ورد الحديث عن أثر وسوسة الشيطان لسيدنا آدم عليه السلام
وزوجه في آيات من سور البقرة والأعراف وطه، قال في البقرة: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا
مِمَّا كَانَا فِيهِ) [البقرة: 36]. وقال في الأعراف: (فَدَلَّاهُمَا
بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ
أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ
لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف: 22]. وقال في طه: (فَأَكَلَا
مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه: 121].
وبعد التأمل نلحظ اهتمام النظم بغرس روح التحذير، إلا
أنها تمتد في سورة الأعراف وسورة طه عنها في سورة البقرة، وذلك تبعا للمقام، فسورة
البقرة لَمَّا كانت بصدد التذكير بنِعْمَة الله اكتفى بهذا الجزء كحكاية جامعة لما
حدث وإن كانت غاية في الإيحاء، وأما الأعراف فلأنها تهدف إلى تعرية الشيطان اللعين
والتحذير منه فإن الحدث يأخذ امتدادًا يتناسب وهذا المقام، وكذلك الأمر في طه إلا
أن الملحوظ في خاتمة الحكاية إنما هو لآدم عليه السلام تمشيًا وجوِّ السورة العام
حيث رعاية الأنبياء وحفظهم.
وأبدأ في تفصيل الأسرار المبثوثة في تضاعيف نظم الحكاية
فأقول: إنها في سورة البقرة تأخذ طابع الإيجاز، مُرَاعَاةً لغرضها الأهمِّ، ولذا
فإنها لم تتعرَّض لحكاية وسيلة الشيطان اللعين في الإغواء، مُكْتَفِيَةً بنتيجتها
على هذا الوجه القويِّ سواء في اختيار الألفاظ، أو ما اكتنف تلك الألفاظ من خصائص
نظميَّة تُبْرِزُ جانب العداء المطلق من اللعين بغرض تحذير بني آدم منه، وتلك من
أسمى النعم، كما أنها من أهم أغراض القصة، ولا سيما في سورتها المدنية حيث التشريع
والتقنين.
والفاء في قوله: (فَأَزَلَّهُمَا) للتعقيب، فهي تصور إسراع مُلاحظة الشيطان لآدم وزوجه إ، كما أن في المجيء بالفعل من مادة الزَّلَلِ إيحاءٌ بخطورة مُخَالفة
أوامره جل وعلا إذ أن نهايتها دائما الزَّلَلُ والخُسْرَان. والزَّلَّةُ في الأصل:
استرسال الرِّجل من غير قصد، يقال: زَلَّتْ رِجْل تَزِلُّ، والْمَزِلَّةُ: المكان
الزّلق، وقيل للذّنب من غير قصد: زَلَّةٌ، تشبيها بزلَّة الرِّجل.
والتعبير في الآية ليس على حقيقته؛ لأن الإزلال -كما هو
ثابت- إنما ينشأ عن وحل وغيره، ولهذا كان قمة في تصوير حال الشيطان اللعين مع آدم
عليه السلام وزوجه وكأنك تلمح الشيطان وهو يخرجهما من الجنة ويدفع بأقدامهما
فتزلَّ وتهوى.
كما أن في ذكر اللعين باسم الشيطان دون غيره من الأسماء
إشارة إلى قُبْحِ ما صدر منه؛ لأن هذا اللفظ في لغة القوم إنما يُسْتَخْدَم في
مقامات النفور والاشمئزاز، ولذا ورد عنهم: كأنه وجه شيطان، وكأنه رأس شيطان، وبهذا
تتحد مادة الفعل ونوعية الفاعل للنهوض بتصوير الحدث.
والضمير في (عَنْهَا) إما أن يعود إلى الجنة، وعليه تكون (عن) على بابها،
والمعنى: أبعدهما من الجنة. وإما أن يعود إلى الشجرة مُرَاعَاةً لقُرْبِ المرجع
وبيانًا لسبب الزلة والخروج، وعليه فالجار والمجرور ضُمِّنَ معنى الإصدار، ومثله
قوله تعالى: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف: 82]، وقول العرب: يصدر عن رأيه، أي أن رأيه سبب لِمَا يصدر منه، فالمعنى:
فأصدر الشيطان زلتهما عنها، أي بسببها، كما يمكن أن يكون في التعبير تجوُّزًا
بتنزيل السبب منزلة الفاعل على حد قولهم: (قَطَعَ السِّكِّينُ)، فيكون مجازًا
عقليًّا، والأَوْلَى عودته إلى الجنة، وذلك لإشعار المقام بعِلَّةِ الخروج وأنها
الأكل من الشجرة.
