من بلاغة القرآن في ذكر مجيء الملائكة لسيدنا إبراهيم عليه السلام

 

ورد الحديث عن مجيء الملائكة لسيدنا إبراهيم عليه السلام في موضعين في القرآن الكريم:

الأول: قوله تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ [هود: 69].

بدأت الآية بواو العطف، وقد عطفت قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام على قصة سيدنا نوح عليه السلام، وهذا العطف من باب عطف القصة اللاحقة على القصة السابقة، وسر الوصل هو التوسط بين الكمالين؛ لاتفاق الجملتين في الخبرية.  

وجاء الأسلوب الخبري هنا مُؤَكَّدًا باللام الْمُوَطِّئة للقسم و(قد) المفيدة للتحقيق والتوكيد مع الماضي للاهتمام به، «وصدرت بكلمة (قد)؛ لأن السَّامِعَ لقصص الأنبياء يتوقَّع قصَّة بعد قصة، و(قد) للتوقُّع دخلت فيها لتأكيد الخبر وللقطع بوقوعه.

والرُّسُل: هم الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، وإضافة الرُّسُل إلى نون العظمة تشريف لهم، ودلالة على عِظَم مكانتهم الْمُسْتَمَدَّة من كونهم رُسُل الله تعالى.

والبُشْرَى: اسم للتبشير والبشارة، وهو الإخبار بما يَسُرُّ، وسيفصح السياق عن هذه البشرى في حضور سارة بعد ذلك، وهي أن يرزقه الله عز وجل بالولد من زوجته سارة.

والسلام: التحِيَّة، فقالت الملائكة في تحيَّته (سَلَامًا) وهو مفعول مطلق وقع بدلا من الفعل، والتقدير: سَلَّمْنَا سَلامًا، وجاء قولهم بالجملة الفعلية الدالة على التجدد والاستمرار. أما ردُّه عليهم فكان بالجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار، فقال: (سَلَامٌ) وهو مصدر مرفوع على الخبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أَمْرِي سلام لكم، فدل هذا الرد على أنه حيَّاهم بأفضل مما حيّوه به؛ فرفع المصدر أبلغ من نصبه، لأن الرفع فيه تناسي معنى الفعل، فهو أدل على الدوام والثبات.

***

والثاني: قوله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات: 24-25].

بدأت الآية بالاستفهام، وهو استفهام تشويقي تقريري؛ لأن هذه القصة وردت في سورة قبل هذه السورة نزولا، وهي سورة الحجر، والسبب في ذلك أن يجمع نفس المخاطب، كما تبدأ المرء إذا أردت أن تُحَدِّثَهُ بعجيب، فتقرُّره هل سمع ذلك أم لا؟ فكأنك تقتضي أن يقول لا. ويرى الزمخشري أن الاستفهام في الآية خرج عن معناه الحقيقي إلى معنى آخر مجازي وهو التفخيم للحديث [الكشاف (4/401)].

والْمُخَاطَب بهذا الاستفهام هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لتسليته على ما لَقِيَهُ من تكذيب قومه، ووعيد السامعين منهم -حين يُقْرَأ عليهم القرآن أو يُبَلِّغُهُم- بأنهم صائرون إلى مثل ذلك العذاب الوارد في قصة قوم سيدنا لوط عليه السلام حين كذَّبوا رسولهم لاتِّحاد الأسباب، وفي هذا دلالة على أن الحديث لم يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق الوحي، فقد كان الرسول أُمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب ولم يُصَاحِب أصحاب التواريخ، فتكون هذه الآية وأمثاله من الأدلة على إثبات نبوته.

وقيل: قد تكون (هل) في الآية بمعنى (قد)، أي قد أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. والتعبير في الآية بالفعل (أتى) يدل على السهولة، والمعنى: هل تيسَّر لك خبر ما كان، وحديث ما شأنه كان كذا، فناسب هذا التفصيل وتسهيل هذه الأخبار الإتيان بالفعل (أتى). وجاء التعبير في (أتاك) بالماضي؛ ليدل على أن الحديث أتى لتحقيق الوقوع.

والضيف: مصدر (ضاف) إذا مال، فأُطْلِقَ على الذي يميل إلى بيت أَحَدٍ لينزل عنده، ثم صار اسمًا، ويطلق على الواحد والجماعة، فإذا لُوحِظ أصله أُطْلِقَ على الواحد وغيره، ولم يُؤَنِّثوه ولا يجمعوه، وإذا لُوحِظ الاسم جمعوه للجماعة وأنَّثُوه للأنثى، فقالوا: أضياف وضيوف، وامرأة ضيفة. والضيف في الآية اسم جمع، ولذلك وُصِفَ بالْمُكْرمين. والْمَعْنِيُّ به الملائكة الذي أظهرهم الله لسيدنا إبراهيم عليه السلام فأخبروه بأنهم مُرْسَلُون من الله لتنفيذ العذاب لقوم لوط، وسماهم الله ضيفًا نَظَرًا لصورة مجيئهم في هيئة الضَّيْفِ.

