ورد الأمر إلى سيدنا آدم عليه السلام وزوجه بسُكْنَى
الجنة في سورتي البقرة والأعراف، فقال في البقرة: (وَقُلْنَا
يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة: 35]، وقال في الأعراف: (وَيَا
آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [الأعراف: 19].
ونلاحظ استهلال حكاية الأمر في سورة البقرة بفِعْل
القَوْل وهي قوله: (وَقُلْنَا
يَا آدَمُ)، بخلاف ما ورد
في سورة الأعراف حيث نُودِيَ عليه السلام فيها مباشرة، فقال: (وَيَا آدَمُ). والسِّرُّ في هذا الاختلاف يرجع إلى المقام الذي وردت
فيه هذه الآيات في السورتين وما يقتضيه كلٌّ منهما، فالمقام في سورة البقرة هو:
التَّذْكِيرُ بِنِعَم الله ـ على عباده، وذلك من خلال سَرْدِ أحداث قِصَّة أبيهم آدم
عليه السلام وما امتنَّ به المولى ـ عليه من
صُنُوف النِّعَم. فجاء قوله: ﱹ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ ﱸ معطوف على
قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا) [البقرة:
34]، وذلك على
معنى أنه بعد الانتهاء من أمر الملائكة بالسُّجُود وما حدث منهم بالاستجابة للأمر،
وما كان من الشيطان بالامتناع جاء هذا الأمر، ولموافقة هذا الجوِّ من الامتنان وقع
فِعْل القَوْل مُسْنَدًا إلى ضمير العظَمَة.
وأما المقام الذي وردت فيه هذه الآيات في سورة الأعراف
فهو إِبْرَازُ جانب العَدَاء من الشيطان لآدم وذُريَّته، وتصوير نفسيَّته البغيضة،
لذلك عطف قوله تعالى: (وَيَا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [الأعراف: 19] بالواو مُبَاشرة على فِعْلِ الخروج المذكور في قوله
تعالى لإبليس: (اخْرُجْ
مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) [الأعراف: 18]
لملائمة هذا المقام، فناسب نَظْمُ كل آية في السورتين المقام الواردة فيه، وما يقتضيه كلٌّ منهما.
وهذا من عطف
المتكلم بعض كلامه على بعض إذا كان لبعض كلامه اتِّصَال وتناسب مع بعضه الآخر، ولم
يكن أحد الكلام موجَّهًا إلى الذي وُجِّهَ إليه الكلام الآخر، مع اتِّحاد مقام
الكلام، كما يفعل المتكلم مع متعددين في مجلس واحد، حيث يُقْبِلُ على كلِّ مُخاطَب
منهم بكلام يخصُّه، ومن أسلوب هذه الآية قوله تعالى: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﯫ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي) [يوسف: 28، 29]، فقد عطف العزيز خطاب امرأته على خطاب سيدنا يوسف عليه
السلام. ويجوز أيضًا أن يكون العطف هنا من قبيل عطف القصة على القصة.
ولا شك أنَّ توجيه الخطاب لآدم بهذه الفضيلة بحضور إبليس
بعد أمره بالطَّرْدِ في آية سورة الأعراف زيادة إهانة للشيطان، فإعطاء النِّعْمَةِ
لِمَرْضِيٍّ عنه في حين عِقَاب مَن استأهل العقاب زيادة حَسْرَة على الْمُعَاقَب،
وإظهارٌ للتفاوت بين مُسْتَحِقِّ الإنعام ومُسْتَحِقِّ العقوبة.
وفي ندائه لسيدنا آدم عليه السلام إشارة إلى تكريمه
والامتنان عليه والتفخيم لشأنه، وهو من ملائمات المقام للآيتين، فضلا عن أن نداءه
مما يسترعي أسماع أهل الملأ الأعلى فيتطلَّعُون لما سيُخَاطَب به، ولا سيما وأن
الملائكة ما زالت تتطلع إلى الجديد في شأنه عليه السلام.
وتصديرُ الكلام بالنداء في
قوله تعالى: (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) لتنبيه المأمور لما يُلْقَى إليه من الأمر وتحريكه لما يُخَاطَب به إذ هو من الأمور التي
ينبغي أن يتوجَّه إليها.
وقوله: (اسْكُنْ) فعل أمر، والأمر هنا يحتمل أن يكون للإباحة، أو أن يكون
للوجوب،
والأرجح أنها للوجوب.
والأمر
بسُكْنَى الجنة يُرَاد به الامتنان والتكريم، وذلك بعلاقة السببية؛ إذ يتسَبَّبُ
عن أمر آدم عليه السلام وزوجه بهذا الفعل الذي هو غاية في الإحسان عَقِيبَ إهانة
الشيطان اللعين كلُّ معاني التكريم والامتنان.