ثم يأتي قوله: (فَأَخْرَجَهُمَا
مِمَّا كَانَا فِيهِ) تفريعًا بقصد تفصيل وجه الإزلال السابق، ونلمح فيه امتدادًا للنَّغَمَة
القوِيَّة في قوله: (فَأَزَلَّهُمَا) حيث يُفِيد الترقّي في جانب الأثر الْمُشِين لاتباع
اللعين، وهو ألزم لمعنى التحذير من مخالفة أوامره –جلَّ وعلا– فصورة الحسرة تظلل
الأسلوب، فهو إذن بمثابة التوكيد لما قبله، لاحتمال أن يكون قد أزلهما إلى غيرها،
ولهذا جاء معطوفًا بفاء السببية.
كما نلمح فيه دلالات هامة تكمن في طبيعة الموصول وصلته،
حيث أفاد التفخيم والتعظيم، وفي هذا إشارة للحسرة لأنهما خرجا من النعيم الذي لا
يُدَانيه نعيم، فضلا عن أن دلالة الصلة لا بد أن تكون أمرًا متقررا، وهذا ما أبان
عنه فعل الكينونة، لأن المكنون داخل الشيء مالك له، وفي هذا مزيد حسرة أيضًا.
وإنما أسند الإخراج إلى الشيطان اللعين مع أن الْمُخْرِج
حقيقة هو الله تصويرًا لقُوَّةِ وسوسته وعظيم أمره في تغيير الأحوال وانقلاب
المعايير.
وأما في سورة الأعراف فذكر فيها تفصيل لهذا الأثر بما
يتناسب ومقامها، والتفصيل فيها يشمل أثر الأكل من الشجرة ثم عتاب المولى ـ لهما، وإن كان النظم قد نص على أثر الأكل من الشجرة في هذه الحكاية مرتين:
الأُولَى مُجْمَلة حكاها قوله: (فَدَلَّاهُمَا
بِغُرُورٍ). والثانية:
مُفَصَّلة وقد احتواها قوله: (فَلَمَّا
ذَاقَا الشَّجَرَةَ) وكأن حكاية الوسوسة لما وقعت في سورة الأعراف مرتين إجمالا وتفصيلا – كما
رأينا – كان الأثر مزدوجًا كذلك، وتلك من وجوه الإعجاز في اتِّساق النَّظم
القرآني. والغرض من وقوعها على هذا الوجه من الإجمال ثم التفصيل تصوير بشاعة أثر
اتباع الشيطان اللعين والانسياق وراء وساوسه وهو هدف أصيل للقصة في سورة الأعراف.
ومن هنا فقد جاء النظم في غاية الإيحاء والتصوير،
فالتدلية وهي في الأصل إرسال شيء من أعلى إلى أسفل، ومنه (دَلَّى الدَّلْوَ في
البئر) إذا أرسله فيها، تصوير حال الشيطان اللعين حين أهبط من درجة آدم وحوَّاء
بوسوسته التي اعتمدت التغرير عاملا أساسيًّا فيها، فقد أقسم لهما وعندها صدَّقَاه.
وبذلك تكون الفاء تفريعية حاملة معنى الفورية، وهو من
ملائمات جو تعرية الشيطان اللعين، كما تكون الباء للمصاحبة، وإن كان يمكن حمل
الباء على السببية، بمعنى: أن تدليهما من درجة إلى أُخْرَى إنما كان بسبب تغريره
بهما عليه اللعنة.
هذا وقد فسر بعضهم التدلية بالإطماع، وأصله من تدلية
الشيطان شيئا في البئر فلا يجد فيه ما يشفي غليله، وعلى هذا الاعتبار يكون في
الكلام تمثيل لحال من يطلب شيئًا من مظنته فلا يجده بحال من يُدْلِي دلوه أو رجليه
في البئر ليستقي من مائها فلا يجد فيها ماء، فكذلك الحال حين لم يجد آدم وزوجه سوى
الشقاء والعنت، والتخريجان كما يبدو متكاملان.
والغرور: اعتقاد الشيء نافعًا بحسب ظاهر حاله ولا نفع
عند تجربته، وقد سبق بيان أن أفعال اللعين كلها إنما تعتمد على هذا الجانب بل قل
إنها تقوم عليه.
ودل قوله: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) على أنهما فَعَلا ما وسوس لهما الشيطان، فأكلا من
الشجرة، فقوله: (فَلَمَّا
ذَاقَا الشَّجَرَةَ) ترتيب على دلاهما بغرور، فحُذِفت الجملة واسْتُغْنِي
عنها بإيراد الاسم الظاهر في جملة شرط (لَمَّا)، والتقدير: فأكلا منها –كما ورد
ذلك مُصَرَّحًا به في سورة طه في قوله: (فَأَكَلَا مِنْهَا) [طه: 121] -فلمَّا ذاقاها بدت لهما سوآتهما.
والذَّوْقُ: إدراك طعم المأكول أو المشروب باللِّسان وهو
يحصل عند ابتداء الأكل أو الشُّرب، وفي تعلُّقه بالشجرة مجاز مرسل بعلاقة
الكليَّة، فهما لم يذُوقَا الشجرة وإنما ذاقا ثمرها.
