أضرب الخبر

لعل أول إشارة إلى أضرب الخبر -فيما بلغنا- كانت على يد أبي العباس المبرد صاحب [الكامل] وقد سأله الكندي الفيلسوف: "إني أجد في كلام العرب حشوًا، يقولون: عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم، والمعنى واحد. فقال المبرد: لا، بل المعاني مختلفة، فعبد الله قائم، إخبار عن قيامه، وإن عبد الله قائم، جواب عن سؤال سائل، وإن عبد الله لقائم، جواب عن إنكار منكِر".

وهذه القصة -كما هو ملاحظ- هي الأصل في حديث البلاغيين عن أضرب الخبر، فقد قسَّم البلاغيون الخبر بحسب حال المخاطب إلى ثلاثة أضرب:

الأول: الابتدائي، وذلك إذا كان المخاطب خالي الذهن من الحكم الذي يتضمنه الخبر، فيُلْقَى إليه الكلام مجرَّدًا من التأكيد باستغنائه عنه كقولك: أفلح المجتهد، وخاب الكسول؛ لأن الكلام يتمكن بسهولة إذا صادف ذهنًا خاليًا على حد قول القائل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى         فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا

والثاني: الطلبي، إذا كان المخاطب متردِّدًا في الحكم طالبًا له، فيؤكد بمؤكد واحد استحسانًا؛ ليزيل تردده، ويبين له الحقيقة، فيتمكن الخبر في نفسه كقولك لمن يشك في نجاح زيد: إن زيدًا ناجح، وكقولهم: إن البلاء موكل بالمنطق.

ومن هذا النوع قوله تعالى في شأن ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] وذلك بعد السؤال عنه في الآية السابقة، فالمخاطب طالب للحكم، مستشرف لمعرفته، ولذلك جاء الخبر مؤكدًا؛ ليزيل تردده ويضع يده على الحقيقة.

والثالث: إنكاري، وذلك إذا كان المخاطب مُنْكِرًا للحُكْمِ الذي يتضمَّنه الخبر مُعْتَقِدًا غيره، فيجب أن يؤكد له الخبر بحسب إنكاره قُوَّة وضعفًا، فكلَّما زاد إنكاره زِيد له في التوكيد، وعلى سبيل المثال إذا كان المخاطب يُنْكِرُ صدقك، فإنك تقول له: إني صادق. فإذا بالغ في الإنكار وأصرَّ عليه تقول: إني لصادق. ومنه -هو خير ما يمثل به في هذا الباب- قول الله تعالى في شأن رسل عيسى -عليه السلام-: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 13 - 16].

ولعلك ترى خطاب الرسل لأصحاب القرية قد جاء هنا مؤكدًا في المرة الأولى بإن واسمية الجملة {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} ولما اشتدَّ تكذيب آل القرية لهؤلاء الرسل جاء الرد في المرة الثانية مُؤكَّدًا بإن واللام واسمية الجملة والقسم {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16].

وتأمل قول الله تعالى في الردِّ على منكري البعث: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] فهم ينكرون البعث، كما يحكي القرآن عنهم في أكثر من موضع، ولذا جاء الرد عليهم مُؤكّدًا: بالقسم، وربي، واللام، ونون التوكيد الثقيلة في جواب القسم "لتبعثن"؛ لأن المقام يقتضي ذلك، فالبعث أمر فطري يستوجب العمل لما بعده والإيمان به، وهو أصل من أصول الدين التي يجب على الخلق معرفتها والإيمان بها، والله -سبحانه وتعالى- يُقْسِمُ عليه ويُقرِّره أبلغ تقرير حتى يتمكَّن في النفس فضل تمكن، ولا يخفى ما في التعبير بالفعل {زَعَمَ} من كشف الزيف، وبيان التهافت في منطق الكافرين، فالزعم مطيَّة الكذب؛ إذ لا أساس له، ولا دليل عليه، فهو وهم باطل، وضلال مبين، والهوى يعمي ويصم.

ووجه تسمية هذه الثلاثة بأسمائها:

أن الأول: سُمِّي ابتدائيًّا لأنك تبتدئ به المعنى في النفس، والمخاطب غير متردد، ولا منكر.

والثاني: سمي طلبيًّا؛ لأنك تواجه به ترددًا، فهو مسبوق بطلب كأن النفس طالبة للخبر ليزيل هذا الشك ويدفع الشبهة، ويمحو التردد.

والثالث: سمي إنكاريًّا لسبقه بالإنكار من المخاطب، ويجب أن يكون المتكلم مع المخاطب كالطبيب مع المريض يشخص حالته، ويعطيه ما يناسبها.

إخراج الكلام على مقتضى الظاهر:

حق الكلام أن يكون بقدر الحاجة لا زائدًا عنه، ولا ناقصًا منه، فلا يؤكد لخالي الذهن، ويؤكد بمؤكد واحد استحسانًا للمتردد، ويؤكد بمؤكد أو بأكثر وجوبًا للمنكر حسب درجة إنكاره، وبذلك تتحقق مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فكل مقام من هذه المقامات يستدعي تركيبًا خاصًّا يُفِيدُ ما يُنَاسِبُه من الخصوصيات.

ويسمى إخراج الكلام على هذه الوجوه الثلاثة إخراجًا على مقتضى الظاهر؛ أي ما يقتضيه ظاهر الحال.

***

إرسال تعليق


أحدث أقدم
document.querySelector('.button').addEventListener('click', function() { alert('مرحبًا في طريق التعلم!'); });