ثلاثة وعشرين عاما تقريبًا، وكان نزوله ملائما للوقائع والأحوال التي مرت فيها الدعوة الاسلامية، ومراعيا ما يتطلبه الزمن الذي نزل فيه. لذا يختلف ترتيب القرآن الكريم في النزول، عن ترتيبه في المصحف اختلافا كبيرًا، ومنشأ هذا الاختلاف هو اختلاف الهدف المقصود من كلا الترتيبين.

فهو في تريبه النزولي منهج لتأسيس دعوة، وأسلوب إقناع بعقيدة، وطريقة تبشير وإنذار، ودحض كامل لمنطق الإلحاد المريض، وهو في ترتيبه المصحفي أسلوب حياة، وبناء حضارة، ودستور للعالم كله، محيط بكل صغيرة وكبيرة من حاجاته ومطالبه، أحكم ترتيبه من هذه الوجهة، ليكون هداية للمؤمنين.

ثم إن التسلسل الزماني وإن ضم موضوعات متقاربة أحيانا، فإنه كثيرا ما يحمل ما اختلف من الموضوعات التي يصعب أن يربطها ناظم، لذا راعى القرآن في تسلسل نصوصه أن يقارب بين أفرادها، فحصل فيه التناسب من أصغر وحداته إلى أكبرها. ولو أنه جمع ورتب على حسب ترتيب نزوله، لفهم بعض الناس أن آياته خاصة بحوادثها، أو أنه حلول وقتية للمشكلات التي كانت على عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم - فحسب، والله تعالى يريد كتابه عاما خالدا لا يختص بعصر دون عصر، ولا بقوم دون قوم، لذلك اقتضت الحكمة أن يرتب ترتيبا يحقق هذا العموم، وهذا الخلود، ويبتعد عن الترتيب الزمني الذي نزل به، لحكمة كانت مناسبة حين نزوله.

فالقرآن كان معنيا بتأسيس دين جديد، بين قوم لا يدينون بالدين الحق، وآية ذلك أن الفترة المكية على طولها، كانت الدعوة فيها متجهة إلى بناء العقيدة، وترسيخها في أعماق الوجدان، وما ذاك إلا لأنها هي قوة الدفع للإنسان المؤمن، نحو الطاعة المطلقة لله – عز وجل –، في الأمر والنهي. وهذا التفريق في النزول، يدل دلالة واضحة على أن القرآن الكريم كلام الله العزيز الحكيم، وليس كلام بشر على الإطلاق، وأن عقلا بشريا مهما أوتي من القوة والحفظ والإحكام، لا يستطيع أن يذكر موضع فقرة من كلام سابق مضى عليه سنوات، فيضعها في مكانها، بحيث تلتحم وتتواءم مع سابقاتها، ولاحقاتها في اللفظ، والمعنى، والسياق، ولا يتأتى ذلك لو لم يكن ترتيب السور توقيفيًّا، كما هو الحال في ترتيب الآيات.

أ - تعريف الآية لغة واصطلاحا:

تطلق الآية في اللغة على معان متعددة منها: المعجزة، والعلامة، والعبرة، والأمر العجيب، والجماعة، والدليل.

وأما حد الآية القرآنية في الاصطلاح أوفي عرف القرآن: فهو قرآن مركب من جمل ولو تقديرا، ذو مبدأ ومقطع مندرج في سورة.

ومن الواضح البين مناسبة المعنى اللغوي للمعنى الاصطلاحي للآية القرآنية، فهي القرآن المعجز، وهي علامة على صدق الآتي بها – صلى الله عليه وسلم -، وفيها عبرة لمن أراد أن يعتبر، وهي من الأمور العجيبة، لسمو أسلوبها ومعناها، وفيها معنى الجماعة، لأنها مؤلفة من الحروف والكلمات، وفيها معنى الدليل، لأنها برهان على ما تضمنته من هداية وعلم.

ب - آراء العلماء في ترتيب الآيات:

ترتيب الآيات في سورها توقيفي ثابت بالوحي، وبأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكانت الآيات تتنزل عليه، ويأمر كتاب الوحي بوضعها في مكانها من السور بتبليغ من جبريل - عليه السلام -. وقد ترادفت النصوص على كون ترتيب الآيات توقيفيا، ونقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء منهم: الزركشي، حيث قال: فأما الآيات في كل سورة، ووضع البسملة في أوائلها، فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه. وقال مكي: ترتيب الآيات في السور، ووضع البسملة في الأوائل، هو من النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولما لم يأمر بذلك في أول براءة، تركت بلا بسملة. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: ترتيب الآيات أمر واجب، وحكم لازم، فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا.

تعريف السورة لغة واصطلاحا، وآراء العلماء في ترتيبها:

أ - تعريف السورة لغة، واصطلاحا:

اختلف العلماء في تحديد المعنى الذي اخذت منه السورة بمعناها القرآني، وأقرب الآراء إلى الصواب، أن تكون السورة مأخوذة من سورة البناء، أي القطعة منه، فكما أن البناء يقوم سورة بعد سورة، كذلك القرآن، فالله عز وجل نزله على رسوله – صلى الله عليه وسلم –، مفرقا في ثلاثة وعشرين عاما، حتى اكتمل بناؤه.

والسورة في الاصطلاح: طائفة من القرآن مستقلة، تشمل على آي ذي فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات. أو هي: الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص، بتوقيف من النبي – صلى الله عليه وسلم –.

ب: ترتيب السور القرآنية، وآراء العلماء في ذلك:

إذا كان الإجماع قد تحقق حول ترتيب الآيات، فهو لم يتحقق حول ترتيب سور القرآن على ما هي عليه في المصحف الآن، واختلفت أقوال العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال هي:

القول الأول: إن ترتيب السور على ما هو عليه الآن في المصحف، كان باجتهاد من الصحابة. وهو قول جمهور العلماء، ومنهم الإمام مالك، والقاضي أبو بكر بن الطيب في أحد قوليه،، ويستدلون على مذهبهم هذا بترتيب مصاحف بعض الصحابة، على خلاف ترتيب مصحف عثمان – رضي الله عنه وأرضاه -، كمصحف الإمام علي، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب -رضي الله عنهم أجمعين-.

القول الثاني: إن ترتيب السور كان بعضه بالتوقيف، وبعضه الآخر باجتهاد من الصحابة. قال أبو الحسين أحمد بن فارس: جمع القرآن على ضربين: أحدهما: تأليف السور، كتقديم السبع الطوال، وتعقيبها بالمئين، فهذا الضرب هو الذي تولاه الصحابة – رضوان الله عليهم -، وأما الجمع الآخر: فضم الآي بعضها إلى بعض، وتعقيب القصة بالقصة، فذلك شيء تولاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كما أخبر به جبريل عن أمر ربه – عز وجل-. ومال ابن عطية إلى هذا الرأي.

وذهب البيهقي في المدخل إلى أن القرآن كان على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – توقيفي إلا الأنفال، وبراءة، فإن ترتيبهما باجتهاد من عثمان – رضي الله عنه -، ووافقه عليه الصحابة، وقد استدل على استثناء هاتين السورتين بما أخرجه أحمد، وغيره، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر – بسم الله الرحمن الرحيم – ووضعتموها في السبع الطوال..؟ ما حملكم على ذلك..؟ قال عثمان: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان مما يأتي عليه من الزمان، ينزل عليه من السور ذوات العدد، وكان إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده ويقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يبين لنا أنها منها، وظننت أنها منها، فمن أجل قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر- بسم الله الرحمن الرحيم – ووضعتهما في السبع الطوال.

وتابعه السيوطي على ذلك فقال: والذي ينشرح إليه الصدر، ما ذهب إليه البيهقي، وهو: أن كل السور توقيفية سوى الأنفال وبراءة.

