ينقسم المجاز العقلي من حيث طرفيه وهما المسند والمسند إليه أربعة أقسام:
الأول: أن يكون طرفاه حقيقتين
لغويتين:
كقولك: أنبت الربيعُ البقلَ،
فالتجوز هنا في إسناد الإنبات إلى الربيع الذي هو زمانه، أما طرفا الإسناد وهما
الفعل أنبت وفاعله المجازي الربيع، فكل منهما مستعمل في معناه الحقيقي الذي وضع له
في اللغة، فيكون كل من الطرفين حقيقة لغوية، وقِس على ذلك قوله: صام نهاره وجرى
النهر وسار الطريق، فكل من الطرفين مستعمل فيما وضع له في اللغة والتجوز في إسناد
الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه، وعليه قول الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر
الغداة ومر العشي
فكل من طرفي الإسناد مستعمل في
حقيقته وهو حقيقة لغوية، والتجوز في إسناد الفعل "أشاب" إلى الزمان كر
الغداة ومر العشي كما سبق أن أوضحناه من قبل.
***
الثاني: أن يكونا مجازين لغويين:
وبذلك يكون المجاز في الإسناد
وفي طرفيه معًا وإن اختلف طريق المجاز، فهو في الإسناد عقلي وفي طرفيه لغوي، خذ
مثلًا قولك: أحيا الأرض شباب الزمان، فطرفا المجاز هنا هما أحيا وشباب الزمان، وكل
منهما مستعمل في غير معناه الوضعي، فالمسند أحيا معناه الحقيقي إيجاد الحياة،
والمقصود منه هنا إحداث خضرة الأرض ونضارتها، فالعلاقة بين المعنيين هي المشابهة، ذلك
أنك تجعل خضرة الأرض ونضارتها وبهجتها بالنبات والأزهار التي يهبها الله تعالى
للطبيعة حياةً لها؛ أي: أنك جعلت ما ليس بحياة حياةً على التشبيه، وفي الفعل أحيا
استعارة تبعية، فهو مجاز لغوي، والمسند إليه أشاب له معنى حقيقي، فهو مرحلة من
مراحل العمر وطور من أطواره والمقصود منه هنا الربيع؛ أي: أن لفظ شباب الزمان
مستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة أيضًا، معنى المعنيين الحقيقي والمجازي،
فكل منهما يمثل مرحلة ازدهار وابتهاج فهو مجاز لغوي أيضًا، فالطرفان إذن مجازان
لغويان، وأما إسناد الفعل إلى شباب الزمان فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية أو
السببية.
***
مقالات مرتبطة
أقسام المجاز العقلي من حيث طرفيه
الفرق بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي
***
الثالث: أن يكون المسند مجازًا
لغويًّا والمسند إليه حقيقة:
مثال ذلك: "أحيا الأرض
الربيع"، فالمسند "أحيا" مجاز لغوي والمسند إليه وهو الربيع مستعمل
في معناه الحقيقي فهو حقيقة لغوية، ومن هذا النوع قول المتنبي يصف ممدوحه بالشجاعة
والكرم:
وتحيي له المال الصوارم والقَنا
... ويقتل ما تحيي التبسم والجِدا
فقد جعل الشاعر الزيادة والوفور
حياةً في المال كما جعل تفريقه في العطاء قتلًا، ثم أثبت الحياة فعلًا للصواري،
والقتل فعلًا للتبسم، مع أن العلم بأن الفعل لا يصح منهما.
ومنه قولهم: أهل النار الدينار
والدرهم، فإسناد أهلك إلى الدينار والدرهم مجاز عقلي علاقته السببية، ولفظ أهلك
المسند ليس حقيقة بل مجاز عن الفتنة؛ إذ الإهلاك مسبب عن الفتنة فهو مجاز مرسل
علاقته المسببية، وقد أسند إلى الدينار والدرهم إسنادًا مجازيًّا، ف التجوز واقع
في الإسناد وفي المسند، في الإسناد مجاز عقلي وفي المسند مجاز لغوي.
انظر إلى قول الله تعالى: {رَبِّ
إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] تجد أن
الآية أسند ت: {اشْتَعَلَ} إلى: {الرَّأْس} إسنادًا مجازيًّا؛ لعلاقة المكانية، إذ
الرأس مكان للاشتعال، والذي يفعل الاشتعال حقيقة إنما هو الشعر، ولفظ المسند:
{اشْتَعَلَ} مجاز لغوي؛ إذ المراد به ظهور شيب الرأس، فاستعير الاشتعال للظهور،
وتفيد هذه الاستعارة عموم الشيء وإحاطته بجميع الرأس، كما تفيد المفاجأة في ظهور
الشيء، فهو اشتعال وليس ظهورًا، وتفيد أيضًا حب زكريا -عليه السلام- لهذا الشيء
حيث أحس به إحساسًا مشرقًا مضيئًا، الذين يصورون ظهور الشيب بالرأس تصويرًا حزينًا
مؤلمًا، إذ يكون سببًا في فراق الأحبة وابتعادهن.
انظر مثلًا إلى قول القائل:
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك
المشيب برأسه فبكَى
وإلى قول الآخر:
له منظر في العين أبيض ناصع ...
ولكنه في القلب أسود أسفع
والأسفع: الأبيض الناصع شديد
البياض، والأسود الأسفع: هو الأسود المائل إلى حمرة، وقد استعير الأسود الأسفع لما
يحدثه الشيب من الهم والحزن، فإنك تجد أنهم يشعرون بالشيب شعورًا حزينًا كئيبًا؛
لأنه يؤذن بتولي الشباب ويعلن عن فراق الحبيبات.
ونعود إلى المجاز العقلي لننظر
في شواهد هذه الصورة التي وقع التجوز فيها في المسند وفي الإسناد، نجد منها قولهم:
سال بهم الواد، حيث استعير السيلان للسيل، ثم اشتق منه سال بمعنى سار على سبيل
الاستعارة التبعية، وأسند سال إلى الوادي إسنادًا مجازيًّا لعلاقة المكان، ويفيد
هذا التجوز المبالغة في سرعة سير القوم، وكأن المكان قد فاض بهم ودفع، ومثله قول
الشاعر:
فقدنا بأطراف الأحاديث بيننا ...
وسالت بأعناق المطي الأباطح
وقول الآخر:
سالت عليه شعاب الحي حين دَعا
... أنصاره ب وجوه كالدنانير
ففي إسناد السيلان إلى الأباطح
وإلى شعاب الحي مجاز عقلي علاقته المكانية، والمسند سال مجاز لغوي حيث استعير
السيلان بالسيل، ولا يخفى عليك بلاغة المجاز في البيتين، وقد أبرز شدة ان دفاع
المطي في الأباطح وسرعة اندفاع الأنصار إلى الداعي، وكأن الشعاب قد فاضت بهم
ودفعتهم إليه، وكأن الأباطح هي التي تسيل وتمضي إلى الإبل، وما من شك في أن المجاز
اللغوي قد ساهم في تحقيق هذه المبالغة بنصيب وافر.
***
الرابع: أن يكون المسند حقيقةً
والمسند إليه مجازًا لغويًّا:
مثال ذلك: "أنبت البقلَ
شبابُ الزمان"، فالإنبات مستعمل في معناه الحقيقي وشباب الزمان مجاز لغوي عن
الربيع.
***