التحليل البلاغي لقوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة



قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شيء فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [الأنفال: 60].

تحدثنا هذه الآية عن ذروة سنام الإسلام وهو الجهاد في سبيل الله بمفهومه الواسع مع مراعاة أصوله وقواعده وضوابطه الشرعية. فإن الأمة حين الأمّة تركت باب الجهاد ذاقت من كؤوس الذُلّ والخنوع حتى بلغت حدّ الهوان في عيون أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر ولا يرقبون في المستضعفين عهدا ولا ذمّة.

بدأت الآية بقوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ وهي جملة إنشائية طلبيّة صُدّرت بصيغة الأمر، والخطاب في هذه الآية عام موجه لجميع الأمّة التي تحمل رسالة الإسلام، ودلالته البلاغية هي النصح والتوجيه والإرشاد، وقد جاءت الآية في سياق الحث على عدم التنازع والفرقة عند ملاقاة العدوّ والصبر والثبات على الجهاد في ميدان الحرب والقتال.

ولفظ الإعداد هنا يقتضي في مفهومه التخطيط واستشراف المستقبل بالنظر البعيد والفهم العميق لمجريات الواقع والأحداث. وقدَّم الْمُعد لهم على ماهية الإعداد؛ إذ قال: (لهم)؛ للعناية والاهتمام وبث مفهوم اليقظة الدائمة في نفوس الأمة نحو عدوها، وغرس الوعي الإيماني بذلك، من خلال التوجيه الإلهي بالأمر بالإعداد لمواجهة مخططات الأعداء.

والتقييد بالاستطاعة هنا يعني بذل الغاية والجهد وتسخير كل الإمكانات اللازمة لتحقيق هذا الجانب المهم بكل سبيل يعضّد ذلك ويقويه دلالة التعبير بـ (ما) التي هي بمعنى اسم الموصول. واستخدمت (ما) الموصولة بدل (الذي)؛ لأنه یستوي فیها المذكر والمؤنث والإفراد والتثنیة والجمع.

وإيثار التعبير بلفظ (قوّة) نكرة ليفيد معنى النوعية والتعظيم، فالقوّة المرادة هنا ليست قاصرة على قوة بعينها بل تتسع لإعداد القوة في جميع نواحي الحياة والتي لا ينهض المجتمع إلا بها من قوّة الروح والعقيدة وقوّة الفكر والثقافة الناعمة فضلا عن القوّة المادية من إعداد الجنود وتجييش الجيوش وتزويدها بالأسلحة المتطورة الحديثة.

ثم ذكر بعد ذلك قوله: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ وهو من باب التخصیص بعد التعمیم؛ وعبَّر بذلك للتنصیص على فضل رباط الخیل، إذ كانت الخیل هي أصل الحروب والخیر معقود بنواصیها، ورباط الخيل أي حبسها واقتناؤها. قال الزمخشري: "الرِّباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل اللّه، ويجوز أن تُسمَّى بالرباط الذي هو بمعنى الْمُرَابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال، والمصدر هنا مُضَاف لمفعوله".

ثم علل القصد من إعداد هذه القوة؛ وهو إرهاب العدو تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ حتى لا يطمع فيكم؛ لأن مجرد الإعداد للقوة، هو أمر يسبب رهبًا للعدو، وجاء نظم الكلام هنا على استيفاء الأقسام، واستيفاء الأقسام مسلك من مسالك الحجة والإقناع.

تم حض المولى تبارك وتعالى على النفقة في سبیل االله من جهاد وغیره فقال تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شيء فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ، ومن التناسق البديع أن يأتي تذييل الآية على هذا النحو {وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} مما يوحي بأنّ أفضل النفقة بعد النفقة على الأهل والأولاد ما كان في إعداد العدّة وفي تجهيز الجيوش والرباط في سبيل الله.

***


تعليقات