خروج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر

 

كثيرًا ما يخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لدواعٍ تستدعي ذلك ولأسرار تقتضيه، وهو باب من البلاغة يدق مسلكه، ويلطف موقعه، ويعظم أثره في النفس، فيتمكن منها فضل تمكُّن شريطة أن يكون المتكلم بليغًا خبيرًا بأسرار الجمال في هذه الأساليب، وأن يكون المخاطب ذا فَهْمٍ سليم وذوق رفيع وبصيرة نافذة حتى يكون لكلامه أثره المنشود في التأثير وإصابة الغرض، وإلا فلا قيمة للكلام، ولا وزن له من وجهة النظر البلاغية.

وبيان ذلك أن المتكلم قد يفترض في مخاطبه حالًا ليس لها ثبوت في الواقع أو وجود حقيقي عنده، ويجيء بكلامه مطابقًا لتلك الحال المفترضة؛ وذلك لأسرار بلاغية تستدعي هذا الأسلوب، ويسمى ذلك الصنيع: إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، ومن صوره ما يلي:

الصورة الأولى: تنزيل العالِم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما

أي: تنزيله بمنزلة الخالي الذهن، وذلك لعدم عمله بما يقتضيه علمه من العمل به والانتفاع بتوجيهاته في حياته العملية، كقولك مثلًا لتارك الصلاة مع علمه بوجوبها: الصلاة واجبة؛ توبيخًا له على عدم عمله بمقتضى علمه، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل. ومنه قولك للمتعلم حين يعق والديه: عقوق الوالدين من الكبائر.

ومن تنزيل العالم بلازم الفائدة منزلة الجاهل قولك لمن يؤذيك، وهو يعلم أنك مسلم: الله ربنا، ومحمد نبينا.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الخبر لا يختلف في التأكيد وعدمه في مخاطبة الجاهل بفائدة الخبر ولازمها، ومخاطبة العالم بهما المنزل منزلة الجاهل، فأنت تقول لخالي الذهن: الصلاة واجبة. بدون توكيد، كما تقولها للعالم الذي نزلته منزلة الجاهل بالحكم بدون توكيد أيضًا. 

الصورة الثانية: تنزيل خالي الذهن منزلة السائل المتردد:

وذلك إذا تقدم في الكلام ما يلوح له بالخبر ويومئ إليه، فيستشرف نفسه لمعرفته، وتتطلع للوقوف عليه، كما يفعل السائل المتردد، وحينئذ يُؤكَّد له الحكم كما يُؤكَّد للسائل المتردد، ومن ذلك قول الله تعالى في شأن نوح -عليه السلام: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37] أي: لا تدعني يا نوح في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك، فهذا كلام يلوح بالخبر مع ما سبق في قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} فصار المقام مقام تردد، هل صاروا محكومًا يا رب عليهم بالإغراق؟ فقيل له: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} بالتأكيد للرد على السؤال الافتراضي، وهذا النوع كثير في القرآن الكريم.

ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53] وقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} يشير إلى أن الخبر من قبيل الاتهام للنفس وأنها أمارة بالسوء ولذلك جاء الخبر مؤكدًا؛ لأنه بمثابة جواب عن سؤال اقتضته الجملة الأولى، وهي قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} وهو سؤال عن السبب الخاص لا عن مطلق السبب.


الصورة الثالثة: تنزيل غير المنكِر منزلة المنكِر:

 وذلك إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، فيؤكد له الخبر، كقول الشاعر:

جاء شقيق عارضًا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح

فشقيق لا ينكر قوة بني عمه، وأنهم يملكون آلات القتال وأدوات الحرب من الرماح وغيرها، ولكن مجيئه هكذا مزهوًّا بشجاعته واضعًا رمحه على عرضه من غير تهيؤ للقتال دليل على إعجاب شديد منه، وإمارة أنه يعتقد أن بني عمه عزل لا سلاح معهم، ولذلك نزله الشاعر منزلة المنكر، وخاطبه خطاب التفات في قوله: "إن بني عمك فيهم رماح" فأكد له الكلام ليوقد فيه الشعور بقوة شكيمتهم وقدرتهم على مواجهة الخصم إذا اقتضى الأمر ذلك. فهذا من تنزيل العالم بالحكم منزلة المنكر.