وإضافة الضيف إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام فيه دلالة على أنهم ذو شأن عظيم. وإفراد الضَّيْفِ دليل على وحدة الغاية التي من أجلها أرسلوا، وهم وإن تعدَّدت أشخاصهم فهم كشخص واحد كُلِّفَ بِمُهِمَّةٍ لا تقبل الاختلاف أو التعدد.

ووصفهم بالمكرمين لاصطفائهم عند الله وسفارتهم بين الأنبياء، أو مُكْرَمين عند إبراهيم حيث خدمهم بنفسه هو وزوجته وعمل لهم القِرَى. ووصفهم بهذا الوصف يشير إلى ثبوت هذه الصفة لهم ورسوخها فيهم؛ لأن الوصف باسم المفعول يُفِيد الثبوت والدوام.

وجاءت كلمة (قوم) نكرة للدلالة على أنهم قوم غير معروفين، فهي تأكيد للكلمة التي بعدها وهي مُنْكَرون، وسيدنا إبراهيم عليه السلام قد أنكرهم؛ لأنهم ليسوا ممن عهدهم من الناس، أو لأن أوضاعهم وأشكالهم كانت خلاف ما عليه الناس.

***

موازنة بين الآيتين

1) بدأت قصة مجيء الملائكة إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام في سورة هود بداية مُشوِّقة فيها إيثار للانتباه، وإيقاظ للأسماع، وتهيئة للعقول، فبدأت بالتوكيد باللام وقد، وذلك للإشعار بأهمية الخبر، وتأكيد مجيء الملائكة إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام وتحقيق قدرة الله عز وجل على إنزال الملائكة إلى رسله في الأرض تثبيتًا لقلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وردًّا على طلب المشركين في بداية السورة، الوارد في قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود: 12]. وقد اشتملت على لفظ البُشْرَى، والغرض منه التشويق والترغيب في متابعة الإفصاح عن هذه البشرى لمعرفتها.

أما قصة مجيء الملائكة إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام في سورة الذاريات فقد بدأت أيضًا بداية مُشوِّقة، حيث بدئ بالاستفهام المشوِّق لما بعده، وعبر بلفظ الحديث وصوَّرَهُ بصورة القادر على الإتيان، وجعل الملائكة ضيوفًا، ووصفهم بالْمُكْرَمين، وفي كل ذلك إثارة للانتباه، وتشويق إلى معرفة هذا الحديث العجيب ترغيبًا في متابعته.

2) جاءت هذه القصة في سورة هود معطوفة على القصص السابقة عليها، بخلاف سورة الذاريات فقد جاءت القصة فيها مستقلة غير معطوفة على شيء سابق.

3) جاء الحديث في سورة هود عن الملائكة بأنهم رسل من عند الله، فأضافهم الله لنفسه بقوله: رُسُلُنَا بينما وصفهم في سورة الذاريات بقوله: ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، وهذا الوصف لهم في السورتين وإن كان مختلفًا إلا أنه يدل على تشريفهم ومكانتهم، الأول: بإضافتهم إلى نون العظمة، والثاني: بإضافتهم إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام.

4) بدأ الحوار في سورة هود بإلقاء الملائكة السلام على سيدنا إبراهيم عليه السلام وقد جاء سلام الملائكة فيها مباشرًا غير مسبوق ببيان وقته قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ، بينما جاء في سورة الذاريات مسبوقًا بذكر وقته إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ.

والسر البلاغي في هذا الاختلاف أن آيات سورة هود ذكرت مجيء الرُّسل إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ فأغنى هذا عن ذكر دخولهم عليه، أما في الذاريات فلم يذكر في بدايتها مجيء الملائكة، فناسب ذكر دخولهم عليه إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ.

5) تشابه ما جاء في السورتين -هود والذاريات- بخصوص تحيتهم بإلقاء سلام الملائكة على سيدنا إبراهيم عليه السلام ورده السلام عليهم، بعبارة واحدة، وهي قوله تعالى: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ، فجاء ردُّه أقوى من تحيَّتهم؛ لكونه جملة اسمية تُفِيد الدَّوام والثبوت، بينما وردت تحيتهم جملة فعلية تفيد التجدد والحدوث.

***

تعليقات



من بلاغة القرآن في ذكر مجيء الملائكة لسيدنا إبراهيم عليه السلام - مدونة البلاغة العربية أرسل بريدًا إلكترونيًا