إنكار سيدنا لوط عليه السلام على قومه اقترافهم الفاحشة

 

ورد إنكار سيدنا لوط عليه السلام على قومه فعل الفاحشة في آيات من أربع سور، وهي الأعراف، والشعراء، والنمل، والعنكبوت:

1) قال تعالى في سورة الأعراف: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [الأعراف: 80 - 81].

وردت قصة سيدنا لوط عليه السلام في سورة الأعراف في سياق الإنذار والمخاشنة وتحريم الفواحش، وقد بدأت الآيات بصرخة مُدوِّية من نبي الله لوط عليه السلام وجَّهها إلى قومه ليُعِيدهم إلى الفطرة الإلهية السليمة وينتشلهم من بحر الرذائل والقبائح الخُلُقِيَّة، حين رآهم ينتكسون ويُفْسِدون في الأرض إفسادًا، ولعل السر في بداية الآيات بهذه الصرخة الْمُدوِّية هو الكشف عن قذارة سلوكهم، وانفرادهم بهذه المعصية التي لا سابق لهم فيها، وتدل أيضًا على أن هؤلاء القوم هم أحقر من أن يُدْعَوا إلى شرف الإيمان بالله ـ فعليهم أولا أن يُقْلعوا عن هذه الفاحشة حتى يعودوا إلى مصافِّ الإنسانية التي انسلخوا عنها فهَوَوْا إلى أسفل السافلين، ثم بعد ذلك تأتي دعوتهم إلى الإيمان بالله عز وجل، وهذا يُفيد التهويل والتفظيع والتبشيع لهذا الجرم العظيم حتى كأنه أبشع وأفظع من كُفْرهم بالله عز وجل.

والاستفهام في قوله: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ استفهام إنكاري يفيد التوبيخ والتقريع على تلك الفعلة التي بلغت أقصى القبح وغايته، وهي كناية لطيفة عفيفة عن ممارسة هذا الفعل القبيح. والفاحشةُ: ما عَظُمَ قُبْحُهُ من الأفعال والأقوال، وهي هنا إتيان ذكران الآدميين في الأدبار. والتعريف بالألف واللام فيها إما للعهد؛ لأن الإتيان هذا بالفعل معهودٌ قُبْحه ومركوز في العقول فُحْشُه. أو تكون (أل) فيه للجنس على سبيل المبالغة، كأنه لشدة قُبْحه جعل جميع الفواحش ولبُعْد العرب عن ذلك البعد التام.

وحقيقة السبق هي وصول الماشي إلى مكان مطلوب له ولغيره قبل وصول غيره، ويستعمل مجازًا في التقدُّم في الزمان، أي الأوَّلية والابتداء، وهو المراد هنا، والمقصود أنهم سبقوا الناس بهذه الفاحشة.

وقوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ تفصيل بعد إجمال، أو تفسير بعد إبهام، حيث فسر الفاحشة التي لم يسبق بها أحد من العالمين بأنها إتيان الرجال شهوة من دون النساء. والتأكيد بـ (إن واللام) كناية عن التوبيخ؛ لأنه مبني على تنزيلهم منزلة من ينكر ذلك لكونهم مسترسلون عليه غير سامعين لنهي الناهي، أو لتوقع إنكارهم عليه لتأصل هذه الفاحشة فيهم وشدة استمرائهم لها.

وجاء لفظ شَهْوَةً منصوبًا على أنه مفعول لأجله، أي لا دافع لكم إلا الشهوة المجردة، وهو ذم بليغ؛ لأنه إلحاق لهم بالبهيمية المرتطمة بالأقذار.

ثم أضرب إضرابًا انتقاليًّا عن غرض الإنكار عليهم إلى غرض الذم والتحقير والتنبيه إلى حقيقة حالهم فوصفهم بقوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وذلك للحكم عليهم بأنهم قوم قد تجاوزا الحدَّ وارتكبوا الخطر، وهذه الجملة تبين لنا مدى انغماسهم في هذه الفاحشة الشنعاء.

2) قال تعالى في سورة الشعراء: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء: 164 - 165]، ذكرت هذه الآيات أحداث هذه القصة وما دار فيه من محاورته لقومه ودعوته إلى تقوى الله عز وجل والاستدلال على صدق الرسالة بالأمانة وانتفاء طلب الأجر، وتكرار الأمر بالتقوى. ثم بعد ذلك أتى إنكار سيدنا لوط عليه السلام على قومه الفاحشة العظيمة التي تفرَّدوا بها من دون الأمم، حتى صاروا من المبتدعين في معصية الله رب العالمين، والمجاهرين بها مع إجماع القوم عليها، والانحراف بالفطرة الإلهية عن مقاصدها العليا.

