ورد التعبير عن فزع سيدنا إبراهيم عليه السلام من ضيوفه
لما امتنعوا عن الأكل، ثم بعد ذلك عرف أنهم رسل من الله، وذلك في قوله تعالى في
سورة هود: ﱹفَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ
نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا
إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﱸ [هود: 70] وفي سورة الذاريات: ﱹفَأَوْجَسَ
مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ
ﱸ [الذاريات: 28].
بدأت آية سورة هود بالفاء في قوله: ﱹفَلَمَّا رَأَى
أَيْدِيَهُمْﱸ وهي عاطفة على محذوف، والتقدير: فقرَّبه إليهم فلم
يمدوا أيديهم، وهنا إيجاز بالحذف يُرْشِد إليه السياق، وحُذِفَ؛ لأنه لا يتعلَّق
به غرض، فأدَّى المعنى من أقرب طريق وهو الإيجاز بالحذف، إذ المهم أنهم امتنعوا عن
الطعام وليس بنفس درجة الأهمية تقريبه لهم.
وفي قوله: ﱹلَا تَصِلُ
إِلَيْهِ ﱸ كناية، حيث أطلق اللفظ (لا تصل) ولم يرد إلا لازم
معناه وهو عدم تناوله، وهو كناية عن نسبة عدم تناولهم لطعامه، وهي من الكنايات
البعيدة التي ينتقل فيها من لازم إلى غيره، والمعنى: لم يتناولوه بأيديهم، ويلزم
هذا امتناعهم.
وهذا التعبير أشد في عدم الأخذ من أن يقول: (لا تتناوله)،
فهو أبلغ وأدق
في أداء المعنى المراد، لأنه يعني أنه لم تتحرك هيئتهم بتقديم الطعام وسادهم
الصمت، فهو نفي للوصول من بدايته، أما إذا كان التعبير بقوله: فامتنعوا، ربما
يُتَوهَّمُ أنهم عرفوه وعافوه أو لم يُعْجبهم هذا الطعام، فأراد أَنْ ينفي وُصُول
أيديهم إليه من الأصل.
وقوله: ﱹنَكِرَهُمْ ﱸ يقال: (نكر
الشيء) إذا أَنْكَره، أي كرهه، أو اسْتَنْكَر تصرُّفَهُم. وإنما نكرهم؛ لأنه حسب أن إمساكهم عن الأكل
لأجل التبرؤ من طعامه، وإنما يكون ذلك في عادة الناس في ذلك الزمان إذا كان النازل
بالبيت يضمر شَرًّا لمضيفه، لأن أكل طعام القِرَى كالعهد على السلامة من الأذى،
لأن الجزاء على الإحسان بالإحسان مركوز في الفطرة، فإذا كفَّ أحد عن تناول الإحسان
فذلك لأنه لا يريد المسالمة ولا يرضى أن يكون كفورا للإحسان، ولذلك عقب قوله: ﱹنَكِرَهُمْ ﱸ بـ ﱹوَأَوْجَسَ
مِنْهُمْ خِيفَةً ﱸ، أي أحسَّ في نفسه خِيفَةً منهم وأن يكونوا
مُضْمِريِن شَرًّا له وأَضْمَرَ ذلك، ومصدره الإيجاس.
والخيفة: الخوف، وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من
الخوف، واختيار هذه الصيغة لما فيها من المبالغة، أي خيفة عظيمة. وتأخيرها عن
الجار والمجرور ﱹمِنْهُمْ ﱸ؛ لأن المراد
الإخبار بأنه عليه السلام أوجس من جهتهم لا من جهة غيرهم، كما أن في تأخيرها
تشويقًا إليها؛ لأن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقُّب النفس إليه فيتمكن عند وروده
عليها فضل تمكن.
وجاءت جملة: ﱹ قَالُوا لَا
تَخَفْ ﱸ مفصولة عمَّا قبلها، لأنها أشبهت الجواب، لأنه لما أوجس
منهم خيفة ظهر أثرها على ملامحه، فكان ظهور أثرها بمنزلة قوله: (إِنِّي خِفْتُ مِنْكُم)، فتُوحِي بسؤال تقديره: ماذا قالوا لَمَّا نكرهم وأوجس
منهم خيفة؟ ولذلك جاء قولهم:
ﱹلَا تَخَفْ ﱸ، كالجواب للسؤال الْمُضْمَر، فحكي ذلك عنهم بالطريقة التي تُحْكَى بها
المحاورات، فسبب الفصل
هنا بين الجملتين أن بينهما شبه كمال اتصال المسمى بالاستئناف البياني، ففصلت كما
يفصل الجواب عن السؤال، ولو وصل لكان في الكلام خلل، إذ يكون قوله: ﱹلَا تَخَفْ ﱸ معطوف على
كلام سابق، وهذا غير مراد؛ لأنه لا موجب للعطف.
