تقسيم الخبر إلى أضربه الثلاثة: الابتدائي، والطلبي،
والإنكاري إنما هو لبيان حاله من حيث التوكيد وعدمه بحسب حال المخاطب من الإنكار
وغيره، سواء أكانت هذه الأضرب تحقيقية أم تذييلية، فالمتكلم ينظر إلى حال مخاطبه
ويصوغ عبارته على أساس ما يقتضيه حاله من التوكيد وعدمه، ولا يعني هذا بحال أن
البلاغيين بذلك قد غفلوا حال المتكلم نفسه وأنهم قصروا البحث في توكيد الخبر ودواعي
توكيده على حال المخاطب فقط، فقد يكون الداعي إلى توكيد الخبر هو حال المتكلم نفسه
ومدى انفعاله بالحكم الذي يقرره في كلامه، كما يكون حاله أيضًا داعيًا إلى خلو
الكلام من التوكيد.
فحال المتكلم مأخوذة في الاعتبار أيضًا، وهو الذي يصوغ
الكلام بعد تأثر وانفعال، فتنعكس حالته النفسية ومشاعره المختلفة على الخبر الذي
هو صدى لعالمه النفسي وما يجيش به من عواطف، والشاعر عندما يعبر عن تجربته
الشعرية، فإن عبارته تأتي ترجمة أمينة لمعاناته النفسية ووصفًا دقيقًا لخلجات
وجدانه، فهو تارة يؤكد الكلام وينظمه مقررًا كما أحسه وكما امتلأت به نفسه حرصًا
منه على إذاعته وتقريره في النفوس، وتارة يرسل الكلام إرسالًا إذ لا يقتضي المقام
تقريرًا وتثبيتًا، وهذا الأمر واضح في الشعر العربي، في استطاعة القارئ المتأمل أن
يقف على الكثير من هذه المواضع، فالخنساء حين ترثي صخرًا فتقول:
وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
لم تكن معنية بالرد على منكر أو متردد، ولكنها تُعَبِّرُ
عن مأساتها الفاجعة في فَقْدِ أخيها، والآلام التي تُعَانِيهَا وتصطلي بنارها،
ولذلك نجد أنها صاغت المعنى مُؤَكَّدًا كما أحسَّته، وكما امتلأت به نفسها، ومن
هنا جاء كلامها معبرًا أصدق تعبير عن عاطفتها الحزينة، وهذا من الوضوح بمكان، وهو
شائع في رثائها لأخيها صخر.
وهذا من مراعاة حال المتكلم في صياغة الكلام، وهو كثير
شائع في النظم الكريم، وله في النفس وقع عظيم وأثر بالغ. ومن ذلك قول الله تعالى
على لسان إبراهيم -عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] وقوله
تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9] وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا
سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل
عمران: 193] فالتوكيد في كل هذه الآيات لإظهار غاية التضرع والابتهال إلى الله -عز
وجل.
وقد يكون الداعي إلى التوكيد رغبة المتكلم في تقوية
مضمون الكلام عند المخاطب وتقريره في نفسه، وإن كان غير منكر له، ولا متردد فيه،
كقوله تعالى في مخاطبة موسى -عليه السلام: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ
نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ
فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 12 - 14]. وقوله في مخاطبة محمد
-صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} [الإنسان:
23] فالمخاطب، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يشك في شيء من ذلك، ولكن التوكيد
يهدف إلى زيادة تقرير المعنى في نفسه حتى يبلغ به عين اليقين، وفي ذلك تثبيت
لفؤاده حتى ينهض بأعباء الدعوة إلى الله في يقين راسخ، وفي ذلك ما فيه من الإيناس
والتلطف في مخاطبة هؤلاء الرسل الذين هم صفوة خلق الله جميعًا.
وقد يكون الداعي إلى تأكيد الحكم: إظهار صدق الرغبة فيه،
وقصد ترويجه، كقوله تعالى حكاية عن المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا
قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] فهم يخاطبون المؤمنين بقولهم:
{آمَنَّا} بدون توكيد؛ لأن أنفسهم لا تساعدهم على التأكيد لعدم الباعث والمحرك من
العقائد، أو لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على التوكيد والمبالغة، بينما أكدوا في
خطاب إخوانهم {إِنَّا مَعَكُمْ} بصدق رغبتهم فيهم، وارتياحهم للحكم بالإضافة إلى
أنه رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق والتوكيد.