القول الثالث: وذهب إليه غير الجمهور: وهو أن ترتيب السور توقيفي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأن الصحابة حينما خافوا ذهاب بعض القرآن باستشهاد حفظته، جمعوه، وكتبوه، كما سمعوه من النبي – صلى الله عليه وسلم –، ولم يقدموا أو يؤخروا شيئا، واقتصر عملهم على جمع القرآن في موضع واحد، دون التعرض لترتيب سوره، إلا وفق ما سمعوه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، على هذا النسق والترتيب.

وروى الإمام القرطبي، عن ابن وهب، قال: سمعت سليمان بن بلال، يقول: سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة..؟ فقال ربيعة: قد قدمتا، وألف القرآن على علم مما ألفه.

وبمثل ذلك قال أبو جعفر النحاس، ومحمد بن حمزة بن نصر الكرماني.

والمختار من هذه الأقوال: أن تأليف السور على هذا الترتيب الذي عليه المصحف توقيفي، لا مجال للاجتهاد فيه، وذلك للأمور التالية:

1- إن استدلال أصحاب القول الأول باختلاف مصاحف الصحابة، يمكن رده: بأن مصحف عثمان – رضي الله عنه وأرضاه – لو كان اجتهاديا لما وافقوه على ذلك، لأنه ليس لمجتهد أن يقلد مجتهدا آخر، كما هو مقرر عند الأصوليين. ثم إن مصاحف الصحابة كانت خاصة بهم، جمعت إلى القرآن بعض مسائل العلم، وبعض المأثورات، فهي إلى كتب العلم أقرب منها إلى المصاحف المجردة، ومن هنا وجدنا الذين استنسخوا المصاحف العثمانية، لم يعتمدوا عليها، بل اعتمدوا على جمع أبي بكر، الذي اعتمد على ما جمع بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا فقد عدلوا جميعا عن هذه المصاحف، وساروا على ما سار عليه الصحابة جميعا، ووافقوا على مصاحف عثمان، وما فيها من لفظ وترتيب، وترك ما سواها، فلو كان الترتيب بالاجتهاد لظلوا على اجتهادهم، وبهذا ظهر بطلان هذا القول، ويؤكد الألوسي ذلك بقوله: وبالجملة بعد إجماع الأمة على هذا المصحف، لا ينبغي أن يصاخ إلى آحاد الأخبار، ولا يشرأب إلى تطلع غرائب الآثار.

أما ما ذهب إليه البيهقي، والسيوطي، بأن ترتيب السور توقيفي، باستثناء سورتي الأنفال، وبراءة، فيرد عليه من وجهين:

أولا: إن هذا الحديث غير صحيح، لقول الترمذي فيه: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس، ويزيد هذا مجهول الحال.

وقال الذهبي: عوف الأعرابي: قيل: كان يتشيع، وقد وثقه جماعة، وجرحه جماعة، وكان داود بن أبي هند يضربه ويقول: ويلك يا قدري. وقال بندار: والله لقد كان عوف قدريا، رافضيا، شيطانا.

وأما يزيد فقد اختلفوا فيه، هل هو ابن هرمز أو غيره..؟ وقد ذكره البخاري في كتاب الضعفاء، باسم: يزيد الفارسي، لاشتباهه فيه، وحيث أنه قد انفرد بهذا الحديث، فلا يحتج به في شأن القرآن، الذي يطلب فيه التواتر.

وقال الذهبي: قال فيه النسائي وغيره: متروك، وقال الدارقطني، وغيره: ضعيف، وقال أحمد: كان منكر الحديث.

فإذا كان الحديث بهذه المكانة من الضعف، ولم يرتضيه إلا القليل الذين قوموه، ولم يخرجوه عن أقل درجات القبول، فكيف نقبله وأمر القرآن الذي هو في أعلى درجات القمة نقلا، ونظما، وترتيبا..؟

وثانيا: على فرض صحة هذه الرواية، فقوله في الحديث: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان مما يأتي عليه من الزمان يدل في الجملة على التوقيف.

وقوله: فقبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يبين لنا أنها منها بعيد، إذ الأنفال نزلت في السنة الثانية عقب غزوة بدر، والتوبة نزلت في أواخر السنة التاسعة بعد غزوة تبوك، وبعد خروج أبي بكر للحج على رأس المسلمين، فكيف يعقل أن يظل الرسول – صلى الله عليه وسلم – زهاء خمسة عشر شهرا ولا يبين للناس أنها منها، أو من غيرها..؟ إنه يكون بذلك قد تأخر عن البيان وقت الحاجة إليه، بل انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل البيان، وحاشاه – صلى الله عليه وسلم –أن يفعل ذلك، مع ورود الأحاديث الصحاح بأنه كان يعرض القرآن كله في رمضان من كل عام على جبريل، وعرضه في العام الذي توفي فيه مرتين، وحينئذ فأين كان يضع هاتين السورتين في قراءته حينما كان يعرضهما على جبريل..؟ ثم إن إطلاق الاسم على كل منهما، واختلافه فيهما، مما يعين أن هذه غير تلك، وقد سمى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كلا منهما.

أما قوله: فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم فإن البسملة لا تخضع لهوى الكتاب إثباتا وحذفا، أخرج أبو داود والحاكم، وصححاه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يعلم ختم السورة حتى ينزل: بسم الله الرحمن الرحيم. وفي رواية: فإذا نزلت: بسم الله الرحمن الرحيم، علم أن السورة قد انقضت. قال الحافظ أبو شامة: هذا حديث حسن.

وأما ما قاله المفسرون في أسباب عدم ذكر البسملة في أول سورة براءة، فهو التماس للحكمة، ومن ذلك ما ذكره ابن عربي، عن سر حذف البسملة من بداية سورة التوبة، حيث يقول: وأما سورة التوبة عند من لم يجعلها من سورة الأنفال، فيجعل لها اسم التوبة، وهي الرجعة الإلهية على العباد بالرحمة، والعطف، فقام اسم التوبة مقام البسملة، فإن الرجعة على عباده تعالى لا تكون إلا بالرحمة.. والله أعلم.

هذا وقد قام الإجماع على أن سورة الأنفال سورة برأسها غير سورة التوبة، ولذا قال الزركشي: إن سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة بإجماع أهل الحل والعقد.

فالقرآن الكريم كله آية آية، وسورة سورة، مرتب من الله تعالى، وقد بلغه عنه رسوله الأمين – صلى الله عليه وسلم –، لصحابته الكرام، فرتبوه كما سمعوه.

2- إن هناك سورا متحدة في المطلع رتبت ولاء، كالحواميم والطواسين، ولم ترتب المسبحات تباعا، بل فصل بينهما بالمجادلة، والممتحنة، والمنافقون، وأفردت الاسراء في النصف الأول، وفصل بين الشعراء والقصص، وهما يبدءان بـطسم، وب طس النمل مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات ولاء، وأخرت طس عن القصص، أما وأنه قد حصل الفصل بين المتماثلات والمتقاربات من السور، مع عدم مراعاة التناسب في الطول والقصر، فهذا يدل على أن الترتيب توقيفي.

3- إن الذي قام بمهمة النسخ للمصاحف، مع النفر القرشيين في عهد عثمان – رضي الله عنه وأرضاه -، هو زيد بن ثابت، وهو نفسه أشرف على جمع القرآن في الصحف التي نسخت منها المصاحف، على عهد أبي بكر – رضي الله عنه -، وهو كذلك أحد كتاب الوحي، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن، وسمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ القرآن على هذا الترتيب، وإلا على أي ترتيب كان الرسول – صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن..؟

وقد جعل ابن الزبير الغرناطي هذا الخلاف بين العلماء لفظيا، فقال: إن كان بتوقيف منه – صلى الله عليه وسلم – فلا مجال للخصم، وإن كان مما فوض فيه الأمر إلى الأمة بعده، فقد أعمل الكل من الصحابة جهده، وهم الأعلياء بعلمه، والمسلم لهم في وعيه وفهمه.

