تفسير سورة العصر وتحليلها بلاغيا

                                                        سوره العصر بلاغيا               

 تفسير سورة العصر

 من أوائل ما نزل من القرآن في مكة، فهي السورة الثالثة عشر بحسب ترتيب النزول. وقد جاءت هذه السورة في غاية الإيجاز والبيان، لتوضيح سبب سعادة الإنسان أو شقاوته، ونجاحه في هذه الحياة أو خسرانه.

بدأت سوره العصر بأسلوب القسم، حيث أقسم الله سبحانه وتعالى في مطلعها بالعصر وَالْعَصْرِ [العصر: 1]، واختلف العلماء في بيان المراد به، فقيل: يُطْلَق على وقت العشيّ، وفيه الغروب والشفق، وقيل: المراد به صلاة العصر وأقسم الله بها لفضلها.

وقيل: المراد به اسم للدهر، أي الزمن الذي يحياه الإنسان، وأقسم الله تعالى به؛ لاشتماله على أصناف العجائب، أو للتنبيه بتصرُّف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع، ففيه تكون الأيام والليالي، ويكون الصباح والمساء، والليل والنهار، وفيه نجد يد الله تقلّب الأمور، فهو سبحانه يعزّ ويذل، ويرفع ويضع، ويُعلى ويخفض، وفي الزمان تتبدّل الأحداث والدول، والأحوال والمصالح.

بدأت سوره العصر بقسم ظاهر، وإن حذف فيه فعل القسم اكتفاء بالواو الجارة، وهذا القسم يحمل معنى التعظيم للمُقْسَم به، فالمقسم به في السورة، صورة مادية، وواقع حسي، يشهد به الناس أصناف الغرائب والعجائب والعبر والعظات، والقسم بالشيء يدل عادة على تعظيمه، أما إذا أضيف إليه الخسران فقد اتسم بالخذلان.

وجاء جواب القسم إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2]، وهي جملة خبرية مؤكدة بمؤكدين: (إن، ولام الابتداء)، ويسمى هذا الضرب من الخبر إنكاريًّا، ويُؤْتَى به حين يكون المخاطَب منكرا؛ إذ الإنسان مُنْكِر بطبعه، جاحد جميل وعطاء ربه، غافل أبدًا يومه وليله.

والألف واللام في الْإِنْسَانَ تُفيد الجنس والاستغراق، وفيها معنى العموم، فالمراد بالإنسان هنا الجمع وليس المفرد، بدلالة أنه استثنى منه الذين آمنوا.

وقوله: لَفِي خُسْرٍ اشتملت هذه الجملة على ثلاثة تأكيدات، (إن، واسمية الجملة، ودخول اللام)، ووجود اللام يفيد زيادة التوكيد.

والخُسْر: هو النُّقْصَان وذهاب المال، والتنكير في لفظ (خُسْر) يفيد التفخيم والتهويل، أي: في خسران عظيم، أو يفيد التنويع، أي: نوع من الخسران غير ما يتعارفه الناس.

وقوله:إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3]، بعد أن ذكر الإنسان على العموم وقد حاق به الخسران، استثنى منه من كانت صفته الإيمان اليقيني، وجمع معه العمل الصالح والخير الباقي، فربح في تجارته التي لن تبور؛ لأنه عمل للآخرة ولم تشغله أعمال الدنيا.

وقوله: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ أي: وصَّى بعضهم بعضًا بالقرآن والعمل به، وعبَّر بالحق وأراد القرآن؛ لأن الحق من صفات القرآن ولازم له، فهو مجاز علاقته اللزوم.

وقوله: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ أي: بالصبر عن معاصي الله سبحانه وتعالى، والصبر على فرائضه. وجعل الصبر قرينا للتواصي بالحق، لما فيه من دلالة على عظم قدر الصبر وفخامة شرفه. والتواصي بالصبر يندرج تحت قوله: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، وأفرده بالذكر؛ لإبراز كمال الاعتناء بشأنه، ومزيد شرفه وارتفاع طبقته.

وجاءت آيات سورة العصر متناسقة حيث عطف فيها الفعل الماضي على الماضي، واشتملت الآيات على السجع، حيث ختم كلا منها بالراء المكسورة، بل فيها أيضا لزوم ما لا يلزم حيث جعل قبل الراء في كل آية، حرفا ساكنا، كل هذا يدخل في بديع الكلام واتساقه وحسن تناوله، فيسرى في النفس مسرى النسمة الرقيقة بعد الحرارة اللافحة، فالوعيد القارع أعقبه بالثواب الوافر، ومن أحـسـن السـجـع مـا جـاء في هذه السورة، لأن الآية الأولـى قـصـيـرة، ثم طالت الثانية، وازدادت الثالثة طولا؛ لأن السجع إذا اسـتـوفـى أمـده مـن الأولى، ثم جاءت الثانية دونها صارت كالشيء المبتور.

وسوره العصر تمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام، وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة؛ وتصف الأمة الإسلامية: حقيقتها ووظيفتها في آية واحدة، هي الآية الثالثة من السورة، وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله سبحانه.

وخلاصة سوره العصر أن الناس جميعا في خسران إلا من اتصفوا بأربعة أشياء: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.

***

 

إرسال تعليق


أحدث أقدم
document.querySelector('.button').addEventListener('click', function() { alert('مرحبًا في طريق التعلم!'); });