وقد يكون التوكيد للإشارة إلى مجيء الخبر على خلاف ظن
المتكلم، فكأن نفس المتكلم تستبعد الخبر وتنكره، فيؤكده لها، يقول عبد القاهر في [الدلائل]:
"قد تدخل كلمة "إن" للدلالة على أن الظن كان من المتكلم في الذي
كان أنه لا يكون، كقولك للشيء هو بمرأى ومسمع من المخاطب: إنه كان من الأمر ما
ترى، وكان مني إلى فلان إحسان ومعروف، ثم إنه جعل جزائي ما رأيت، فتجعله كأنك ترد
على نفسك ظنك الذي ظننت، وتبين الخطأ الذي توهمت، وعليه قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي
وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] وقوله: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء:
117] ".
وقد يأتي التوكيد لتحقيق الوعد أو الوعيد، كما في قول
الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] وقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا
مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107] ومثال
الوعيد قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] وقوله: {إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
نَصِيرًا} [النساء: 145].
والقرآن الكريم كثيرًا ما يشفع الوعد بالوعيد، والبشارة بالنذارة لما لذلك من أثر
في تقويم النفوس وسياستها بالترهيب والترغيب، ومقام الوعد ومثله مقام الوعيد من
المقامات التي تحتاج إلى توثيق القول وتأكيده؛ ليتقرر في النفوس ويتمكن منها فضل
تمكن، فيزداد أنسها به وثقتها فيه، كما قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي
نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14] وقال أيضًا:
{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ
الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50] ومثل هذا كثير في القرآن الكريم.
وقد يكون الداعي إلى التوكيد: الدلالة على كمال عناية
الله وإكرامه للمخاطب، مثل قوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1 - 3] أو الدلالة على كمال غضبه وسخطه، كما في قوله
تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
خَلَاقٍ} [البقرة: 102] فالمتكلم هنا هو المولى -عز وجل- وهو محيط بشئون خلقه
وأقدارهم في الهداية والضلال، فمنهم من يرقى إلى منازل القرب ويحظى بالعناية
الربانية، ومنهم من يهوي في قرار سحيق إلى جهنم وبئس المصير.
وقد يكون الداعي إلى التوكيد غرابة الخبر في ذاته، فيلجأ
المتكلم إلى التوكيد ليزيل من نفس السامع ما قد يعلق بها من وحشة أو استغراب،
ويهيئه لقبول الخبر والاطمئنان به، كقوله تعالى يخاطب موسى -عليه السلام- حين أوجس
في نفسه خيفة من أفاعيل السحرة: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:
68] فموسى -عليه السلام- واثق تمام الثقة في وعد ربه بالإظهار والتأييد، ولا
يخالجه في ذلك أدنى شك، ولكنه لما رأى كيد السحرة أحس في نفسه بشيء من الدهشة والخوف،
فكان الرد الإلهي {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} مؤكدًا بإن وضمير الفصل واسمية
الجملة، وذلك ليزيل من نفسه وحشة الشعور في هذا الموقف العصيب.
ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ
شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ
أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30].
وقد يكون الداعي إلى التوكيد الرد على غير المخاطب،
كقوله تعالى في خطاب نبيه -صلى الله عليه وسلم- ردًّا على المنافقين الذين ادعوا
شهادتهم برسالته كذبًا {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] فقد جاء قول المنافقين:
{إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} مؤكدًا لأنهم يشعرون في قرارة أنفسهم أن الرسول لا
يثق فيهم، ولا يطمئن إلى كلامهم، ولذلك أكدوا كلامهم إظهارًا لقوة اعتقادهم، وأن
هذه الشهادة صادرة عن صميم قلوبهم.
ولما كان كلامهم يُخَالف عقيدتهم؛ فقد كشف الله زيف هذا
الادعاء، وأكد الرسالة تأكيدًا قويًّا بهذا الرد الحاسم: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:
1] فالمنافقون كاذبون في ادعاء أن هذا الخبر مطابق لاعتقادهم، والتوكيد هنا في
مقام الرد على المنافقين وفضح أساليبهم وتعريتهم أمام المجتمع الإسلامي.
وقد يكون الداعي إلى التوكيد أيضًا تهيئة النكرة
للابتداء بها، وخاصة مع "إن" فإذا كانت النكرة موصوفة فهي مع إن أحسن
موقعًا، كقول الشاعر:
إن دهرًا يلف شملي بسعدي ... لزمان يهم بالإحسان
كما يأتي التوكيد اتباعًا للاستعمال الوارد عن العرب،
كقول الشاعر:
إن محلًّا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذا مضوا مهلا
***