التحليل البلاغي لآية فرض الصيام يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام

 


الصيام هو الركن الثالث من أركان الإسلام كما ورد ذلك في الحديث الشريف، وللصيام منزلة عظيمة في الإسلام.

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝  أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝  شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۝  وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۝  أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 183 - 186]

ونلاحظ أولا آن آيات أحكام الصيام جاءت كلها في موضع واحد من سورة البقرة، وسنقوم بالتحليل البلاغي لهذه الآيات والنظر في أسرارها البلاغية ونكتها البيانية في عدة مقالات متتالية إن شاء الله تعالى.

***

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].

استفتحت آيات الصيام بنداء المؤمنين، فقد استخدمت أداة النداء (يا) التي تستخدم لنداء البعيد، وهذا النداء اقتضى التنبيه على شرف المخاطب وبُعد منزلته وعظيم شأنه، مما يستدعي منه التنبه واليقظة والحضور التام مع استنهاض جميع ملكاته العقلية والوجدانية والحسية لتلقي أمر الصيام. ففي هذا النداء فيه مزيد عناية بهم، وتشريف لهم بوصفهم بالإيمان، ومناداتهم به، كما أن في ذلك توطئة لأمرهم بالصيام، وتهيئة نفوسهم لتقبل هذه الأحكام.

واختيار لفظ كُتِبَ لأن الكتابة في الحقوق والأحكام اللازمة أوثق وأثبت، وبُنِي الفعل كُتِبَ إلى ما لم يسم فاعله وحُذِف فاعله للعلم به، وهو الله -سبحانه وتعالى - فهو وحده الذي يكلف عباده.

وفي تقدم الجار والمجرور " عليكم" على كلمة "الصيام" في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ إشارة إلى الاهتمام بأمر المؤمنين، فهم المأمورون بالصيام، كما أن
في تأخير لفظة "الصيام" تشويقًا لها، فستظل نفوس المؤمنين مترقبة لها، منتظرة الأمر،
فيأتي الأمر بعد ترقب وتشوق، وحينها يستقر الأمر في وجدانها، وتعتنقه أتم اعتناق
وتقوم به على الوجه المطلوب منها في الأداء.

وقد تضمن قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الإيجاب القاطع، والدلالة النصية بفرضية الـصيـام على المؤمنين، ففي لفظة "كتب" الإشارة إلى الوجوب، وقد بين هذا المعنى وأظهره حرف الجر "على" – بدلالته على الاستعلاء – في قوله: عَلَيْكُمُ؛ وذلك أن فيه دليلًا على وجوب هيمنة هذا الحكم على الأمة المسلمة، وعدم التسامح فيه، والتهاون في تنفيذه.

جاء التشبيه في قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ تأكيدًا للوجوب، ومتممًا له، وليدل على أن فريضة الصيام لم تكن على هذه الأمة وحدها، بل هي فريضة قديمة كتبها الله على الأمم السابقة كلها. وقد دل التشبيه على أهمية الصيام، ففيه الإشارة إلى عظم الصيام، وما تضمنه من الحكم والمصالح، تشهد بذلك العقول السليمة، والفطر المستقيمة، ولذا شرعه الله وفرضه عليهم؛ رحمة بهم وإحسانًا.

وقد أشار الطاهر ابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير (2/157) إلى أن التشبيه في هذه الآية تضمَّن أغراضًا ثلاثة، وهي: أحدها: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها، فقد شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل الإسلام ، وشرعها للمسلمين؛ وذلك يقتضي اطراد صلاحها، ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة؛ كي لا يتميز بها من كان قبلهم. والثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهوينًا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم. والثالث: إثارة العزائم؛ للقيام بهذه الفريضة؛ حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض، بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة.

ثم جاءت الفاصلة وهي قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لبيان الغاية من فرضية الصيام، وجيء الفعل لتَتَّقُونَ بصيغة الجمع؛ لأن الخطاب عام لجميع المكلفين. وحُذف متعلق لتَتَّقُونَ فلم تُذكر الأمور التي يتقيها المسلم بصيامه؛ لإرادة العموم، فالمراد أن يتقوا الله في كل شيء من شأنه أن يُقرِّبهم من سخط مولاهم عليهم، وهي أمور كثيرة لا حصر لها.

***


تعليقات