من بلاغة القرآن الكريم في ذكر خَلْقُ زوج سيدنا آدم
وردت آيات كثيرة في
القرآن الكريم تدلُّ في مجموعها على كيفية خَلْقِ سيدنا آدم عليه السلام وتُبَيِّن
الْمَراحل والأطوار التي مرَّ بها هذا الخَلْق، وأنَّ مرجعها كُلَّها إلى أصل
وَاحِد وهو التُّراب الذي تحوَّل مع الماء إلى الطين ثم انتقل إلى مراحل أخرى، حتى
تمَّ خَلْقُهُ عليه السلام.
وأما الحديث عن كيفيَّة
خَلْق زوجه عليه السلام فقد ورد في ثلاث آياتٍ فقط، وكانت هذه الآيات في معرض الاستدلال بخَلْق الإنسان على وحدانية الله عز وجل وليس فيها أي
تفصيل لخلقها إلا أنها خُلِقَت من آدم عليه السلام وهذه الآيات هي:
1) قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ
بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
والنداء في الآية عام لجميع الناس، والغرض
البلاغي منه التنبيه والإيقاظ من الغفلة واللَّهو على حقيقة الوقوف على قُدْرَةِ
الخالق، ومن ثَمَّ الحذر من مخالفته وعقوق أمره، ولفت النظر وشدة الانتباه
لأهمية الأمر الْمُنَادى من أجله.
وفعل الأمر في الآية على حقيقته وقد حقَّق شرط
الوجوب حيث إنه على جهة الاستعلاء والإلزام، فهو أمر من المولى عز وجل إلى عباده، والمأمور به وهو التقوى يدل
على تعظيم وتفخيم التقوى وأهميتها والعناية بها.
وقوله: (نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) كناية عن موصوف، والمقصود بها سيدنا
آدم عليه السلام، والكناية هنا جاءت من إطلاق اللفظ وإرادة لازمه، وسبب التعبير
بالكناية هنا التنبيه على عِظَم قُدْرَة الله عز وجل. وعبَّر عنه بالنَّكِرة التي
تدل على واحد من الجنس ثم وصفها بأنها واحدة تأكيدًا على انفرادها بأصل البشر.
والتأنيث في لفظ (واحدة) يعود على تأنيث لفظ النَّفْسِ.
وقوله: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) كناية عن موصوف، والمراد بها السيدة
حوَّاء، والتعبير عنها بالكناية دون الاسم الصريح فيه تكريم لها، وقدَّم الجار
والمجرور للاعتناء ببيان مَبْدَئِيَّتِه عليه السلام لحوَّاء، وفيه أيضًا تَشْوِيق
لِذِكْر الْمُؤَخَّر، وأصل بناء الجملة: (وخلق زوجها منها). وأَخَّر ذِكْر خَلْق
حواء عن ذِكْرِ خلقهم؛ لأنَّ تذكيرهم بخلقهم أدخل في تحقيق المقصود -وهو حَمْلِهم
على الامتثال بالأمر بالتقوى- من تذكيرهم بخَلْقها.
وأطلق اسم الزَّوْج على المرأة بدون تاء
التأنيث؛ لأن لفظ الزوج مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، فالرجل يكون مُنْفَرِدًا
فإذا اتخذ امرأة فقد صارا زوجًا في بيت، فكل واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار، والأشهر
عند العرب استعمال كلمة (زوج) للمذكر والمؤنث وبها ورد القرآن الكريم. ويجوز
استخدام (زوجة) بالتاء للمؤنث كما نصَّت المعاجم، للتفرقة بين المذكر والمؤنث،
خاصة في أمور الشريعة وأحكام المواريث. وآثر التعبير عن السيدة حواء في الآية بلفظ
زوج إيماء إلى اقترانهما واشتراكهما في الحقوق والواجبات.
وجاء التعبير عن انتشار الذرية وكثرتها بقوله
تعالى: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) حيث جسد النظم القرآني عن طريق الاستعارة
بالكناية حقيقة انتشار البشر وتزاحمهم في كل أرجاء المعمورة،
والغرض البلاغي من تنكير (رجالا ونساء) هنا هو
الدلالة على الكثْرَة، وإيثارهما على قوله: (ذكورًا وإناثًا) لتأكيد الكثرة
والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لِمَبْدَئِيَّة غيره.
ولفظ (كثير) في الآية نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ مُؤَكِّدٍ
للفعل، أي بثًّا كثيرًا، ولم يصف النساء بـ (كثير) كما وصف الرجال؛ اكتفاء بدلالة
وصف الرِّجَال بما يقتضيه فِعْلُ البَثِّ من الكَثْرَةِ.
***
2) وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا
تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ
دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) [الأعراف: 189].