وإذا كانت العلماء قد تباينت آراؤهم ظاهريا، فإن الرأي الراجح أن ترتيبها كان توقيفيا، وذلك لتظافر النصوص على أن الأغلب من سور القرآن معلومة الترتيب وقت نزول الوحي، وأن جبريل – عليه السلام – كان يعرضه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في العام مرة، وعرضه عليه في العام الذي قبض فيه مرتين.

كما أن هذا الترتيب يقوي الوحدة المعنوية بين سور الكتاب المبين، ويقطع الطريق أمام المشككين والطاعنين. أضف إلى ذلك: إجماع الأمة بدءا من عصر الصحابة على هذا الترتيب، فصار الالتزام به أمر لا بد منه.

وقد زعم بعض المستشرقين أن القرآن لم يكن مرتبا، وأنه كان مختلطا في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وقد رتبه أبو بكر – رضي الله عنه -، لذا استحلوا لأنفسهم أن يجعلوا له ترتيبا خاصا، يختلف عن ترتيب المصحف الحالي في كثير من السور، معتمدين على الأسلوب، ومحتويات السورة. والذي ينظر فيما حاوله المستشرقون بترتيبهم غير المسبوق، يجده عبثا لا يليق بقدسية القرآن الكريم. وقد ظهرت أصوات متأثرة بالدراسات الاستشراقية، تنادي بإعادة ترتيب سور القرآن حسب نزولها، ثم أخفت الله هذه الأصوات، واطمأن المسلمون على ما أجمع عليه الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين -.

***

المناسبات: معناها، أنواعها، وموقف العلماء منها

معنى المناسبة لغة، واصطلاحا:

المناسبة لغة: قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: النون، والسين، والباء، كلمة واحدة، قياسها اتصال شيء بشيء، منه النسب، سمي لاتصاله، وللاتصال به تقول: نسبت أنسب. وهو نسيب فلان. والنسيب: الطريق المستقيم، لاتصال بعضه من بعض.

وقال في لسان العرب: وتقول: ليس بينهما مناسبة، أي: مشاكلة.

والمشاكلة بمعنى: المماثلة. تقول: هذا شكل هذا، أي: مثله.

فالمناسبة لغة تعني: الاتصال، والمقاربة، والمماثلة.

والمناسبة في الاصطلاح: هي بيان: وجه الارتباط بين الجملة والجملة في الآية الواحدة، أو بين الآية والآية في الآيات المتعددة، أو بين السورة والسورة.

أو كما يقول البقاعي: علم تعرف منه علل ترتيب أجزاء القرآن.

ويبدو توافق المعنى اللغوي للمعنى الاصطلاحي للمناسبة. فكلاهما يعني: أن الآية وجارتها شقيقتان، يربط بينهما رباط من نوع ما، كما يربط النسب بين المتناسبين، غير أن ذلك لا يعني أن تكون الآيتان أو الآيات متماثلة كل التماثل، بل ربما يكون بينها تضاد، أو تباعد في المعنى، المهم أن هناك صلة، أو رابط ما يربط بين الآيتين، أو يقارب بينهما، سواء توصل إليها العلماء أم لا، فقد تظهر أحيانا، وتختفي أحيانا أخرى، وفي هذا مجال لتسابق الأفهام.

فوائد معرفة المناسبة بين الآيات:

إذا كان لمعرفة سبب النزول أثر في فهم المعنى، وتفسيرالآية، فمعرفة المناسبة بين الآيات تساعد كذلك على حسن التأويل، ودقة الفهم، وإدراك اتساق المعاني بين الآيات، وترابط أفكارها، وتلاؤم ألفاظها، فالقرآن الكريم فيه كثير من فنون العقائد، والأحكام، والأخلاق، والوعظ، والقصص، وغيرها من مقاصد القرآن التي جعلها الله سبحانه هداية للبشر، والتي تدور جميعها على الدعوة إلى الله، والقرآن يبث هذا المعنى من خلال المقاصد، والأغراض الموزعة على كافة الآيات والسور، فلو جمع كل نوع على حدة، لفقد القرآن بذلك أعظم مزايا هدايته المقصودة.

قال محمد رشيد رضا: وقد خطر لي وجه، وهو الذي يطرد في أسلوب القرآن الخاص، في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض، من عقائد، وحكم، ومواعظ، وأحكام تعبدية ومدنية، وغيرها، وهو نفي السآمة عن القارئ والسامع من طول النوع الواحد منها، وتجديد نشاطها ومنهجها.

فمن عادة القرآن أن يجمع بين الفنون المختلفة في سورة واحدة، في تنسيق بديع، يصل بها إلى الذروة في الإعجاز البلاغي، والإحكام البياني، وروعة الأسلوب، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.

وقال الإمام الزركشي: واعلم أن المناسبة علم شريف، تحرز بها العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول... ثم يقول: وفائدته: جعل أجزاء الكلام بعضها آخذ بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء.

وقال الشيخ أبو بكر النيسابوري: إن إعجاز القرآن البلاغي لم يرجع إلا إلى هذه المناسبات الخفية، والقوية بين آياته وسوره، حتى كأن القرآن كله كالكلمة الواحدة، ترتيبا وتماسكا.

ويقول الزمخشري في كشافه: وهذا الاحتجاج، وأساليبه العجيبة التي ورد عليها، مناد على نفسه بلسان ذلق، أنه ليس من كلام البشر، لمن عرف، وأنصف من نفسه.

وقال في موضع آخر: فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه، ومكانة اضماده، ورصافة تفسيره، وأخذ بعضه بحجز بعض، كأنما أفرغ إفراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوى، وأخرس الشقاشق.

وقال فخر الدين الرازي في ختام تفسيره لسورة البقرة: ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة، وفي بدائع ترتيبها، علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب ألفاظه وشرف معانيه، فهو ايضا بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا: إنه معجز بسبب اسلوبه أرادوا ذلك.

 

أنواع المناسبات بين أجزاء الآية الواحدة:

أولا: المناسبة بين أجزاء الآية الواحدة:

إذا تدبرنا سورة من سور القرآن الكريم، أخذتنا روعة ألفاظها في سهولتها نطقا، وقرب مأخذها معنى، ومجيئها على قدر المعنى الذي صيغت له. والمتأمل لألفاظ القرآن الكريم، يجدها وضعت في موضعها من النظم الكريم، فهي مفردات مختارة منتقاة، واللفظ في موضعه متناسب من حيث اللفظ أو المعنى، وجاء على قدر المعنى الذي صيغ له، بحيث لو رفعت اللفظ من الآية، أو استبدلته بآخر، لاختل نظامها، وضاع المراد منها.

يقول ابن عطية: وكتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظة غيرها لم يوجد، ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب –يومئذ – في سلامة الذوق، وجودة القريحة.

والتناسب بين أجزاء الآية، يكون من حيث اللفظ أو المعنى:

أما من حيث اللفظ: ونعني به مناسبة اللفظ لألفاظ الآية: وذلك مثل قوله تعالى: قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين.

فقد جاءت الألفاظ بحيث يلائم بعضها بعضا، وذلك بأنه أتى في الآية بألفاظ متناسبة في الغرابة.

فالتاء: أغرب ألفاظ القسم، وذلك لأنها أقل استعمالا من الواو، والباء.

وأتى بتفتؤا وفتئ: أغرب صيغ الأفعال التي تفيد الاستمرار من أخوات كان.

وأتى بلفظ حرضا: وهو أغرب ألفاظ الهلاك. فاقتضى حسن الوضع في النظم، أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها توخيا في حسن الجوار، ورعاية في ائتلاف المعنى بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع، وتتناسب في النظم. وجاءت هذه الألفاظ غريبة لتتوافق مع حال يعقوب – عليه السلام - التي وصل إليها، وإشفاق أبنائه على حاله، وخشيتهم عليه من الهلاك.

