قرينة المجاز العقلي

 


الذي يتبادر إلى الذهن عند إلقاء الكلام هو إرادة الحقيقة، والذي يريد بكلامه المجاز لا بد أن ينصب قرينةً تدل على عدم إرادة الظاهر من الإسناد أو غيره؛ فالمجاز العقلي يحتاج إلى قرينة صارفة عن إرادة الإسناد الحقيقي، وبدون هذه القرينة يصبح الكلام إلغازًا وتعميةً، فلا يتضح المراد منه.

***

أنواع قرينة المجاز العقلي:

وهذه القرينة نوعان؛ قرينة لفظية، وقرينة معنوية:

***

القرينة اللفظية:

أما القرينة اللفظية: فهي أن يكون في الكلام لفظ يصرفه عن ظاهره كما في قول السلطان العبدي ينصح ابنه عمرًا:

أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كَر الغداة ومر العشي

نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته ... وتبقي له حاجة ما بقي

ألم ترَ لقمان أوصى ابنه ... وأوصيت عمرًا ونعم الوصي

فمِلتنا أننا مسلمون ... على دين صديقنا والنبي

فقد أسند الفعلين "أشاب وأفنى" إلى "كر الغداة ومر العشي"، كما ترى في البيت الأول، ولكن لا مانع من إرادة الحقيقة؛ لجواز أن يكون اعتقاده كذلك وإن خالف الواقع، فإذا وصلنا إلى البيت الأخير فإننا نجد القرينة التي تدلُّ على مراد الشاعر وذلك في قوله: "فمِلتنا أننا مسلمون"، فقد أفصح عن دينه وأن ملته هي الإسلام؛ أي: أنها قرينة لفظية تدل على أن الشاعر لم ينسب الفعل إلى الزمن على الحقيقة، وإنما كان متجوِّزًا في الإسناد، وهو يعتقد أن الفعل لله وحده، وأن الذي يشيب ويفني هو الله جلت قدرته.

وعلى ذلك يكون الإسناد في البيت الأول من إسناد الفعل إلى زمانه، فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية، والقرينة لفظية في البيت الأخير.

وتقول أنت: شيبت رأسي الهموم والأحزانُ، ولكن الله يفعل ما يشاء، وتقول فيه ما قيل في سابقه، وتأمل مع قول أبي النجم:

قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليَّ ذنبًا كله لم أصنع

من أن رأت رأسي كرأس الأصلع ... ميز عن قنزعًا عن قنزع

جذب الليالي أبطئي أو أسرعي ... ................................

وقد أسند الفعل إلى الليالي التي تتوالى ويتبع بعضها بعضًا، لكن هذا الإسناد يحتمل الحقيقة كما يحتمل المجاز في بادئ الأمر، فلما قال الشاعر بعد ذلك:

أفناه قيل الله للشمس اطلعي ... حتى إذا واراك أفق فارجعي

أفصح عن مراده، وأنه بنى كلامه على التأوّل، فهو مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زمانه، والقرينة لفظية كما ترى في البيت الأخير.

***

مقالات مرتبطة

أقسام المجاز العقلي من حيث طرفيه 

الفرق بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي 

قرينة المجاز العقلي

بلاغة المجاز العقلي

علاقات المجاز العقلي

المجاز العقلي


***

القرينة المعنوية:

النوع الثاني من القرينة هي القرينة المعنوية: وذلك بأن يكون مع الإسناد أمر معنوي يصرفه عن ظاهره وهي أحد أمور ثلاثة:

أ- استحالة قيام المسند بالمسند إليه عقلًا مثل: محبتك جاءت بي إليك، فمن الواضح استحالة صدور الفعل وهو المجيء من الفاعل المجازي وهو المحبة، بل هي سبب له فقط. ومن ذلك أيضًا قولك: طريق سائر ونهر جار، فالسير والجري من الحركات التي لا تكون في مثل الطريق والنهر، فلا بد من حمل الكلام على التجوز في الإسناد.

ب- استحالة قيام المسند بالمسند إليه عادةً كقولك: بنَى عمرو بن العاص مدينةَ الفسطاط، فإن العادة هي التي تمنع صدور الفعل وهو البناء من الأمير وإن كان ذلك ممكنًا من جهة العقل، إذ العقل يجوز أن يبني الأمير بنفسه؛ فالاستحالة هنا من جهة العادة والعرف.

ج- صدور الكلام من الموحد، وذلك كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم: "وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبَطًا أو يلم" حبطًا يعني: انتفاخًا، يلم يعني: يقارب، فهذا الكلام صادر من سيد الموحدين - صلى الله عليه وسلم- وصدوره منه قرينة على أنه لا يريد بإسناد الإنبات إلى الربيع ظاهره، والذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، وإنما هو إسناد مجازي من إسناد الفعل إلى زمانه، والفاعل الحقيقي للإنبات هو الله -سبحانه وتعالى- فعقيدة المسلم التي تنسب الأفعال إلى الله وحده قرينةٌ على المجاز في مثل هذا، ولذلك إذا كان المتكلم من الدهريين الذين يعتقدون بتأثير الدهر ويقولون كما يحكي القرآن عنهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] فإن كلامه يكون من قبيل الحقيقة العقلية حيث لا قرينةَ تصرفه عن ظاهره.

وقد تحدث الإمام عبد القاهر عن قرينة المجاز العقلي ودورها في منع اللبس وتحديد مراد المتكلم، وكان كلامه في هذا الموضع مادة لمن جاء بعده من المتأخرين.

***

إرسال تعليق


أحدث أقدم
document.querySelector('.button').addEventListener('click', function() { alert('مرحبًا في طريق التعلم!'); });