هذه الآية مُوجَّهة من الله تعالى إلى المشركين؛
لإقامة الحُجَّة عليهم بفَسَاد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم، والغرض منها هو
بيان نعمة التكاثر إبقاء على الجنس، والتي هيأ لها بما أودعه في نفس الإنسان من
ميلٍ فِطْرِيٍ بين النوعين؛ ليكون التناسل إرادة إلهية قادرة يندفع إليها الإنسان
بحكم غريزته وسكن الرجل إلى زوجته، وذلك في معرض نشأة الخلق.
وبدأت الآية بتعريف الطرفين المسند والمسند
إليه، ودلَّ هذا التعريف على القصر والاختصاص في رُكْني الإسناد وفي متعلقهما، أي
هو خالقكم لا غيره، وهو قَصْرٌ حقيقي؛ لأنه كذلك في الواقع وفي الاعتقاد لأن
المشركين مقرون بأنه خالقهم وخالق كل شيء.
وقد اختلف المفسرون في المراد بالنفس الواحدة
في هذه الآية، واختلفوا كذلك في المراد بزوجها، والسبب في هذا أن الآيات التي وردت
بعد هذه الآية تدل على أنهما أشركا، وذلك في قوله تعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ
شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف: 190]، ومُحَال أن
يقع الشرك من سيدنا آدم عليه السلام وزوجته. لذلك قال بعض المفسرين الآيات لا يقصد
بها سيدنا آدم عليه السلام وزوجه حواء، أما أكثر المفسرين فقد ذكروا أن المراد
بالنَّفْسِ الواحدة -في هذه الآية- هو سيدنا آدم عليه السلام وزوجه حواء، ثم ذكروا
أن المقصود بالشِّرك في الآيات الواردة بعد ذلك ذريَّتُهُمَا، فقالوا في توجيه هذه
الآيات بأن الكلام الذي يقصد به آدم عليه السلام وزوجه انقطع عند قوله: (لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ)، وتتمة الكلام قُصِدَ به المشركون من ذُرِّيَّتِهِمَا، ففيه التفات
من الحديث عنهما إلى الحديث عن المشركين من ذريتهما، وذِكْرهما في
بداية الآيات كان كالتوطئة لذكر ما بعدهما من الوَالِدِين من ذريتهما، فهو
كالاستطراد من ذِكْر الشَّخْصِ إلى ذِكْرِ الجنس، ولهذا قال الله: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بالجمع، ولم يقل: (عما يشركان) بالتثنية. وقيل: إن الكلام على حذف مضاف وإقامة
المضاف إليه مقامه، والتقدير: (فَلَمَّا
آتَاهُمَا) ولدًا (صَالِحًا) جعل أولادُهما شركاء فيما آتى أولاد
آدم وحواء، وآدم وحواء بريئان من الشِّرك. ومعنى
إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العُزَّى وعبد مناة وعبد شمس وما
أشبه ذلك، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم.
وعبَّر هنا في هذه
الآية بالفعل (جَعَلَ)، لأن المقصود جَعْل الأُنْثَى زَوْجًا للذَّكَر، لا الإخبار
عن كون الله خلقها.
واللام في قوله: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) تعليل ذلك
الجعل، حيث جعل السَّكنَ عِلَّةً وغاية
لخلق أزواجنا من أنفسنا، والمراد السكون القلبي، وهو كناية عن الاطمئنان
والاستراحة.
وفرَّع عن بعض ما يحدث
من سُكُون الزوج إلى زوجه بفاء التعقيب، فقال: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) ثم أعقبه بحرف شرطـ (لَمَّا) التي تدل
على وجود شيء لوجود غيره. والتغشِّي: كِنَايةٌ عن الجماع، وهي كناية عن صفة، وصيغت
هذه الكناية بالفعل الدال على التكلُّف؛ لإفادة قُوَّة التمكُّن من ذلك؛ لأن التكلُّف
يقتضي الرغبة.
وقد سلك في هذه الآية في وصف تكوين النسل مَسْلك
الإطناب لما فيه من التذكير بتلك الأطوار، الدالة على دقيق حكمة الله وقدرته،
وبلطفه بالإنسان.
***
وقوله تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ
جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ
أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ
فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [الزمر: 6].
المقام في هذه هو الاستدلال على وحدانية الله
تعالى في الألوهية وإبطال الشريك بدلائل تفرُّده بإيجاد السماوات والأرض والليل
والنهار، ثم ذكر خلق سيدنا آدم عليه السلام وجعله دليلا على عظيم قُدْرَتِه تعالى،
ثم ذكر خلق زوجه من نفسه وجعله دليلا آخر مُسْتَقِلّ الدلالة على عظيم قُدْرَته،
ثم ذكر من دلائل قدرته أيضًا خلق الأنعام، ومراحل خلق الجنين في بطن أمه، وغير ذلك
من الأمور التي لا يُنْكِر المشركون انفراده بها سبحانه وتعالى.
