علاقات المجاز العقلي

 



للمجاز العقلي بحسب ما أسند إليه الفعل أو معناه مجازًا علاقات كثيرة، وهي:

1– علاقة المفعولية:

وذلك بإسناد الفعل المبني للفاعل إلى المفعول به مثل قولك: رضيت عيشة فلان، فقد أسند الرضا في هذا المثال إلى المفعول؛ لأن العيشة في الحقيقة والواقع مرضية لا راضية، ولو رجعنا بهذا الإسناد إلى حقيقته لقلنا: رضي فلان عيشته.

ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] حيث أَسند ما في معنى الفعل وهو {رَاضِيَةٍ} إلى مفعوله وهو الضمير العائد إلى عيشة، وأصل هذا الإسناد عيشة راض صاحبها، فالإسناد في الآية الكريمة مجازي وهو يفيد المبالغة في الرضا؛ فكأن الرضا قد تجاوز صاحب العيشة إلى العيشة نفس ها، فالعيشة ليست مرضية فقط وإنما هي راضية أيضًا، وإذا علِمنا أن المقصود بالعيشة هنا النعيم الذي يحظَى به أهل الجنة ويتقلبون في أعطافه ويسعدون بجواره، فإن وصفها بالرضا يعني أنها دائمة لا تنقطع، ما دام ثواب الرضا يشمل الطرفين، وتمام النعمة في دوامها وبقائها.

ومن هذا النحو أيضًا قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] فقد أسند: {دَافِقٍ} إلى ضمير الماء؛ أي: أسنده إلى المفعول؛ لأن الماء مدفوق لا دافق فهو مجاز عقلي، وأصل الإسناد ماء دافق صاحبه، ولكن المجاز أبلغ من الحقيقة هنا لما فيه من المبالغة في الدفق، وكأن الماء لسرعة اندفاعه دافق يدفع بعضه بعضًا؛ فالعلاقة هنا هي المفعولية. ومنه قول الشاعر:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فقد أسند اسم الفاعل الطاعم الكاسي إلى ضمير المفعول، والشاعر يريد أن يقول له: إنك لست أهلًا لنيل المعالي فلا تجهد نفسك في طلبها، فإن منزلتك دون ذلك، فأنت المطعوم المكسو، فوضع اسم الفاعل موضع اسم المفعول على سبيل التجوز في الإسناد، والدليل على ذلك أن الشاعر يهجو المخاطب ولا يعقل أن يقول له: لا ترحل لطلب المكارم، ثم يقول له: إنك تطعم غيره وتكسوه، وإنما أراد أن يقول لمخاطبه اقعد عالة على غيرك مطعومًا مكسوًّا.

***

2- علاقة الفاعلية:

وتكون بإسناد الفعل المبني للمفعول أو معناه إلى الفاعل مثل قولهم: سيل مفعم، بصيغة اسم المفعول؛ أي: مملوء، مسندًا إلى ضمير السيل الذي هو الفاعل، وحق اسم المفعول أن يسند إلى المفعول الذي صار نائب فاعل وهو المكان؛ إذ من المعروف أن السيل هو الذي يفعم المكان؛ أي: يملؤه فالسيل مفعم بكسر العين والمكان مفعم بفتحها، ولكنهم تجاوزوا في الإسناد حيث أسندوا اسم المفعول إلى ضمير السيل الذي هو الفاعل، فهو مجاز عقلي علاقته الفاعلية.

ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] فقوله: {مَأْتِيًّا} اسم مفعول مسند إلى ضمير الوعد الذي هو فاعل في الحقيقة والواقع؛ لأن الوعد يأتي ولا يؤتَى، وحقيقة الإسناد مأتيًا صاحبه؛ أي: يأتيه الوعد.

ومنه أيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] فقد أسند اسم المفعول: {مَسْتُورًا} إلى ضمير الفاعل وهو الحجاب، والمعروف أن الحجاب ساتر لا مستور، فهو الفاعل الحقيقي للمسند، ولذلك سميت هذه العلاقة بالفاعلية.