وأما تناسب اللفظ من حيث المعنى:

ففي مثل قوله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، فإنه تعالى لما نهى عن الركون إلى الظالمين وهو الميل إليهم، والاعتماد عليهم، وكان ذلك دون مشاركتهم في الظلم، أخبر أن العقاب على ذلك، دون العقاب على الظلم.

ومن ذلك قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم}، وقوله سبحانه: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم..

فقدم رزق الآباء في آية الأنعام على الأبناء، وفي آية الإسراء قدم رزق الأبناء على الآباء، وذلك أن الكلام في الآية الأولى، موجه إلى الفقراء دون الأغنياء، فهم يقتلون أولادهم من الفقر الواقع بهم، لا أنهم يخشونه، فأوجبت البلاغة تقديم عدتهم بالرزق، وتكميل العدة برزق الأولاد.

وفي الآية الثانية آية الإسراء، الخطاب لغير الفقراء، وهم الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر، لا أنهم مفتقرون في الحال، وذلك أنهم يخافون أن تسلبهم كلف الأولاد ما بأيديهم من الغنى، فوجب تقديم العدة برزق الأولاد، فيأمنوا ما خافوه من الفقر، فقال: لا تقتلوهم فإنا نرزقهم وإياكم، أي أن الله جعل معهم رزقهم، فهم لا يشاركونكم في رزقكم، فلا تخشوا الفقر.

ومن المناسبات بين أجزاء الآية:

مراعاة ما يقتضيه التعبير والمعنى والسياق، مع مراعاة الانسجام في فواصل الآيات، لما لذلك من تأثير كبير على السمع، ووقع مؤثر في النفس. من ذلك قوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار.

وقوله سبحانه: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم. ولا شك أن خاتمة كل من الآيتين تنسجم مع الآيات فيهما، ولكن السياق أيضا يقتضي الفاصلة التي ختمت فيها كل آية من الآيتين، ذلك أن الآية في سورة إبراهيم، في سياق وصف الإنسان وذكر صفاته، فختم الآية بصفة الإنسان. وأن الآية الثانية في سورة النحل: في سياق صفات الله تعالى، فذكر صفاته.

ومن ذلك قوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم، ففي الآية أن جزاء السارق والسارقة قطع أيديهما، والتنكيل بهما جزاء سرقتهما وخيانتهما. قال الأصمعي: كنت أقرأ سورة المائدة، ومعي أعرابي، فقرأت هذه الآية:

والسارق والسارقة.. فقلت: والله غفور رحيم سهوا، فقال الأعرابي: كلام من هذا..؟ فقلت: كلام الله، قال: أعد، فأعدت والله غفور رحيم ثم تنبهت، فقلت: والله عزيز حكيم، فقال: الآن أصبت، فقلت: كيف عرفت..؟ قال: يا هذا، عز، فحكم، فأمر بالقطع، فلو غفر ورحم، لما أمر بالقطع.

ومن بديع اختيار الفاصلة:

قوله تعالى: فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون.

وقوله سبحانه: وخسر هنالك الكافرون. فقد ختم الآية الأولى بقوله: المبطلون، وختم الآية الثانية بقوله الكافرون، وذلك لأن كل كلمة مناسبة للسياق الذي وردت فيه، فالأولى وردت في سياق الحق، ونقيض الحق الباطل. والثانية في سياق الإيمان، ونقيض الإيمان الكفر. فما أجله من كلام، وما أعظمه من تعبير.

ثانيا: المناسبة بين الآيات:

أما ارتباط الآية بالآية، فينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يظهر الارتباط بين الآية الثانية والآية الأولى، بأن كانت الآية الثانية سببا للأولى، أو مفسرة لها، أو مؤكدة، أو بدلا، أو جاءت معترضة، إلى غير ذلك من وسائل الارتباط. وهذا النوع لا يتطلب كثير جهد في استخراج المناسبة، ما دام الطالب لمعرفتها، واستخراجها، مستوفيا للشروط التي يجب توافرها في المفسر، لأن الترابط واضح.

ومن أمثلة هذا القسم:

 أ‌- أن تكون الآية الثانية سببا للأولى: وذلك مثل قوله تعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون. ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون.

ووجه النظم: أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون، قال في الآية الثانية: ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات أي: ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات.

ب‌-أن تكون الآية الثانية تفسيرا للأولى: وذلك مثل قوله تعالى: وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبل الرشاد. يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار.

قال الآلوسي: وترك العطف في النداء الثاني وهو: يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع.. لأنه تفسير لما أجمل في النداء قبله من الهداية إلى سبيل الرشاد، فإنها التحذير من الإخلاد إلى الدنيا، والترغيب في إيثار الآخرة على الأولى، وقد أدى ذلك فيه على أتم وجه وأحسنه.

ومثله قوله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا.

فقوله: إذا مسه الشر … الآيات تفسير لقوله: هلوعا. ويؤتى بالتفسير إذا كان في الكلام خفاء يحتاج إلى ما يكشفه ويبينه.

ث - أن تكون الآية الثانية تأكيدا للأولى:

مثل قوله تعالى: ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجوة وتدعونني إلى النار. تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار.

فقوله: ويا قوم ما لي أدعوكم.. تأكيد لما قبله، فقد كرر نداءهم إيقاظا لهم عن سنة الغفلة، واهتماما بالمنادى له، ومبالغة في توبيخهم على ما تقابلون به دعوته.

ج - أن تكون الآية الثانية بدلا من الأولى: مثل قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم.

وقوله تعالى: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، فإن لفظ الصراط الثانية في الآيتين بدل من الأولى فيهما، والبدل موضح، ومبين للمبدل منه.

ح - أن تكون الآية معترضة: -

فبالإضافة إلى أن الاعتراض يقع مؤكدا لمفهوم الكلام الذي وقع فيه، ومقررا له في نفوس السامعين، فإنه يأتي لأغراض بلاغية،. منها:

أنه يأتي لتعظيم المقسم به، وتفخيمه، وذلك كما في قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم.

ففي هذا الكلام اعتراضان: أحدهما قوله: وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، لأنه اعتراض بين القسم الذي هو: فلا أقسم بمواقع النجوم، وبين جوابه: إنه لقرآن كريم.

والثاني: قوله: لو تعلمون، وهو اعتراض بين الموصوف الذي هو: قسم، وبين صفته، الذي هو: عظيم.

وفائدة الاعتراض: هو تعظيم شأن المقسم به في نفس القارئ، أو السامع، أي: أنه من عظم الشأن وفخامة الأمر، بحيث لو علم ذلك لوفى حقه من التعظيم.

فالاعتراض ليس وسيلة للتحسين فحسب، وليس حشوا يمكن الاستغناء عنه، بل إنه إذا وقع موقعه المناسب، كان من مقتضيات النظم، ومن مقتضيات المقام، ولو أسقط من السياق سقط معه جزء أصيل من المعنى، فهو يحمل بجانب كونه جزءا من المعنى الأصلي، معاني فرعية أخرى، تلتحم جميعا في تكوين معنى كلي..

القسم الثاني: وهو ما لا يظهر الارتباط فيه بين الآيتين:

لقد جرت عادة القرآن إذا ذكر أحكاما، أن يذكر بعدها وعدا أو وعيدا، ليكون باعثا على العمل، ثم يذكر آيات توحيد، وتنزيه، ليعلم عظم الآمر والناهي. فتبدو - في الظاهر - كل آية مستقلة عن الأخرى، وأنها خلاف النوع المبدوء به.

وينقسم هذا القسم إلى قسمين:

أ – أن تكون الآية الثانية معطوفة على ما قبلها بحرف من حروف العطف، فتشاركها في الحكم، ولا بد أن تكون بينهما جهة جامعة، إذ لا بد منها عند العطف، كقوله تعالى: والله يقبض ويبسط، فالجهة الجامعة هي: التضاد. وأمثلة هذا القسم تظهر في: الطباق، والمقابلة.