وأوثر التعبير بالفعل (جَعَلَ) في الآية على (خلق) للإيذان بالفرق بين الخلقين، فخَلْقُ آدم عليه
السلام كان من تراب، وخَلْقُ حواء كان من آدم نفسه، والخَلْقُ إيجاد من العدم أما
الجعل فتشكيل وتصنيع لمادة موجودة مع قرب الشبه بين المصنوع والمصنوع منه.
والإنزال إما أن يكون الإنزال مجازًا مُرْسلًا،
علاقته تسمية السَّبب باسم الْمُسَبِّب، ويجوز أن يكون المراد بالإنزال هنا
القَضَاء والقِسْمة، وهو أيضًا مجاز مرسل علاقته تسمية السبب باسم الْمُسَبِّب. وإما
أن يكون الإنزال في الآية استعارة للتهيؤ والانتفاع بها وتسخيرها، وهي استعارة
تصريحية تبعية.
وقوله: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) استئناف مسوق لبيان كيفية الخلق
الثاني -التوليد- بعد الخلق الأول التناسل عن آدم. وعبَّر بصيغة المضارع لإفادة
تجدُّد الخلق وتكرُّره مع استحضار صورة هذا التطور العجيب.
وقوله: (خَلْقًا
مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) كناية عن مراحل تكوين الأجنة في الأرحام وتطورها ورقيها من حالة أدنى إلى
حالة أعلى، امتنانًا على العباد، وترسيخًا لرسوخ الإيمان بالخالق العظيم في القلوب.
والظُّلُمات الثلاث هي: ظُلْمة البطن والرَّحم
والمشيمة، وقيل: ظلمة الصُّلْب والبطن والرحم، وفي ذكر هذه الظلمات تنبيه على
إحاطة علم الله تعالى بالأشياء ونفوذ قدرته إليها في أشد ما تكون فيه من الخفاء.
وقُدِّم ذكر (الظلمات) على قوله: (ثلاث) لأهمية
ذكر الظلمات هنا، فتقديمها للعناية والاهتمام، والتنبيه على إحاطة علم الله تعالى
بالأشياء ونفوذ قدرته فيها في أشد ما تكون فيه من الخفاء، فإذا وقف الإنسان متأمِّلا،
متدبِّرًا نشأته في الرَّحِم، وأطواره في هذه الظُّلُمات الثلاث، وكيف تحوطه عناية
الله ـ ليكمل في بطن أمه تسعة أشهر، ثم يأتي مولودًا إلى هذا الوجود، فإنه لا يسعه
إلا أن يخر ساجدًا لعظمة الله ـ ولقدرته العظيمة التي رعته وأنشأته مخلوقًا سويًّا
في ظلمات ثلاث.
وتقديم الجار المجرور في قوله: (لَهُ الْمُلْكُ) يفيد قصر صفة مِلْكِيَّةِ الكَوْنِ على موصوف وهو الله عز وجل، أي له
هو لا لغيره؛ وذلك لإبطال ادِّعاء المشركين بأن لله شركاء وله ولد.
وقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) فيه قصر الألوهية على الله عز وجل.
والاستفهام
في قوله: (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) استفهام إنكاري، المقصود منه إنكار الوقوع.
والصرف: الإبعادُ عن شيء، والمصروف عنه هنا
محذوف، تقديرُه: (عن توحيده)، وجعلهم مصروفين عن التوحيد ولم يذكر لهم صارفًا،
فجاء في ذلك بالفعل المبني للمجهول ولم يقل لهم: (فأَنَّى تنصرفون)، نعيًا عليهم
بأنهم كالمقودين إلى الكُفْرِ غير الْمُسْتقلين بأمورهم يصرفهم الصارفون.
***
وبعد، فهذه الآيات الثلاث من هذه السور تُوضِّح
لنا شيئًا واحدًا وهو: خَلْقُ السيدة حواء من زوجها آدم عليه السلام، ولكنها جاءت
بسياقات مختلفة وبألفاظ مختلفة مع التشابه الظاهر بينهما.
ونلاحظ أن هناك تشابهًا كبيرًا في نَظْمِ هذه
الآيات الثلاث، فقد اتَّحد فيها قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) فاتفق نَظْمُ هذه الآيات على أنَّ
البشر جميعًا مخلوقُون من نَفْسٍ واحدة خُلِقَ منها زوجها، لذلك يجب ألَّا تكون لهم
أهواء متنازعة، لأنهم مردودون إلى نفس واحدة.
وانفردت آية سورة النساء بالتعبير بالفعل (خلق)
وأوثر التعبير فيها بهذا الفعل؛ للدلالة على أن الأنثى خلق قائم بذاته لا يقل عن
خلق الذكر؛ وللإشارة إلى أنهما متساويان في صورة الخلق والتكليف.
أما آيتي سورة الأعراف وسورة الزمر فالتعبير
فيها كان بالفعل (جعل) الذي يدل على أن خلق الأنثى مكمل لخلق الذكر فهي من نفسه
ليسكن ويستريح إليها ويتغشَّاها وتحمل بذرته، واستخدام كل فعل منهما كان ملائما
لموضعه.
***