إنكار سيدنا لوط عليه السلام للفاحشة التي يقترفها قومه وموقفهم منه

 

اتَّسم موقف قوم سيدنا لوط عليه السلام من إنكاره للفاحشة التي يقترفونها بالتضجُّر والضيق والبغي والعُدوان، واتفقت جميعها على إخراجه من قريتهم، وجاء ذلك في آيات من سورة: الأعراف، والشعراء، والنمل، والعنكبوت، وهي:

1) قال تعالى في سورة الأعراف: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: 82].

في هذه الآية يأتي موقف قوم سيدنا لوط عليه السلام من إنكاره عليهم فاحشتهم القبيحة التي يستمرئونها مشحونًا بلهجة التضجر والإنكار والرفض، والتي ترجموها في التهديد والبغي اللذين يتمثلان في رومهم إخراجه ونَفْيه من المدينة.

وعند تأمل جواب قوم لوط عليه السلام فإنه جاء بـ (ما) النافية ثم الاستثناء بـ (إلا)، حيث نفى عنهم القرآن الكريم بقوله (ما) كل ما يُمكن أن يكون جوابًا مُنَاسبًا لِمَا كلَّمهم به سيدنا لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة وتقريعهم على فعلها، وأثبت لهم بقوله تعالى (إلا) إصرارهم على فعلهم واتِّباع أهوائهم بطرد نبي الله عليه السلام، أي لا جواب ولا ردَّ عليه سوى الطرد؛ لأن المقصور عليه في النفي والاستثناء هو الذي يلي أداة الاستثناء والمعنى فيه كما في قوله: (ما هذا إلا لك)، أي هذا لك لا لغيرك، فلم يجدوا في أنفسهم شيئًا يُجيبون به إلا التعسُّف والجور بإخراج الصالحين الْمُتطهرين من القرية، وهو جواب مَشْحُون بالتكبُّر والبغي، بعيد عن أيِّ منطق حواري من الممكن أن يُبرروا به سُوء صنيعهم.

فما جاء به قوم لوط عليه السلام في هذه الآية ليس جوابًا عن كلامه، ولكنهم قابلوا نُصْحَه بالأمر بإخراجه هو ومَنْ معه من المؤمنين من قريتهم والاستهزاء بهم.

وابتدروا بالتآمر على إخراج لوط عليه السلام وأهله من قريتهم، لأن لوطا عليه السلام كان غريبا بينهم وقد أرادوا الاستراحة من إنكاره عليهم شأن من يشعرون بفساد حالهم، الممنوعين بشهواتهم عن الإقلاع عن سيئاتهم، المصممين على مداومة ذنوبهم، فإن صدورهم تضيق عن تحمل الموعظة، وأسماعهم تصم لقبولها.

والتطهُّر: تكلُّف الطهارة، وحقيقتها النظافة، وتُطْلَق الطهارة مجازًا على تزكية النفس والحذر من الرذائل وهي المراد هنا، وصيغة التفعُّل فيها تدل على أنهم يتباعدون عن المعاصي والآثام لذلك هم لا يطيقونهم.

وجيء بالخبر جملة فعلية مضارعية لدلالتها على أن التطهر مُتَكرِّر منهم ومُتَجدِّد، وذلك أدعى لِمُنَافرتهم طباعهم والغضب عليهم، وتجهم إنكار لوط عليه السلام عليهم.

2) قال تعالى في سورة الشعراء: قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ [الشعراء: 167 - 169].

في هذه الآيات واجهوه بالتهديد بإخراجه ونَفْيه من قريتهم إن لم ينته ويتراجع عن تقبيح أعمالهم، ولكنه ظلَّ مُستنكرًا لها مُتَبرئًا منها مُعْلِنًا بُغضه الشديد لجرمهم الشنيع مُبتهلًا إلى ربه أن يُنَجِّيه وأهله من سُوء ما يعملون، فنجَّاه وأهله أجمعين إلا امرأته، ونلحظ أن سورة الشعراء أضافت أمرين جديدين لم يردا في سورة الأعراف، وهما:

الأول: أن القوم قد سبق وأن هدَّدُوه بأن يكون من الْمُخْرجين إذا لم يترك تقبيح صنيعهم، ومحاولة صرف الناس عن عملهم القبيح، وأبلغوه بذلك صراحة.

والثاني: إصرار سيدنا لوط عليه السلام على موقفه وأعلنه صراحة في وجوههم، ثم دعاء ربه أن ينجيه هو وأهله من عمل هؤلاء القوم.

وجاء التعبير هنا بلفظ الْمُخْرَجِينَ؛ لأن لوطًا عليه السلام لم يكن من أولئك القوم الذين أرسله الله إليهم، وإنما كان فيهم غريبًا.

وكان جواب لوط عليه السلام على وعيدهم جواب مستخف بوعيدهم إذ أعاد الإنكار قال: قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ، أي الْمُبغضين.

واستشهد الخطيب القزويني بالآية الثانية مرتين، الأولى: فيما أُلْحِقَ بالجناس، والثانية: رد العجز على الصدر.

3) قال تعالى في سورة النمل: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل: 56].

ونلحظ أنه لم يختلف موقفهم كثيرًا هنا عمَّا جاء في سورة الأعراف من حيث استحسانهم لفاحشتهم وعدُّ من يستقبحها مُجرمًا يجب أن يُعاقب بالإخراج والنفي من القرية.

ولا يوجد فرق هنا عمَّا في سورة الأعراف إلا في شيئين:

الأول: عطف الجواب في سورة الأعراف كان بالواو، أما عطف الجواب في سورة النمل كان بالفاء.

والثاني: هو إضمار الْمُخرجين في الأعراف بقوله: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ[الأعراف: 82]، وإظهارهم في النمل: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل: 56]، ولا منافاة بين الحصرين؛ لأن ما قاله القرآن عنهم حكاية معانٍ لا حكاية ألفاظ، ولا مانع أن يكون قوم لوط قالوا هذه مرة، وذاك مرة أخرى، فذكر النظم الكريم في كل موضع من مواضع الحكاية بعض ما قالوه هنا وبعضه هناك.

4) قال تعالى في سورة العنكبوت: ... فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [العنكبوت: 29 - 30].

امتلأ موقفهم منه في سورة العنكبوت تحديًا واستخفافًا وتكذيبًا وعنادًا، حيث استعجلوه إنزال العذاب تكذيبًا له وتعنتًا، فاستنصر ربه فنصره. فحُصِرَ جوابهم هنا في هذا القول، وهو استعجالهم بالعذاب مع التهييج عليه والإلهاب، والمقصور هو الجواب، والمقصور عليه هو استعجالهم العذاب.

والجديد في سورة العنكبوت هو مُطَالبة القوم العذاب تحديًا وتكذيبًا، واستنصار لوط ربه بصُورَةٍ مباشرة، وطمأنة الملائكة له بتنجيته وأهله باستثناء امرأته التي حق عليها كلمة العذاب، وتُعدُّ هذه المعاني إضافات جديدة في قصة لوط عليه السلام.

***

تعليقات