كرم ضيافة سيدنا إبراهيم عليه السلام

 

ورد الحديث عن كرم ضيافة سيدنا إبراهيم عليه السلام في سورة هود في قوله تعالى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69]، ورد في سورة الذاريات في قوله تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ [الذاريات: 26-27].

بدأ الحديث عن كرم ضيافة سيدنا إبراهيم عليه السلام في سورة هود بقوله: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ؛ لأن الملائكة لما جاءت إليه عليه السلام ظنَّهم ناسًا؛ لأنهم أتوا على هيئة البشر فبادر إلى قِرَاهم وإضافتهم وتقديم الطعام لهم، فبعد أن حيَّاهم بأحسن مما حيوا به جاء السياق يطوي الأحداث في سرعة عجيبة دل على ذلك انتظام الفاء في صدر الجملة، المفيدة للترتيب والتعقيب والسُّرْعَة، مع انتفاء اللبث، وهو لغة: الإقامَةُ في المكان، يقال: (لبث بالمكان) أقام به مُلازِمًا له، ومعنى: فَمَا لَبِثَ أي ما أبطأ حتى كأنه لم يلبث مُطلقًا من شدَّة سُرْعَة إِحْضَار ضيافته، وانتفاء اللُّبْثِ مُبَالغَةٌ في العَجَلِ.

والعِجْلُ: وَلَدُ البقرة، وجاء به على عادة أهل البادية من إكرام الضيوف. والتنكير في لفظ (عجل) للتعظيم.

والحَنِيذُ: الْمَشْوِىُّ، وهي فعيل بمعنى مفعول، والشَّيُّ أسرع من الطبخ، فهو أعون على تعجيل إحضار الطعام للضيف. وقيل: (حَنِيذٍ) معناه يقطر دسمه. وهذا اللفظ من الفرائد القرآنية التي لم ترد في القرآن الكريم إلا في هذه الآية، ومعناه: اللحم المشوي، وآثر وصف (حنيذ) دون أن يقول مشوي؛ لأن الحنيذ هو اللحم المشوي بالحجارة الْمُحماة دون أن تمسه النار، وهو أنظف وأحسن وأجود أنواع الشيِّ، وألذه طعمًا، بخلاف ما لو قال مشويًّا فإنه لا يدل على تلك الهيئة بعينها؛ لأن للشيِّ طرقًا عديدة وكثيرة.

أما الحديث عن كرم ضيافة سيدنا إبراهيم عليه السلام في سورة الذاريات فقد بدأ بقوله تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ [الذاريات: 26-27].

والفاء في قوله: فَرَاغَ تدل على تعجيله بالقِرَى، وعدم الْمُهْلَة في ذلك، لأنها تفيد الترتيب والتعقيب. والتعبير بالفعل (راغ) يُوحِي بسُرْعَةٍ يصحبها حركة في جهات مختلفة، وهي دليل فرحته عندما ذهب للمجيء بالطعام له، والمراد هنا أنه ذهب في خفية دون أن يشعر الضيوف، وهذا من حُسْنِ الأدب مع الضَّيْف ليُبَادر ضَيْفه بقِرَاه، فالمعنى: أنه مال إلى أهله دون أن يُشْعِرَهم. وأوثر التعبير بالفعل (راغ) دون غيره من الأفعال التي تجري في دائرة معناه كـ (مال) أو (عدل) وذلك لما فيه من التخفي والتستر، وهذا أبلغ في الإكرام، وأدل عليه.

والفاء في قوله: فَجَاءَ أفصحت عن جُمَلٍ قد حُذِفَت لدلالة المقام والسياق على المحذوف، وإيذانًا بكمال سُرْعَة المجيء بالطعام، والمحذوف هنا أكثر من جملة، والتقدير: فراغ إلى أهله فأمرها بإعداد الطعام الذي ارتضياه فأعدته له فحمله فجاء به إليهم، وهو عجل سمين، والإيجاز هنا يُشِير إلى السُّرْعة التي أعدَّا فيها طعامهم، وكَثْرَة كرمه؛ لذا كُني بأبي الضيفان.

ووصْفُ العِجْلِ بالسَّمين تتميم؛ لأن التعبير بقوله (عِجْل) يُومِئ إلى كرمه؛ لأن تنكيره للتعظيم، أي عجل عظيم، فلما وصفه بالسمين أضاف نكتة بلاغية مضمونها المبالغة في كرمه وأنه قدَّم إليهم أفضل ما عنده، وهذا من آداب الضيافة.

واستشهد الإمام عبد القاهر بهذه الآيات على مواطن الفصل [ينظر: دلائل الإعجاز (1/240، 241)].

وألا في قوله: أَلَا تَأْكُلُونَ للعرض، وهو الطلب بلين ورفق، فعرض عليهم تناول طعامه، وفيه تأنيس لهم وتشجيع على الأكل، لدلالته على أن يأكلوا مسرورين بذلك.

***

موازنة بين الآيتين

1) في آيات سورة هود أعقب سلام سيدنا إبراهيم عليه السلام بإسراعه في المجيء بعجل حنيذ لذلك كان التعبير بالفاء، أما التعبير بالإسراع في سورة الذاريات فكان أيضًا بالفاء ولكن جاء في قوله: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ، والتعبير بالفعل (راغ) يُوحِي بسُرْعَةٍ يصحبها حركة في جهات مختلفة.

2) ذكرت آيات سورة الذاريات تفاصيل لم تذكر في آيات سورة هود، فذكر أهله في قوله: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ، وذكرت تقريبه الطعام لضيوفه في قوله: فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ، والسر في ذلك: أن سورة هود نزلت قبل سورة الذاريات، فناسب ذكر التفصيل فيها.

3) اختلف وصف العِجْل في السُّورتين، فجاء وصفه في سورة هود بالحَنْذِ، أي الشوي، بينما جاء وصفه في سورة الذاريات بالسمنة، وفي اختلاف الوصف دلالة على أن العجل اجتمعت فيه هاتان الصفتان المحمودتان، فهو سَمِينٌ بَدِينٌ، ومَشْوِي يَقْطُر منه دسمه، وفي تنوع صفتي العجل ما يشير إلى عِظَمِه، وواسع كَرَم سيدنا إبراهيم عليه السلام.

***

تعليقات