***

3- علاقة المصدرية:

وتتحقق بإسناد الفعل إلى مصدره كقولهم: فلان جد جده، فالفعل جد قد أسند إلى مصدره، وحقه أن يسند إلى الفاعل فيقال: جد فلان جد، ففاعل الجد هو الشخص الذي يجِد في عمله، ومن ذلك قول أبي فراس الحمداني:

سيذكرني قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

وأصل الإسناد هنا: إذا جدوا جدهم، فالفاعل الحقيقي هو الضمير العائد على قوم أبي فراس، ولكن الشاعر عدَل عن هذا الأصل للمبالغة، فأسند الفعل جد إلى مصدره، والعلاقة هي المصدرية، أما القرينة التي ترشد إلى هذا التجوز وتدل على أن الكلام مصروف عن ظاهره، فهي استحالة صدور الفعل جد من الجد، ومنه قولهم أيضًا: شعر شاعر، وهو مجاز عقلي علاقته المصدرية وقرينته استحالة صدور الفعل من مصدره، فالكلام مبناه على التأول.

ومن ذلك أيضًا قولنا: الله جل جلاله وعظمت عظمته، فقد أسند الفعل إلى مصدره وكان حقه أن يسند إلى فاعله الحقيقي وهو الله -جل وعلا- فيقال: جل الله جلاله وعظم عظمته، ثم عدل عن هذا الأصل؛ للمبالغة في وصفه تعالى بالجلال والعظمة.

***

4- علاقة الزمانية:

وتكون بإسناد الفعل إلى زمانه الذي وقع فيه كما في قولك: صام نهاره وقام ليله، وقولهم: نهاره صائم وليله قائم؛ فالنهار لا يصوم والليل لا يقوم، إنما الذي يفعل ذلك حقيقةً هو العابد، إذ يصوم في نهاره ويقوم في ليله، فإسناد الصيام والقيام إلى النهار والليل هو من قبيل إسناد الفعل إلى زمانه الذي وقع فيه.

ومنه قول جرير:

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم

حيث أسند الوصف نائم إلى الضمير العائد على الليل مع أن الليل لا ينام، إنما هو ظرف زمان يقع فيه النوم، وقد أسند ما هو في معنى الفعل إلى زمانه مجازًا عقليًا علاقته الزمان، ومنه قولهم: يوم مشرق ونهار عاصف، وقد أسند الإشراق والعصف إلى اليوم والنهار، وحقهما أن يسندَا إلى الفاعل الحقيقي بكل منهما، وأصل الإسناد: يوم مشرقة شمسه فيه، ونهار عاصفة ريحه فيه، فأسند الحدث إلى زمانه على سبيل المبالغة.

ومنه قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] حيث أسند شيب الولدان إلى اليوم، واليوم لا يجعل الوليد يشيب، وإنما يجعل الولدان شيبا هو الله -سبحانه وتعالى- في هذا اليوم، فالإسناد في الآية الكريمة مجازي؛ لأن الفعل لم يسند إلى فاعله الحقيقي وهو الله، بينما أسند إلى الزمن الذي يقع فيه، فهو مجاز عقلي علاقته الزمان.

                                                   ***

مقالات مرتبطة

أقسام المجاز العقلي من حيث طرفيه 

الفرق بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي 

قرينة المجاز العقلي

بلاغة المجاز العقلي

علاقات المجاز العقلي

المجاز العقلي


***


5- علاقة المكانية:

ويتحقق بإسناد الفعل أو معناه إلى مكان مثل قولهم: سار الطريق، وجرى النهر، فالطريق لا يسير والنهر لا يجري، وإنما يسير الناس ويجري الماء، والطريق مكان السير والنهر بمعنى الشق في الأرض هو مكان جريان الماء، فأسند الفعل في المثالين إلى مكانه على سبيل المبالغة، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البروج: 11]. وما أكثر ما تكرر هذا في القرآن الكريم، فهو مجاز عقلي علاقته المكانية، ومنه قولهم: سال الوادي؛ أي: سال الماء فيه.

***

6- علاقة السببية:

وتتحقق بإسناد الفعل إلى سببه سواء أكان السبب الآمر أو السبب المؤثر أو السبب الغائي كما في قولهم: بنَى الأمير المدينة، وأصل الإسناد: بنى العمال المدينة بأمر الأمير، فأسند الفعل إلى سببه الآمر.