أما الطباق: فهو أن يجمع بين متضادين مع مراعاة التقابل، مثل: البياض، والسواد، والليل، والنهار. وهو قسمان: لفظي، ومعنوي.

فاللفظي، مثل قوله تعالى: فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون.

وكقوله تعالى: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.

وأما الطباق المعنوي، فمثل قوله تعالى: قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون. قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون. ومعناه: ربنا يعلم إنا لصادقون.

وأما المقابلة: وهي ذكر الشيء مع ما يوازيه في بعض صفاته، ويخالفه في بعضها. وهي قريبة من الطباق، ويفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الطباق لا يكون إلا بين الضدين غالبا. والمقابلة: تكون لأكثر من ذلك غالبا.

ثانيهما: الطباق لا يكون إلا بالأضداد. والمقابلة تكون بالأضداد وغيرها. فالمقابلة أعم من الطباق، وعليه فكل طباق مقابلة، وليس العكس.

 مثال المقابلة: قوله تعالى: فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب وتولى، فقابل بين: صدق، وكذب. وبين صلى: الذي هو الإقبال على الله تعالى، وتولى: الذي هو الإعراض عنه.

ب: ألا تكون الآية الثانية معطوفة على الأولى:

إذا لم يكن هناك عطف بين الجملتين، فلا بد إذن من دعامة يعتمد عليها في الربط، وتؤذن بارتباط الكلام، وهي قرينة معنوية يدركها المسستنبط ببصيرته النفاذة، كإلحاق النظير بالنظير، كما في قوله تعالى من سورة الأنفال: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. ثم بين أوصافهم، وختم ذلك بقوله: أولئك هم المؤمنون حقا. وذكر جزاءهم فقال: لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم.

والنظير هنا: في أن الغنائم لما انتزعت من أيدي المجاهدين في أول الأمر، وجعلت لله والرسول - صلى الله عليه وسلم -، تألم بعضهم لحرمانه منها، فألحق الله ذلك بكراهيتهم للخروج إلى الجهاد في أول الأمر، وتبينهم بعد ذلك أن في الخروج الغنيمة والنصر، وعز الإسلام، وهلاك الأعداء، كأنه يقول: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.

ومن الروابط: الاستطراد:

ومثاله: قصة آدم في سورة الأعراف، وفيها بدو السوأة، واستطرادا في هذا الباب قال: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا، ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقى. ثم رجع إلى تكملة القصة فقال: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة.

ومن أوجه الربط: الانتفال من حديث إلى حديث تنشيطا للسامع، والربط بين الحديثين باسم الإشارة. ومثاله: أنه – سبحانه – لما تحدث عن بعض الأنبياء في سورة صّ، ختم هذا الحديث بقوله: واذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار. هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب. فقوله: هذا ذكر: يشير إلى ذكر الأنبياء، ثم يشرع في ذكر الجنة، وبعد ذلك يشرع في ذكر النار، فيقول: هذا وإن للطاغين لشر مآب. جهنم يصلونها فبئس المهاد.

ومن الروابط: حسن التخلص:

كأن يصل إلى غرضه أثناء الحديث عن شيء، إلى شيء آخر، كالحديث عن موسى - عليه السلام - في سورة الأعراف في أكثر من أربعين آية، ثم يصل إلى الحديث عن محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبعد ذلك يعود لإتمام الحديث عن موسى - عليه السلام -، قال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.. الآيات وبعد ذلك يعود فيقول: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.

أنواع المناسبات بين آيات السورة الواحدة أو بين السورة وغيرها:

إن التآلف والترابط والتناسب كما هو حاصل بين آيات القرآن الكريم في السورة الواحدة، حاصل بين سور القرآن، فأنت لا تقرأ سورة من سور القرآن بإمعان، إلا وتجد بينها وبين سابقتها مناسبة ورابطة، تظهر سر الإعجاز في ترتيب سوره.

وهو على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مناسبة فواتح السور لخواتمها:

من ذلك ما في سورة القصص، فقد بدأت بقصة موسى عليه السلام، والوعد برده إلى أمه، ودعائه ألا يكون ظهيرا للمجرمين. ثم ختم الله السورة بتسلية رسولنا – صلى الله عليه وسلم – بخروجه من مكة، ووعده بالرجوع إليها، إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد وقد عاد إليها فاتحا منتصرا، وقيل له: فلا تكونن ظهيرا للكافرين.

وسورة المؤمنون افتتحت بقوله تعالى: قد أفلح المؤمنون، وورد قبل آخرها بآية: إنه لا يفلح الكافرون.

وسورة صّ بدأها بالذكر في قوله تعالى: صّ والقرآن ذي الذكر. وقال قبل آخرها بآية: إن هو إلا ذكر للعالمين.

 وفي سورة القلم نفى في أولها ما رمي به – صلى الله عليه وسلم - من الجنون، فقال: ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وفي آخرها حكى قول المشركين، فقال:

ويقولون إنه لمجنون. فسبحان من نفى عن رسوله التهمة قبل حكايتها.

القسم الثاني: مناسبة افتتاح السورة لخاتمة ما قبلها:

قال الزركشي: إذا اعتبرت افتتاح كل سورة، وجدته في غاية المناسبة لما ختمت به السورة قبله، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى. كقوله سبحانه في آخر سورة الطور: ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم. ثم قال في السورة التي تليها: والنجم إذا هوى.

وافتتاح سورة الحديد بالتسبيح بقوله تعالى: سبح لله ما في السماوات والأرض، فإنه في غاية المناسبة لختام سورة الواقعة التي قبلها، والتي أمرت به بقوله فسبح باسم ربك العظيم.

القسم الثالث: مناسبة افتتاح السورة لمقاصدها:

فسورة الإسراء افتتحت بالتسبيح بقوله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده.

وسورة الكهف وهي تالية لها في الترتيب افتتحت بالحمد، بقوله تعالى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قال ابن الزملكاني: إن سورة سبحان لما اشتملت على الإسراء الذي كذب المشركون به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكذيبه تكذيب لله سبحانه وتعالى، أتى ب سبحان لتنزيه الله تعالى عما نسب إلى نبيه من الكذب. وسورة الكهف لما أنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف، وتأخر الوحي، نزلت مبينة أن الله لم يقطع نعمته عن نبيه، ولا عن المؤمنين، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة. وهذا باب واسع، يحتاج إلى بحث مستقل، أكتفي منه بهذا القدر.

 موقف العلماء من التناسب، ومصنفاتهم في هذا العلم:

أ - المؤيدون لوجود التناسب بين الآيات والسور:

تعد مناسبة الآيات والسور، وارتباط مبانيها، من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وهو علم لم يكتب له الظهور إلا في أوائل القرن الرابع الهجري، ويعد أبو بكر النيسابوري أول من سبق إلى هذا العلم، وكان متفقها في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسي: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه..؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة ملاصقة للأخرى.؟ وكان يلقي باللائمة على علماء بغداد لإهمالهم علم المناسبات.

والمتدبر لكتاب الله يجد أنه بالرغم من نزوله مفرقا منجما، لكنه تم مترابطا محكما، قال أبو بكر بن العربي في كتابه سراج المريدين: ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني، علم عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورددناه إليه.

وقد حظي هذا العلم باهتمام الإمام فخر الدين الرازي توفي سنة 606 هـ، الذي وصفه بقوله: إن أكثر لطائف القرآن مودعة فيه.