أو هو جواب كلام مُقَدَّر دلَّ عليه قوله: ﱹ وَأَوْجَسَ
مِنْهُمْ خِيفَةً ﱸ، أي وقال لهم: إني خفت منكم، كما حكي في
سورة الحجر: (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) [الحجر:
52]. ومن شأن الناس إذا امتنع أحدٌ من قبول
طعامهم أن يقولوا له: لعلك غادر أو عدو، وقد كانوا يقولون للوافد: أحرب أم سلم.
والنهي في قوله: ﱹلَا تَخَفْ ﱸ نهي حقيقي بعدم
الخوف على صيغته المشهورة بلا الناهية.
ثم عقَّب بعِلَّة النهي عن الخوف وسر زواله بقوله: ﱹإِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﱸ بالأسلوب الخبري المؤكد بإنَّ واسمية
الجملة، فهو استئناف مُبَيِّن لسبب مجيئهم، وحُذِفَ مُتَعلَّق الفعل (أُرْسِلْنَا) لظهوره،
أي بأيِّ شيء أُرْسِلْنَا، والحذف هنا للإيجاز.
فلما أخبرته الملائكة بأنهم مرسلون إلى قوم لوط زال ما
استقرَّ في نفسه من خوف وأحسَّ بالأمن، فإرسالهم إلى قوم لوط أدعى؛ لأن يزول الخوف
من نفسه ويجلب السرور، ولم يُصَرِّح بخوفه هنا كما صرَّح به في سورة الحجر اكتفاء
به هناك.
وبُنِيتَ الجملة على صيغة الفعل المبني للمجهول في قوله:
قوله: ﱹإِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﱸ، والسر في ذلك
معرفة الْمُرْسِل وهو الله عز وجل، وبناء الجملة على صيغة البناء للمجهول
يُوحي بأنهم لا اختيار لهم فهم أرسلوا، بصيغة البناء للمجهول، أي أرسلهم ربهم إلى
قوم لوط.
وعَبَّر عن الأقوام المراد عذابهم بطريق الإضافة ﱹقَوْمِ لُوطٍ ﱸ إذ لم يكن
لأولئك الأقوام اسم يجمعهم ولا يرجعون إلى نَسَبٍ بل كانوا خليطًا من فصائل عرفوا
بأسماء قُرَاهم.
أما ما ورد في سورة الذاريات فقد اكُتْفِيَ فيه بالتعبير
عن فزع سيدنا إبراهيم عليه السلام من ضيوفه لما امتنعوا عن الأكل بقوله تعالى: ﱹفَأَوْجَسَ
مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْﱸ [الذاريات: 28]، وما ذكر في هذا الجزء من الآية متفق مع ما ورد في سورة هود، إلا أن حرف
العطف في الذاريات هو الفاء أما في سورة هود فهو الواو.
والفاء عاطفة أفادت الترتيب والتعقيب، والعطف يقتضي
معطوفًا عليه مُناسبًا للسياق وهو محذوف، وقد أوضحه النظم في سورة هود في قوله
تعالى: ﱹفَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ
إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةًﱸ وحُذِف هنا
اعتمادًا على وضوحه فيما ورد في سورة هود، حتى يبعد النظم عن التكرار الذي لا يُضِيف
جديدًا.
وورد ذكر إنكاره لهؤلاء الضيوف في سورة هود بعد ذكر
تقديمه الطعام ورأى أيديهم لا تصل إليه ﱹفَلَمَّا رَأَى
أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْﱸ [هود: 70]، أما في سورة الذاريات فكان إنكاره لهم بعد السلام عليهم مباشرة ﱹقَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونﱸ [الذاريات: 25]، والسؤال متى كان هذا الإنكار، قبل تقديم الطعام أم بعده؟
والجواب: أن الإنكار قد حصل عنده لما دخلوا عليه في
هيئتهم الغريبة التي لم يعهدها، ثم زاد النكر وتأكد بالخوف بعد أن قدَّم لهم
الطعام ولم تصل أيديهم إليه، وظهر عليه أثر ذلك مما دعاهم أن يقولوا له ﱹلَا تَخَفْ ﱸ.
والذي يدل على هذا أن إنكارهم عقيب السلام كان إنكارًا
عامًّا عند جميع من يراهم وذلك لم يسنده سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى نفسه
بقوله: أنكرتكم مثلا، بل قال: أنتم منكرون في أنفسكم عند كل أحد منَّا، ولما
شاهدهم لا يأكلون اشتدَّ إنكاره لهم، ومن ثمَّ أسند الإنكار إليه فقيل (نكرهم).
***