التحليل البلاغي لآية معجزة الإسراء والمعراج



قال تعالى:
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1].

بدأت الآية بلفظ: ﴿سُبْحَانَ وهو اسم عَلَمٌ على كمال التسبيح والتنزيه وجلال التقديس، وهي كلمة عظيمة، لا تجوز أن تقال إلا لله وحده، وحدث الإسراء والمعراج فوق قدرات البشر، لا يقوم به إنسان، مهما أُوتِيَ من جبروتِ العلم وسطوةِ الفهم، والمتأمِّل فيه يوقن بأنه حَدَثُ الأحداث، ومعجزة المعجزات؛ إذ كيف يمكن لبشر أن يأخذ بشرًا في رحلة أرضية من مكةَ المكرمةِ إلى بيت المقدس، هذه المسافات الطويلة، ثم يُعْرَجُ به إلى السموات العُلا إلى سِدْرة المنتهَى، ويُرِيه كلَّ تلك الآيات الباهرات، ثم يعود به قبل أن يبردَ موضعُ نومِه، حتى إن العرب أنفسَهم الذين يَعْرِفون بُعْدَ المسافة بين المسجدين استبعدُوا ذلك، وقالوا: تأتي بيتَ المقدس الذي نضرب له أكبادَ الإبلِ شهرا، ثم تعود إلى دارك في هذه اللحظات القليلة!.

وجاء المضاف إليه وهو اسم الموصول ﴿الَّذِي، وحذف الموصوف، وهو (‏لفظ الجلالة) إذ الأصل: (‏سبحان الله الذي أسرى بعبده)‏، ففيه مجاز بالحذف، وحُذِف المضاف إليه الموصوف للعلم به، ‏والتيقن في معرفته.

ثم جاءت العلة بالفعل الماضي ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ، ‏وهي تدل على انتهاء المهمة على خير، وأن القلب ‏قد استراح واستقر بحدوثها. والفعل ﴿أَسْرَى يعني أنه ‏أقدر غيره على السُّرَى، وهو ‏غير الفعل الثلاثي: (سرى) بمعنى: مشى ليلًا بنفسه، فقد أسند الله -سبحانه وتعالى- هذا الفعل إلى ذاته المقدسة، فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى، أي أسرى هو، بمعنى أنه هو ‏سبحانه الذي قضى بالمعجزة وبحصولها، وقام بها بذاتها العلية.

والباء في ﴿بِعَبْدِهِ ‏تُفِيد المعية، وفيه كناية عن شرف الصحبة، ‏وسُمُوِّ السُّرَى، ‏وكلمة (عبده) في هذا المقام كناية عن كمال التشريف، والإضافة في (عبده) كذلك للتشريف، أي عبدٌ له.

ولفظة ﴿لَيْلًا تُوحي بقِصَر المدة الزمنية، ففيها كناية عن القدرة الإلهية غير المتصوَّرة، والتنكير في هذا الظرف ﴿لَيْلًا يُشْعِرُ أنه يغشاه الهدوء وتحوطه الإيمانيات، ويملؤه صفاء الذات، ونقاء الروح.

وقوله: ﴿مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فيه كناية عن كونها رحلة عبادة، وسفر طاعة، وكلمة (من) تفيد ابتداء الغاية المكانية، وكلمة (إلى) ‏تفيد انتهاء الغاية المكانية، فقد انتقل ‏من مكان طاهر وهو المسجد الحرام، إلى مكان طاهر (المسجد الأقصى)، وفيه إعلان وراثة هذين المسجدين ودخولهما ضمن حوزة المسلمين وممتلكاتهم إلى يوم الدين.

ووصف المسجد بـ﴿الْحَرَامِ، بالمصدر؛ ليفيد الثبات والاستمرار، لبيان أن حُرْمَته مستمرة إلى يوم الدين، فالتعبير بالمصدر أكَّد على الحرمة، وثبوتها.

وقال سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ولم يقل: (باركناه) حتى تعم البركة المسجد، ‏وما ‏حوله، وتشمل المكان وما حواليه، و(نا) ‏الدالة على الفاعل تعود على الله تعالى، وإذا ‏بارك الله شيئًا فلا يمكن لكائن مَنْ كان أن ‏يمحوَ بركته، ‏ففيه كناية عن عظمة البركة واتساعها ‏واستمرارها. واستعمال الماضي (بارك) يدل على التحقيق، والظرف (حوله) يدل على أن ‏بركة المسجد ليست مقصورة عليه، وعلى ما بداخله، وإنما يمتد أثرها حواليه، وهذا فيه دلالة على كمال العناية، وتمام الرعاية، واستمرار العطاء الإلهي ‏إلى يوم الدين. والضمير في (حوله) ‏عائد على المسجد الأقصى الذي هو أقرب مذكور.

ثم ذكرت الآية بيان ‏الهدف والغاية الكبرى التي حدث لها الإسراء والمعراج، وهو قوله تعالى: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا اللام هنا للتعليل وبيان الغرض والهدف من السُّرَى، و(نريه) بضم النُّون ‏من الفعل الرباعي: (أرى) الذي يدل على كمال العناية، والرعاية وتمام الحنان والحدب برسولنا ‏الكريم -صلى الله عليه وسلم- حيث تولى الله تعالى بذاته القدسية إراءته كلَّ ‏المرائي والآيات التي شرحتْ له الحياة كلَّها، وما فيها من أحكام وقيم وابتلاءات وغرور، وحذرت من الدنيا وزينتها، وخِدَاعها من خلال ما بيَّنتْه المرائي ‏المشروحةُ في كتب السيرة وكتب التفاسير. و(من) تفيد التبعيض، أي: لنريه بعضًا من آيَاتِنَا، والإضافة (نا) ‏تفيد التشريف، وجمع (الآيات) لبيان استيعابها لمجريات الوجود كله، وشؤون الحياة ومتطلبات الأحياء جميعا.

‏ثم جاء ذُيِّلت الآية وخُتِمَت بقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وهو أسلوب توكيد ورد فيه أكثرُ من مؤكد حيث توجد فيه: (إِنَّ)، وضمير الفصل (هو)، ‏واستعمال الجملة الاسمية تأكيدًا على خطورة الحدث، وبيان قيومية الله، وسمعه، ورؤيته ‏لكلِّ ما يحيط برسوله وأمته. وقوله: ﴿السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هما صفتان مشبَّهتان ومعرَّفتان، ‏تفيدان أزلية وجودهما لله بكامل قدسيتهما. وقدَّم السمع؛ لاستيعاب ‏كلِّ مسموع، والمرء يسمع أصواتًا كثيرة، لكنه يرى ما أمامه فقط، ‏والله تعالى يسمع كل شيء حتى ما ليس له صوتٌ مسموع، ويرى كلَّ ما يحدث في كونه، ‏ويعلمه قبل حدوثه، وهو يواسي حبيبه -صلى الله عليه وسلم- بأنه مسموعٌ مرئيٌّ، ‏مشمولٌ بالعناية، محوطٌ بالرعاية، غيرُ متروك أبدًا، محفوفٌ بكل عون، ورعاية.

والهدف من رحلة الإسراء هو بيانُ القدرة الإلهية، وإيضاحُ المعجزة الربانية، والهيمنة الحقيقية على كلِّ مَنْ ومَا في الكون. كما كانت هذه الرحلة تسلية وتسرية عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث بلغ بقريشٍ معه حدًّا بعيدا من الظلم، والتجنِّي.

وفي الختام نسأل الله -عز وجل- أن يكرمنا بعبوديته، وحُسْن طاعته، والحفاظ على مسرى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- والذود عن حياضه. 

تعليقات