وفي اختيار الفعل من مادة السُّكْنَى إيحاء بخروج آدم
عليه السلام من الجنَّة حتى يُبَاشِر أعماله كخليفة في الأرض، وذلك لأن السُّكْنَى
لا تُفِيد الْمِلْكِيَّة بل هي موقوتة، ومِثَالُهَا -ولله المثل الأعلى- قولك:
(أَسْكَنْتُكَ دَارِي) فإنها لا تُصْبِحُ مِلْكًا لك، فلم يُؤْمَر
هو وزوجه بسُكْنَى الجنةِ على وجه الخلود بل كان على وَجْهِ التكرمةِ والتشريفِ، للتدريب على ما سيكون عليه أمره بعد التوجُّه إلى
الدنيا والحياة فيها، ثم تكون العودة إلى المقام الأول وهو الجنة لمن أطاع فنال
هذا الفوز العظيم.
وتأكيد ضمير (اسْكُنْ) المستتر بـ (أَنْتَ) لئلا يلزم العطف على الضمير الْمتَّصل بلا فَصْل، وهو
ممتنع في فصيح الكلام، وفي المجيء به هكذا زيادة تقرير لمعنى الْمُضْمَر.
وتخصيصُ أصل الخطابِ به عليه السلام في قوله: (اسْكُنْ) ولم يقل: (اسكنا) للإيذان بأصالته في مُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ
به، وفيه إشارة إلى أنه هو المقصود بالحُكْمِ وأن المعطوف عليه تَبَعٌ له.
وفي النَّصِّ على الزوجيَّة إشعار بالْمُلازَمَةِ
والْمَعِيَّة؛ إذ إنها الطَّرَفُ الثاني في شركة الخلافة على ظهر الأرض، وبدونها
لا تنعقد، ويُؤَيِّد هذا وقوع الاسم الظاهر وهو في حكم الغائب في حوزة فعل الخطاب
أعني (اسْكُنْ) على سبيل التغليب، حيث غلَّب الْمُذَكَّر على المؤنث،
والْمُخَاطب على الغائب لهذا الغرض.
ولم يذكر القرآن الكريم اسم زوجه عليه السلام صراحة؛
لأنه لا يتعلق بِذِكْرِه غرض، وتلك سُنَّة في نظم القرآن، فأسماء النساء -بل
والرجال- إنما تُذْكَرُ لأداء غرض مُعَيَّن يتعلَّقُ بالسياق، كما حدث في قصة
السيدة مريم فذِكْرُ اسمها لا يرجع إلى مجرد كونه اسمًا لأُنْثَى، وإنما لكونها
أُنْثَى على صفة خاصَّة تستقلُّ بها دون النِّسَاء جميعًا، فقد كانت واحدة من بين
النساء حدث بشأنها ما حدث.
والجنَّةُ: اسم يجمع ما تطمع إليه طبيعة الإنسان من
الملذَّات، وهذا ما يتلاءم ومقام التكرُّم والامتنان، ولام التعريف في قوله: (الْجَنَّةَ) للعهد، وهي دار الثواب للمؤمنين في الآخرة؛ وكانت اللام هنا للعهد؛ لأنها
هي الْمُتَبادرة إلى الذِّهن عند الإطلاق، ولسبق ذِكْرِهَا في هذه السورة. وقيل:
إنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانًا لآدم عليه السلام وكانت بستانًا في
الأرض، وهناك أقوال كثيرة في تحديدها، قال الألوسي: «الأحوط والأَسْلَمُ الكَفُّ عن تعيينها والقطع به» [روح المعاني (1/233)].
وقُدِّم قوله: (وَزَوْجُكَ) على قوله: (الْجَنَّةَ)، فأصل ترتيب الكلام: (اسكن الجنة أنت وزوجك)، والتقديم هنا للعناية والاهتمام بالْمُقَدَّم،
والجنة مَسْكَنُ البدن، ومن الحكمة تقديم الأول على الثاني، وفي المثل: الرفيق قبل
الطريق.
ولقد أورد النحاة أن تقديم المفعول يغني عن التوكيد
بالضمير المنفصل (أنت)، لكن العبرة في تقديم قوله: (وَزَوْجُكَ) على المفعول وهو قوله: (الْجَنَّةَ)، ليكون الذكر مع الأنثى في هذا المقام، فلا يتم السكن
فيه إلا بهما، وهذا ما يكون -دائمًا- عند بناء الأسر أخذًا من الأسرة الأولى.
***