وقد يسند الفعل إلى السبب المؤثر كما في قول عمر بن أبي ربيعة:

أبَى لي عرض أن أضام وصارم ... حسام وعز من حديث وأول

مقيم بإذن الله ليس ببارح ... مكان الثريا قاهر كل منزل

وأصل الإسناد: أبت لي نفس أن أضام بسبب عرضي وبسبب صارمي الحسام، وعِزي الحديث، والأول المقيم في مكان الثريا، فحوَّل الإسناد إلى السبب -كما ترى- في البيت الأول وهو سبب مؤثر؛ أي: دافع ومحرك للنفس وحافز لها كي ترفض الذل وتأبى الضيم ولا ترضى بالهوان، فالشاعر هنا قد نظر إلى ماضيه وحاضره فوجد أنه أرفع مقامًا وأعلى شأنًا وأكرم نفسًا من أن يلحقه أذى أو يقع به ضيم أو هوان، وهو يملك القدرة على دفع الضيم ورد الأذى عن نفسه وعشيرته، ولا يخفَى عليك أن الإسناد إلى السبب فيه قدر من المبالغة التي يقتضيها المقام، فالإسناد المجازي هنا أبلغ من الأسلوب الحقيقي؛ لمطابقته لمقتضى الحديث.

وقد يسند الفعل إلى السبب الغائب؛ أي غايته كقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] وأصله: يوم يقوم الناس لأجل الحساب؛ فأسند الفعل: {يَقُومُ} إلى غايته: {الْحِسَابُ} على سبيل التجوز، وفي ذلك ما فيه من الإيجاز والمبالغة.

وهذا النوع من المجاز القائم على إسناد الفعل إلى سببه كثير الوقوع في القرآن الكريم، فمنه قوله تعالى في وصف الشجرة الطيبة: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] وقوله سبحانه في شأن الآيات: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] وقوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] وقوله عن الرياح: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57].

وقد أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا إلى المعقول على معنى السبب، وإلا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الآكل، ولا الآيات تولد العلم في قلب السامع لها، ولا الأرض تخرج الكامن من بطنها من الأثقال، ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله ظهر ما كنز فيها وأُودِع جوفها، وكذلك الرياح لا تقل السحاب على الحقيقة؛ لإثبات الفعل لغيره القادر لا يصح في منطق العقل إلا إذا كان هذا الإثبات على سبيل التأول وعلى العرف الجاري بين الناس في أن يجعلوا الشيء إذا كان سببًا أو كالسبب في وجود الفعل من فاعله كأنه فاعل، فيسند الفعل إليه على هذا التأويل، كذا أفاده الشيخ عبد القاهر في أسرار البلاغة.

ومن السببية قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] فقد نسب الفعل: {يُذَبِّحُ} إلى: {فِرْعَوْنَ} لكونه الآمر به، كذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] والحقيقة أن الله سبحانه هو الذي أحلهم دار البوار، وإنما نسب فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم، وسبب كفرهم أمرُ أكابِرهم إياهم بالكفر، وإن شئت فتأمل قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] وقوله تعالى في شأن إبليس اللعين: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27] وقد أسند الفعل في الأول إلى الظن؛ لأنه سببه كما نسب النزع في الثانية إلى إبليس وهو فعل الله تعالى في الحقيقة؛ وذلك لأن سببه هو الأكل من الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين، كذا ذكره الخطيب القزويني في الإيضاح.

ولا يخفَى عليك فهم المجاز في قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] وفي قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] وغير ذلك من أساليب المجاز الواردة في كتاب الله تعالى على اختلاف الصور والعلاقات، فهذا النوع من المجاز شائع في القرآن الكريم، وهو من أسرار بلاغته وروعة نظمه وكمال إعجازه.

***

تعليقات

 موقع طريق التعلم اطلع عليه من هنا 
 

 موقع طريق التعلم اطلع عليه من هنا 
 

 موقع طريق التعلم اطلع عليه من هنا