والاستفهام فيها أيضا مجازي، والغرض منه الإنكار والتوبيخ والتقريع مع التلويم على تلك الفعلة الشنيعة.

ولَمَّا كانت تلك الخصلة تقتصر على فئة قليلة من الذكور دون عمومهم، جاء التعبير القرآني في غاية الدقة لتوضيح تلك الحقيقة وتقريرها، وللإشارة إلى الانحراف الفطري في التعبير بـ (الذُّكران) دون (الذكور) لِمَا تدل عليه صيغة (فعلان) في الاستعمال القرآني على القِلَّة النِّسبية؛ لأن الموصوفين بتلك الصفة لا يأتون جميع الذكور، وإنما يأتون صِنْفًا خاصًّا منهم، ممن تستسيغه نفوسهم المنكوسة، وهم أقل من مجموع الذكور، ولذلك جاءت الألف والنون في (الذكران) للمبالغة والتأكيد؛ لأن الذين يؤتون في أدبارهم ليسوا مجرد ذكور، وإنما هم ذُكْران، أي كاملوا الذكورية مثلهم، فناسب السياق الكلمة الدالة على امتلاء الذكور للذكورية وتشبعهم منها. فجاء التعبير بلفظ (الذكران) دون (الذكور). والتعريف فيها للمبالغة في تعريفها ذمًا لهم وتوبيخًا. ولعل السر في استخدام هذا الجمع هو غرابة الفعل الذي كان يفعله قوم لوط فلذلك جاء القرآن بجمع غريب يتناسب مع غرابة ذلك الفعل.

والتعريف في قوله: مِنَ الْعَالَمِينَ للاستغراق على معنى أنهم مختصون بهذه الفاحشة من دون سائر الناس.

وعطف الآية الثانية على الأولى ولهذا العطف سره البلاغي حيث أنكر عليهم نبيهم لوط عليه السلام إتيان الذكور وأنكر عليهم تركهم الأزواج، وكل إنكار مقصود لذاته مُسْتَقِلٌّ بمعناه، ولذلك نظمت الجملتان في سلك العطف؛ لاقترانهما في الإنكار والتوبيخ.

وصُدِّرت الجملة بالتعريف بضمير الخطاب في قوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ لذمِّهم والتشهير بفعلهم القبيح الذي عُرفوا به دون غيرهم من العالمين، وهذا الخطاب يُشعر بأنهم قوم تجاوزوا الحدَّ في ارتكاب هذه المعصية على عِظَمِها، فأصبح أمرهم ذائعًا معروفًا بين الناس، والتعبير بالجملة الإسمية للمبالغة في تحقيق نسبة العدوان إليهم التي تدلُّ على الثبوت والدوام والذي يُفِيد تمكُّن هذه الصفة منهم. والتنكير في قوله: قَوْمٌ للتحقير، ويجوز أن يكون للمبالغة.

3) قال تعالى في سورة النمل: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 54-55].

والإنكار الوارد هنا مثل الإنكار الوارد في سورة الأعراف والشعراء، إلا أن الجديد هنا أنَّ الإنكار الأول ذُيِّل بقوله: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، وهذه الجملة حال، جيء بها للزيادة في التشنيع عليهم، فعِلْمُكم بذلك أعظم لذنوبكم وأدخل في القبح والسماجة. والإنكار الثاني ذُيِّل بقوله في الإضراب الانتقالي بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ، والمراد بالجهل هنا السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العِلْم.

4) قال تعالى في سورة العنكبوت: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ... [العنكبوت: 28 - 29].

أكَّد الخبر في قوله: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ بـ (إن، واسمية الجملة، ولام التوكيد) لتشديد الإنكار وتقويته؛ لأن إتيانهم الرجال كان واقعًا محقًّقًا فدُلَّ عليه بكلام يُطَابق الواقع.

ثم زاد الإنكار هنا في ذكر مُنْكَرَين آخرين وهما، الأول: قطع السبيل على الناس لإكراههم على ممارسة هذه الرذيلة الشنيعة أو لسلبهم أموالهم، والثاني: الْمَجاهرة بهذه الفاحشة وممارستها على أعين الناس ترويجًا لها بلا حياء ولا مروءة.

والتعبير بصيغة المضارع في هذه الأفعال (تأتون، تقطعون) يبين لنا أنها كانت عادة لهم، ويجعلنا نستحضر هذه الصورة الدنيئة.

***

تعليقات