وقال محيي الدين ابن عربي لا بد من مناسبة بين آي القرآن، وإن كان بينهما بعد ظاهر، ولكن لا بد من وجه جامع بين الآيتين مناسب، هو الذي أعطى أن تكون هذه الآية مناسبة لما جاورها من الآيات، لأنه نظم إلهي، وما رأينا أحدا ذهب إلى النظر في هذا إلا الرماني توفي سنة 386هـ من النحويين، فإن له تفسيرا للقرآن، أخبرني من وقف عليه أنه نحا في القرآن هذا المنحى.. ثم يقول: إن مسمى الآية إذا لزمتها أمور من قبل أو بعد، يظهر من قوة الكلام أن الآية تطلب تلك اللوازم، فلا تكمل الآية إلا بها، وهو نظر الكامل من الرجال، فمن ينظر في كلام الله على هذا النمط، فإنه يفوز بعلم كبير، وخير كثير، فإن الحق سبحانه، لا يعين لفظا، ولا يقيد أمرا، إلا وقد أراد من عباده أن ينظروا فيه، من حيث ما خصصه وأفرده لتلك الحالة، أو عينه بتلك العبارة، ومتى لم ينظر الناظر في هذه الأمور بهذه العين، فقد غاب عن الصواب المطلوب.

 وقال الإمام برهان الدين ابراهيم بن عمر البقاعي: علم مناسبات القرآن: علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه الحال، وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها، ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها، فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة، وكانت نسبته من علم التفسير، نسبة علم البيان من النحو.

ويرى الشيخ سعيد حوى في مقدمة تفسيره: أن علماءنا دندنوا حول ضرورة البحث عن الصلة والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة، وعن الصلة والمناسبة بين سور القرآن عامة، ثم يقول: ولكن وإن عرج بعض المفسرين على هذا الموضوع، فإن أحدا لم يستوعب القرآن كله بذكر الربط والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة، وبين سور القرآن بعضها مع بعض على ضوء نظرية شاملة.

ب - المعارضون لوجود التناسب بين الآيات والسور:

ورد عن بعض العلماء إنكار لهذ الفن، بزعم أنه تكلف محض، وكان من أبرزهم: سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، والإمام المفسر محمد بن علي الشوكاني.

قال سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام: واعلم أن من الفوائد أن من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعص، ويتشبث بعضه ببعض، لئلا يكون مقطعا متبرا، وهذا بشرط أن يقع الكلام في أمر متحد، فيرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة، لم يشترط فيه ارتباط أحد الكلامين بالآخر، ومن ربط ذلك فهو متكلف، لما لم يقدر عليه إلا بربط ركيك، يصان عن مثله حسن الحديث، فضلا عن أحسنه، فإن القرآن نزل على الرسول – صلى الله عليه وسلم - في نيف وعشرين سنة، في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة غير مؤتلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض، إذ ليس يحسن أن يرتبط تصرف الإله في خلقه وأحكامه بعضه ببعض، مع اختلاف العلل والأسباب.. ثم أخذ يضرب أمثلة لذلك.

فسلطان العلماء: كما يظهر من كلامه -، لم يعارض وجود المناسبة والترابط بين الكلام، لكنه اشترط أن يقع الكلام في أمر متحد، وما عدا ذلك فهو يراه أمر متكلفا.

 أما الإمام محمد بن علي الشوكاني: فقد أنحى باللوم، بل بالتقريع على أئمة التفسير القائلين بالتناسب في القرآن الكريم، وأطال في الاستدلال لرأيه، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى في سورة البقرة -: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم.

وقال: اعلم أن كثيرا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه، في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية، المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء، فضلا عن كلام الرب سبحانه.

ونرد عليه بأن للمناسبة فائدة وأي فائدة، إذ أنها تساعد في ترجيح رأي على آخر إذا تساويا في القوة، وكان أحدهما أليق بارتباط أجزاء الآية، أو الآيات، فإن العقل يتوجه بداهة لترجيح ما هو الأولى بنظم الكلام.

أما قوله بأن فن المناسبة كلام بمحض الرأي المنهي عنه فغير مقبول، لأن الرأي المنهي عنه هو الرأي الناشئ عن الهوى، أو غير الملتزم بضوابط التفسير.

قال الإمام الشاطبي: إن إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه، وجاء أيضا ما يقتضي إعماله، فما كان موافقا كلام العرب، والكتاب والسنة، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما، أما الرأي غير الجاري على موافقة العربية، أو غير الجاري على الأدلة الشرعية، فهذا هو الرأي المذموم، المنهي عنه.

كما أن ذكر المناسبة بين الآيات والسور: ليس تكلما بمحض الرأي، بل هو يبرز الوحدة المعنوية بين آيات وسور الكتاب العزيز، ويرسخ الاعتقاد بإعجاز القرآن الكريم، لما يبديه هذا العلم من لطائف القرآن وأسراره، كما أنه يعزز رأي العلماء الذين يرون أن ترتيب السور توقيفي، لا اجتهاد فيه. أما قوله: فقد جاءوا بتكلفات وتعسفات..الخ: ففيه حيف على المفسرين، فما أكثر المناسبات الذكية التي يقبلها العقل، ويطرب لها الذوق، وإذا قمنا برفض أي علم لأخطاء وقعت فيه، لما بقي لنا علم، ولا تفسير الشوكاني نفسه، لما فيه من روايات ضعيفة، وموضوعة، يوردها دون أن ينبه عليها.

وتابعهما في هذا الرأي من المحدثين الدكتور: صبحي الصالح، حيث قال: فإن وقع – أي التناسب – في أمور متحدة، مرتبطة أوائلها بآخرها، فهذا تناسب معقول مقبول، وإن وقع على أسباب مختلفة، وأمور متنافرة، فما هذا من التناسب في شيء.

وقد خالف جمهور الأمة أصحاب هذا الرأي، ووهموا قائليه، وأكدوا وجود التناسب بين الآيات والسور. ومن هؤلاء: الشيخ ولي الله محمد بن أحمد الملوي المنفلوطي الشافعي، حيث قال:

قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المفرقة، وفصل الخطاب: أنها على حسب الوقائع تنزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا، مرتبة سوره كلها، وآياته بالتوقيف. إلى أن يقول:. والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها، أو مستقلة، ثم المستقلة: ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور، يطلب وجه اتصالها بما قبلها، وما سيقت له.

وأشار الإمام الشاطبي إلى تعدد القضايا في السورة الواحدة، وأكد أن هذا التعدد لا يمنع من وجود الترابط والتناسب بين الآيات، فقال: غير أن الكلام المنظور فيه، تارة يكون واحدا بكل اعتبار، بمعنى: أنه أنزل في قضية واحدة، طالت أو قصرت، وعليه أكثر سور المفصل. وتارة يكون متعددا في الاعتبار، بمعنى: أنه أنزل في قضايا متعددة، كسورة البقرة، وآل عمران، والنساء، واقرأ باسم ربك وأشباهها، ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة، أم نزلت شيئا بعد شيء. ويقول: فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النظم، واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم، ومنها ما هو المقصود في الانزال … ثم يقول: وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة، وإن اشتملت على معان كثيرة، فإنها من المكيات، وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان، أصلها معنى واحد، وهو: الدعاء إلى عبادة الله تعالى... إلى أن يقول: فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار.

 وإضافة لما سبق يمكنني القول: بأن التعدد والتنوع في القضايا والأغراض، هو نفسه الدافع إلى تلمس وجه المناسبة بين الآية وجارتها، أما إذا كان المعنى واحدا في آيات السورة، فلماذا نلتمس المناسبة..؟ وهل تعقد مناسبة بين الشيء ونفسه..؟

ثم إن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وتحداهم أن يأتوا بمثله، وتدرج معهم في التحدي، إلى أن اقتصر التحدي على سورة واحدة: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، لم يقولوا إنه مختلف القضايا والأغراض، لا رابطة تربطها، ولا سياق يجمعها. ولو كان في وسعهم – وهم أرباب الفصاحة، وفرسان البيان –، أن يجدوا ثغرة للنفاذ منها لقول مثل ذلك لما ترددوا.