ودلت هذه الآية على أن بدو سوءاتهما حصل عند أول إدراك طعم
الشجرة، دلالة على سُرْعة ترتيب الأمر المحذور عند أول المخالفة. وهو من ملائمات
تعرية اللعين وفضحه، غرسًا للتحذير.
وقد أفادت (لَمَّا) توقيت بدو سوءاتهما بوقت ذوقهما
الشجرة؛ لأن (لَمَّا) حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره، فحصول ظهور السوءات
حَدَث عند ذَوْقِ الشجرة، أي أن الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت لكون الأمرين
مُسَبَّبَيْن عن سبب واحد، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشيطان فيهما، فسبب الإقدام
على المخالفة للتعاليم الصالحة.
هذا، والعطف بين جملتي (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) و(وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ) من باب التوسط بين الكمالين لاتفاقهما في الخبرية. ومعنى
(يخصفان) يُرقِّعَانِ ويلزقان على عوراتهما الورق، بعضه فوق بعض، لأن حقيقة
الخَصْفِ تقوية الطبقة من النَّعْلِ بطبقة أخرى (بالسيور ونحوها) لتشتدَّ. وفي
التعبير بالمضارع استحضار لتلك الصورة وتكرارها منهما.
وواضح أن (من) بيانيَّة لمفعول مطلق أو لمصدر محذوف
يقتضيه الفعل (يخصفان)، والتقدير: يخصفان خصفًا من ورق الجنة.
ثم يأتي عتاب المولى ـ لهما معطوفًا على جواب (لَمَّا)
فقد حصل عند ذَوْقِ الشجرة، والعطف من باب التوسط بين الكمالين. فقال تعالى: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ
تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ
مُبِينٌ) [الأعراف: 22].
والنداء هنا يُمْكِن أن يكون مجازًا لقُرْبِ
الْمُخَاطبين، ويمكن أن يكون حقيقة (بصوت مرتفع) فالمقام للغضب والتوبيخ. وأصل
النداء يكون برفع الصوت للمنادى البعيد، ولا بعيد على الله، وإيثار النِّدَاءِ على
القَوْلِ فيه إشارة لطيفة إلى بُعْدِهما بسبب المعصية التي وقعت منهما. وفُصِلَت
جملة: (أَلَمْ
أَنْهَكُمَا)؛ لأنها بمنزلة عطف البيان لسابقتها.
والاستفهام في قوله: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا) للتقرير - والمراد منه إثبات ما كان منفيًّا بأداة النفي -والتوبيخ،
وإيلاء الاستفهام حرف النفي زيادة في التقرير؛ لأن نهي الله إيَّاهُمَا واقع
فانتفاؤه منتف، فإذا أدخلت أداة التقرير وأقرَّ الْمُقَرَّر بضد النفي كان إقرارُه
أقوى في الْمُؤَاخذة بموجبه، لأنه قد هيّئ له سبيل الإنكار، لو كان يستطيع إنكارًا،
ولذلك اعترفا بأنهما ظلما أنفسهما.
وقد عطفت جملة (وَأَقُلْ لَكُمَا) على ما قبلها للتوسط بين الكمالين، وغرضها المبالغة في
التوبيخ؛ لأن النهي كان مشفوعًا بالتحذير من الشيطان الذي هو المغري لهما بالأكل
من الشجرة، فهما قد أضاعا وصيتين، وهما: النهيُ عن الأكل من الشجرة، والنهي عن
اتباع وساوس الشيطان.
والْمُبِينُ أصله المظهر، أي للعداوة بحيث لا تخفى على
من يتتبع آثار وسوسته وتغريره، ويجوز أن يكون المبين مستعملا مجازًا في القويِّ
الشديد؛ لأن شأن الوصف الشديد أن يظهر للعيان.
وتأتي حكاية أثر الوسوسة في سورة طه في قوله: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوَى) [طه: 121].
ونلحظ أولا تعلق هذا الأثر بالأكل بينما توقف في سورة
الأعراف على التذوق، ولعل ذلك يرجع إلى مناسبة نظم التحذير في كل منهما، فالأعراف
لما كان التحذير فيها مُنَصبًّا على مجرد القُرْبِ كان الأثر متعلقًا بمجرد
التذُّوق، وأما في سورة طه فلما كان التعليق المحيط بالتحذير فيها عامًّا -في
قوله: (إِنَّ
لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى... إلخ)، والجوع قَرِينُ عدم الأكل- تعلَّق الأثر فيها بالأكل
فقال: (فَأَكَلَا
مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا... إلخ).
كما نلحظ اهتمام النظم بآدم عليه السلام وذلك من خلال
النص صراحة على عصيانه في قوله: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) وهو مما انفردت به سورة طه من بين السور التي وردت فيها
هذه الآيات، ولعل ذلك يرجع إلى ما أشرت إليه سابقا من أن النظم في سورة طه إنما
يلحظ سيدنا آدم عليه السلام كنموذج نرى من خلاله مدى رحمة المولى سبحانه بأنبيائه
ورسله.
***