ومنه أيضًا قولك للمسلم غير المواظب على أداء الصلاة: إن الصلاة لواجبة. فتؤكد له الكلام مع أنه لا ينكر وجوب الصلاة، ولكن إهماله للصلاة وإصراره على عدم العمل بمقتضى علمه جعله في نظر المتكلم بمنزلة المنكر، فاقتضى حاله تأكيد الخبر.

الصورة الرابعة: تنزيل المنكِر منزلة غير المنكِر

وذلك إذا كان معه من الشواهد والأدلة على صدق الخبر ما إن تأمله ارتدع عن إنكاره، كما يقال لمنكر الإسلام: الإسلام حق. من غير تأكيد لعدم الاعتداد بإنكاره؛ لأنه لو تأمل الأدلة والشواهد المتناهية في الوضوح والشهرة لارتدع عن إنكاره، ورجع عن جحوده ونكرانه، وأسلم لربه عن يقين صادق وعقيدة راسخة، ولكنه لم يفعل، فجعل إنكاره كلا إنكار، ونزل منزلة غير المنكر.

ومن ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] فاليهود ينكرون فضل الله عليهم، وأنه أعطاهم حتى صاروا أكثر أهل الأرض مالًا ويتطاولون بهذه المقالة الشنيعة {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فيصفون يده بالبخل، ومع ذلك جاء الرد عليهم خاليًا من التوكيد: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} لأنهم لو تجردوا من الهوى وأنصفوا في الحكم لأدركوا عظيم فضل الله عليهم، فهو الكريم الذي يجود بالخير على عباده وينفق عليهم وفق ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، ولذلك نزل إنكارهم منزلة عدمه.

ومنه على سبيل النفي قول الله تعالى في شأن القرآن الكريم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] فإن معناه أن القرآن ليس محل شك، وهذا حكم ينكره المخاطبون من الكفار، فكان مقتضى الظاهر التأكيد، ولكن القرآن لم يعبأ بإنكارهم فنزلهم منزلة غير المنكرين؛ لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه، ولذلك جاء الخبر خاليًا من التوكيد تنزيلًا لإنكارهم منزلة عدمه، وفي ذلك من توهين حجة الخصم ما لا يخفى على المتأمل.

ولعلك تلاحظ معي أن المنكر قد نزل منزلة خالي الذهن في الأمثلة المذكورة، وقد ينزل المنكر منزلة المتردد، وهذه صورة متفرعة عن صور تنزيل المنكر منزلة غير المنكر؛ لأن غير المنكر يشمل المتردد، كما يشمل خالي الذهن. وخذ مثلًا قول الله تعالى في تنزيل المنكر منزلة المتردد: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16] فهم ينكرون البعث ويستبعدونه، ومع ذلك فقد أكده تأكيدًا واحدًا، بينما أكد إثبات الموت في الآية السابقة عليها تأكيدين؛ ولعل السبب في ذلك أنه لما كانت أدلة البعث ظاهرة كان جديرًا بألا ينكره أحد، بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه، فنزل المخاطبون منزلة المترددين تنبيهًا لهم على ظهور أدلته وحثًّا على النظر فيه، كذا ذكره الخطيب في الإيضاح.

وهذه هي أهم مواقع الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر، وهي لا تحسن إلا إذا كان المتكلم بليغًا والمخاطب ذا ذوق رفيع وحس مرهف وعقل واع بجمال هذه الأساليب.

***

إرسال تعليق


أحدث أقدم
document.querySelector('.button').addEventListener('click', function() { alert('مرحبًا في طريق التعلم!'); });