كما أن من الواضح، أن كل من ألف كتابا مشتملا على مطالب متفرقة، وقضايا مختلفة، يلاحظ في ترتيبها مناسبة وارتباطا، فكيف بالحكيم المتعال..؟

ت - المفسرون وعلم المناسبات:

اعتنى كثير من المفسرين بعلم مناسبات القرآن الكريم في تفاسيرهم، على اختلاف مشاربهم، وكما دندنوا حول المناسبة بين الآيات، بحثوا عن الصلة، والمناسبة، بين سور القرآن عامة، وكانوا بين مقل ومكثر. وكان أبو بكر النيسابوري: أول من سبق إلى هذا العلم، وكان يلقي باللائمة على علماء بغداد لإهمالهم علم المناسبات، والكلام في هذا الشأن.

وتعرض أحمد بن عمار المهدوي للوحدة المعنوية بين آيات القرآن الكريم، وساق بعض الشواهد على التناسب بين آيات القرآن، منها:

قوله عند تفسيره لقوله تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلا وما بعدها، وهو قوله: ولله ما في السماوات والأرض ووجه التناسب: إنما اتخذ إبراهيم خليلا لحسن طاعته، لا لحاجته إليه، لأن له ما في السماوات والأرض.

وعرض الزمخشري في تفسيره الكشاف، لإعجاز وأسرار الجمال القرآني، وفيه يقول وهذه الأسرار والنكت، لا يبرزها إلا علم النظم، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها وكان للمناسبة في كتابه حظ أوفى ممن سبقه من المفسرين.

وصنف ابن عطية كتابه في التفسير: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، وتعرض فيه للوحدة المعنوية بين آيات القرآن الكريم، التي يرى أكثر البلاغيين والمفسرين أنها مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في كتاب الله. فهو يقول في الانتظام الوارد بين قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، وبين الآية التي قبلها: هذه الآية منتظمة في معنى التي قبلها، أي: لا يمنعكم تخريب مسجد من أداء العبادات، فإن المسجد المخصوص للصلاة إن خرب، فثم وجه الله موجود حيث توليتم.

وكان فخر الدين الرازي أكثر المفسرين اعتناء بعلم المناسبات، قال الزركشي: وقد قل اعتناء المفسرين بهذا العلم، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي، وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط، والشواهد في تفسيره: التفسير الكبير كثيرة.

واهتم ابن جزي الكلبي اهتماما بالغا بعلم المناسبة بين الآيات والسور في تفسيره: التسهيل لعلوم التنزيل، اقتداء بشيخه: ابن الزبير الغرناطي. وعند تعرضه لتفسير آية مصارف الزكاة: إنما الصدقات للفقراء والمساكين، يطرح سؤالا عن سبب ذكر مصارف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين، ويجيب عنه بقوله: إنه حصر مصارف الزكاة في تلك الأصناف، ليقطع طمع المنافقين فيها، فاتصلت هذه الآية في المعنى بالآية التي سبقتها، وهي قوله تعالى: ومنهم من يلمزك في الصدقات.

ويعد أبو حيان الأندلسي، من المفسرين القلائل الذين أولوا عناية للتناسب بين آيات وسور القرآن الكريم، وتفسيره البحر المحيط حافل بالشواهد على ذلك. فهو قد درج على ذكر مناسبة أول كل سورة، إلى آخر ما قبلها.

ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى من أول سورة الأنبياء: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون. فقد ذكر التناسب بين أول هذه السورة، وآخر سورة طه، وقال:مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه لما ذكر قوله: قل كل متربص فتربصوا.. ، قال مشركوا مكة: محمد يهددنا بالمعاد، والجزاء على الأعمال، وليس بصحيح، وإن صح ففيه بعد، فأنزل الله تعالى: اقترب للناس حسابهم .

وذكر مناسبة أول سورة عبس، وهو قوله تعالى: عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. للسورة التي قبلها – وهي سورة النازعات – فقال: مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر قوله: إنما أنت منذر من يخشاها.، ذكر في هذه من ينفعه الإنذار، ومن لم ينفعه الإنذار، وهم الذين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناجيهم في أمر الإسلام، كعتبة بن ربيعة، وأبي جهل، وأمية بن خلف، وأبي.

وقد أورد أبو حيان شواهد كثيرة على التناسب المعنوي بين آيات القرآن الكريم، من ذلك قوله: وهو يفسر آية التحدي في سورة البقرة عند قوله تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا.. الآية قال: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لم يحتج عليهم بما يثبت الوحدانية، ويبطل الشرك، وعرفهم أن من جعل لله شريكا فهو بمعزل من العلم والتمييز، ويحتج على من شك في النبوة بما يزيل شبهته، وهو كون القرآن معجزة، ويبين لهم كيف يعلمون أنه من عند الله، أم من عنده، أن يأتوا هم، ومن يستعينون به بسورة.

وعند تفسيره لقوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.. الآية يبرز التناسب بين هذه الآية وما قبلها فيقول: مناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد، أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد، وسكن في بلاد الكفار. ويظهر الثواب الذي ذكره في قوله تعالى قبل هذه الآية: وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما. درجات منه ومغفرة ورحمة... ولا يتوقف في هذه السورة عند ذكر تناسب آياتها، بل يورد التناسب بين أول السورة وآخرها، فيقول: ختمت هذه السورة يعني سورة النساء بهذه الآية، يعني آية الكلالة، كما بدئت أولا بأحكام الأموال في الإرث وغيره، ليشاكل المبدأ المقطع، وكثيرا ما وقع ذلك في السور.

واهتم بها كذلك عدد من المفسرين، منهم: الشهاب الخفاجي، في حاشيته على تفسير البيضاوي. والإمام نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري، في تفسيره: غرائب القرآن، ورغائب الفرقان. والعلامة أبو السعود، محمد بن محمد العمادي، في تفسيره: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم. والآلوسي، شهاب الدين محمود في تفسيره روح المعاني. وغيرهم الكثير. وتفاسيرهم حافلة بالشواهد والأمثلة، التي لا يتسع لها هذا البحث.

كما حاول بعض العلماء والمفسرين من القدامى والمعاصرين، أن يحددوا للسورة القرآنية أهدافا ومقاصد عامة تعنى بها السورة، وقد أعانت هذه الأهداف والمقاصد على تبين أوجه الربط بين آيات السورة القرآنية.

ومن العلماء الذين لهم إسهامات في هذا المجال كل من: شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسيره لسورتي الفاتحة، والإخلاص، وتلميذه: ابن القيم في تفسيره لسورتي الفاتحة والمعوذتين.

وحاول الدكتور محمد أحمد السنباطي أن يجعل من: الإمام ابن القيم رائدا لهذا الاتجاه، وتابعه في ذلك الدكتور: زاهر بن عوض الألمعي، في كتابه دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.

وتعرض الفيروزآبادي لبيان الأهداف والمقاصد لسور القرآن الكريم، في كتابه بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز.

واهتم صاحب تفسير المنار ببيان أهداف السورة القرآنية، حيث كان يضع في خاتمة تفسير كل سورة، ملخصا لأهم موضوعاتها، وقضاياها.

وألف الدكتور: عبد الله شحاتة، كتابا متخصصا في هذا الموضوع تحت عنوان: أهداف كل سورة، ومقاصدها في القرآن الكريم.

كما حاول بعض العلماء إبراز الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، مثل: نابغة الأزهر: الدكتور محمد عبد الله دراز، وتحدث عن ذلك في كتابه العظيم: النبأ العظيم فقال: واعلم أنه ليس من همنا الآن أن نكشف لك عن جملة الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء هذه السورة الكريمة بعضها ببعض، فتلك دراسة تفصيلية لها محلها من كتب التفسير، وإنما نريد أن نعرض عليك السورة عرضا واحدا، نرسم به خط سيرها إلى غايتها، ونبرز به وحدة نظامها المعنوي في جملتها، لكي ترى في ضوء هذا البيان كيف وقعت كل حلقة في موقعها من تلك السلسلة العظمى …. ثم يبين أهمية تحديد عمود السورة قبل الخوض في بيان المناسبات بين أجزائها فيقول: بيد أننا قبل أن نأخذ فيما قصدنا إليه، نحب أن نقول كلمة ساق الحديث إليها، وهي: أن السياسة الرشيدة في دراسة النسق القرآني، تقضي بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه فلا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعية بين جزء جزء منه - وهي تلك الصلات المبثوثة في مثاني الآيات ومطالعها ومقاطعها - إلا بعد أن يحكم النظر في السورة كلها، بإحصاء أجزائها، وضبط مقاصدها، على وجه يكون معوانا له على السير في تلك التفاصيل عن بينة …… إلى أن يقول: وبهذا تعرف مبلغ الخطأ الذي يتعرض له الناظرون في المناسبات بين الآيات، حين يعكفون على بحث تلك الصلات الجزئية بينها بنظر قريب إلى القضيتين أو القضايا المتجاورة، غاضين أبصارهم عن هذا النظام الكلي الذي وضعت عليه السورة في جملتها: فكم يجلب هذا النظر القاصر لصاحبه من جور عن القصد.؟ وكم ينأى به عن أروع نواحي الجمال في النظم.

ومن المهتمين والمبرزين في هذا الجانب: الشهيد سيد قطب، في تفسيره في ظلال القرآن فقد استوعب جميع سور القرآن الكريم، في بيان وحدتها الموضوعية، والجرس الموسيقي المتناسب مع الآيات والمعاني.

وقد اهتم الشيخ محمود شلتوت – شيخ الجامع الأزهر – ببيان مقاصد السورة، ووحدتها الموضوعية، من خلال تفسيره الذي فسر فيه عشر سور من القرآن الكريم، يقول في تفسيره لسورة آل عمران: ونحن إذ نقرأ السورة، نجدها قد برزت فيها العناية بأمرين عظيمين، لهما خطرهما في سعادة الأمم وشقائها:

الأول: تقرير الحق في قضية العالم الكبرى، وهي مسألة الألوهية، وإنزال الكتب، وما يتعلق بها من أمر الدين، والوحي، والرسالة.

والثاني: تقرير العلة التي من أجلها ينصرف الناس في كل زمان ومكان، عن التوجه إلى معرفة الحق، والعمل على إدراكه، والتمسك به ثم يشرع في تفصيل الأمرين.

كما اهتم بها الشيخ عبد العزيز جاويش، ودعا إلى تلمس الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية، التي تبين بصورة جلية ارتباط الآي بعضها ببعض، فتتناسق آياتها، وتتلاحم، حتى تكون كالسبيكة الواحدة، فقال: قد يغفل المفسر عما بين آيات القرآن من الارتباط، والتناسب، وما قد يفيد بعضها بعضا من البيان، أو التقييد، فيأخذها بالتأويل، مفككة العرى، مبددة النظم، حتى إذا استعصى عليه أمرها، ونبا عقله عن فهمها، لا يزال يركب في تأويلها صعاب المراكب، ويلتمس بلوغ معانيها بتسنم الجبال، وقطع السباسب، وقلما سلمت أقدامهم من العثار، أو استطاعوا إبراز ما فيها من الآثار.

كما كانت للأستاذ الدكتور فضل حسن عباس، نظرات ثاقبة في تبيين الوحدة الموضوعية في السور القرآنية، من خلال استعراضه للقصص القرآني في كتابه: القصص القرآني، إيحاؤه، ونفحاته.

ث - المصنفات في علم المناسبات:

لم يظهر التصنيف في هذا العلم - على عظيم فوائده -، إلا في أواخر القرن الثامن الهجري، حينما ألف ابن الزبير الغرناطي مصنفه البرهان في ترتيب سور القرآن. وقد رأى أنه لم يسبق إليه، فقال: ولم أر في هذا الضرب شيئا لمن تقدم وغبر، وإنما ندر لبعضهم توجيه ارتباط آيات في مواضع متفرقات. وهو يعني بذلك أن هناك محاولات قبله في معرفة أسرار ترتيب الآيات، أما ترتيب السور، فيرى أنه: لم يقرع أحد هذا الباب قبله، ممن تأخر أو تقدم.

وبعد ابن الزبير ألف الإمام برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى كتابه:

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، وكتابه مشهور في هذا الفن، اعتنى فيه بأوجه المناسبات. وكان من أوائل الكتب التي استوعبت آيات القرآن وسوره، ببيان وتطبيق المناسبة عليها، بل إنه كان نقطة التحول التي لفتت الانتباه إلى وحدة السورة القرآنية، بعد أن كان الحديث عن المناسبات مجرد إشارات لبعض المفسرين.، فكان مرجعا ضخما، عول عليه كل من جاء بعده.

وصنف جلال الدين السيوطي، ثلاثة كتب في هذا الفن:

الأول: أسرار التنزيل، وقال عنه: إنه جامع لمناسبة السور والآيات.

الثاني: تناسق الدرر في تناسب السور، لخصه من كتابه أسرار التنزيل.

الثالث: مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع. وهو يتناول التناسب بين فواتح السور القرآنية وخواتمها.

وممن أفرد هذا العلم بالتصنيف: من المحدثين -: عبد الله الصديق الغماري، فوضع كتابه: جواهر البيان في تناسب سور القرآن.

وكتب الدكتور محمد أحمد يوسف القاسم رسالته العالمية الدكتوراه في المناسبات في ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره ونوقشت في كلية أصول الدين بالأزهر الشريف.

ونوقشت رسالة ماجستير في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، للباحث: محمد مصطفى آيدين، تحت عنوان: المناسبات بين الأسماء الحسنى والآيات التي ختمت بها، وقد أشرف عليها الدكتور سمير عبد العزيز شيلوة.

الخاتمة:

بعد هذه الدراسة النظرية المختصرة لعلم المناسبات تبينت لي الحقائق التالية:

1- بمعرفة التناسب نتمكن من معرفة كيف اتسق للقرآن الكريم هذا التآلف، وكيف استقام له هذا التناسق الذي يشهد بحق وصدق على إعجاز القرآن، ويدل أبلغ دلالة على مصدر القرآن، وأنه كلام الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

2- يبين علم المناسبات الكثير من أسرار التعبير القرآني في التقديم والتأخير، والإيجاز والاطناب، ويبرز الحكمة من ضرب الأمثال، وقص القصص، حسب مقتضيات الأحوال.

3- إن المتأمل لتركيب آيات القرآن، ونظم كلماته، في الوجوه المختلفة التي يتصرف فيها، وأسلوبه في التوفيق بين القضايا، والأغراض المتنوعة، مع حسن ربط، وبراعة مسلك، كأنه سبيكة واحدة، أو عقد نظيم، يترجح لديه الرأي القائل بأن ترتيبه توقيفي.

4- إن موضوع التناسب بين آيات القرآن وسوره، والوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، هو من الموضوعات التي ينبغي أن تتفرغ لها جهود العلماء، والمهتمين بالدراسات القرآنية، فهو يعين على الفهم الصحيح لكتاب الله تعالى، وعلى تحقيق مقاصد هذا الكتاب العظيم في نفوس المؤمنين.

والله أسأل أن تكون هذه الدراسة على خير ما أرجو لها من الوفاء بالغرض، والوضوح في القصد، مع علمي بأن بينها وبين الكمال بونا شاسعا، غير أنني لم أدخر إليه سعيا، ولم أحتبس دونه وسعا، ولكنه جهد المقل، ونتاج المبتدئ، فإن كنت قد عجزت، ووعدت بأكثر مما أنجزت، فحسبي أنني لم أخطئ القصد، ولم أبخل بالجهد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

***

 


1 تعليقات


أحدث أقدم
document.querySelector('.button').addEventListener('click', function() { alert('مرحبًا في طريق التعلم!'); });