من بلاغة القرآن الكريم في حديثه عن المرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا
من بلاغة القرآن الكريم في حديثه عن المرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا:قال الله عز وجل: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [النحل: 92].
ذكر العلماء أن المقصود امرأة من أهل مكة خرقاء مُتَناهية الحُمق وبها وسوسة، واسمها: ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تيم بن مُرَّة، ولقبها الجعراء.
كانت هذه
المرأة قد اتخذت مِغْزَلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدر ذلك،
فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظُّهر ثم تنقض بنفسها ما غزلته، أو تأمر
جواريها بنقض ما تمَّ غزله، وهكذا كانت تفعل كل يوم، وكانت مشهورة ومعروفة عند أهل
مكة بذلك، فكانوا يتندَّرون بذِكْر حُمْقها.
وذهب بعض
العلماء إلى أن هذه الآية من باب المثل الذي يُرَاد به الوصف دون التعيين، فهي
امرأة ليست معينة، وهذا الرأي مروي عن قتادة، وهو من التابعين.
والسياق الذي
وردت فيه هذه الآية يخاطب الله عز وجل فيه المسلمين يُحثُّهم على الوفاء بالعهد
وينهاهم عن نقضها.
والغرض من هذا
التمثيل تذكير قريش قومها بها، لئلا يكونوا مثلها في الحُمْق، فحالها كان إفساد ما
كان نافعًا مُحْكَمًا من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح، فنُهوا عن أن يكون حالهم
كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية.
ولَمَّا كانت هذه المرأة معروفة عند الْمُخَاطبين -وهم أهل مكة- وكانوا يعرفونها بوصفها، فلم يكن لها نظير في فعلها ذلك عبر عنها القرآن الكريم بطريق الموصولية؛ لاشتهارها بمضمون الصلة، فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا).
شبَّه اللهُ عز وجل في هذه الآية حال
الناقض للعهد الذي وثَّقه بالحلف والأَيْمَان بحال هذه المرأة الحمقاء التي نقضت
غزلها بعد تقوية فتله وإحكام غزله. ووجه الشبه
النقض من بعد الإبرام، أو نقض الشيء النافع وإفساد الصالح بعد تقويته وإحكامه، وأداة
التشبيه هي الكاف، أي: لا تكونوا من جنس مَنْ ينقض ما أبرمه وعاهده بجودة الصنع.
وبلاغة هذا التشبيه تصوير المعقول -وهو
نقض العهود بعد توكيدها بالأَيْمَان- بالصورة الحيَّة المحسوسة التي يعرفونها، فهم
يعرفون قِصَّة هذه المرأة، ويضربون بها المثل في الحُمْق وذهاب العقل. إنها صورة
محسوسة منفِّرة تُعْلِي من الوفاء بالعهد، وتُنفِّر أشد التنفير من نقضه، وجاء
التنفير بعد النهي ليكون أدعى إلى الاستجابة، وهذا الأمر المعقول حينما يصور بشيء
محسوس يقترب من الأذهان ويصبح ماثلا أمام العيون، وبالتالي يعلم الإنسان أنه إن
نكث العهد ليس بالعمل السهل الذي يظنه أو يهيأ له، وإنما هو عمل يحمل بين طياته من
المتاعب الجسدية والنفسية ما يحمل، فما قيمة عمل لا يتم إلا ليهدم؟ وما مبلغ الجهد
في بنائه ثم هدمه، إنه جهد مبعثر لا طائل من تحته ولا جدوى منه وليست له منفعة،
ويا ليت الأمر كان قاصرًا على عدمه، وإنما هي المتاعب المضاعفة، فهذا الجهد الذي
تقوم به هذه المرأة الحمقاء الخرقاء إن هو إلا جهد ضائع، وعمل لا ثمر له.
والنقض: إفساد
ما أُبْرِم من بناء أو حبل، ويستخدم في العهد، عن طريق الاستعارة، فقد شُبِّه إبطال العهد بإبطال تأليف ما
أبرم، ثم أُطْلِق اسم المشبه به على المشبه، فهو استعارة تحقيقية تصريحية.
وإسناد النقض إلى هذه المرأة قد يكون
على حقيقته إن كانت هي التي تقوم بهذا النقض بنفسها، وقد يكون مجازًا مرسلا إن
كانت هي الآمرة لجواريها بنقض ما غزلن.
والغَزْلُ:
مصدر بمعنى المفعول، أي: المغزول؛ لأنه الذي يقبل النقض، وهو: فتل نتف من الصوف أو
الشعر لتجعل خيوطًا مُحْكمة اتصال الأجزاء بواسطة إدارة آلة الغزل بحيث تلتف النتف
المفتولة باليد فتصير خيطًا غليظًا طويلا بقدر الحاجة ليكون سُدًى أو لُحْمَةً للنَّسْجِ.
والقُوَّة:
إحكام الغزل وإتقانه، أي: نقضته مع كونه محكم الفتل ولا موجب لنقضه، فإنه لو كان
فتله غير محكم لكان هناك عُذْرٌ لِنَقْضِه.
والأنكاث -بفتح
الهمزة-: جمع نِكْثٍ -بكسر النون وسكون الكاف- أي: منكوث، أي: منقوض. والمراد
بصيغة الجمع أن ما كان غزلا واحدًا جعلته منقوضًا، أي: خيوطًا عديدة، فصيَّرته إلى
الحالة التي كان عليها قبل الغزل وهي كونه خيوطًا ذات عدد.
والدَّخَل في قوله
تعالى:
(دَخَلًا بَيْنَكُمْ) كناية عن
الفساد والعداوة المستبطنة.
والعلة التي من
أجلها نهى عن نقض الأيمان هي: (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) فلا يحملكم
على نقض الحلف أن يكون المشركون أكثر عددًا وأموالا من المسلمين فيبعثكم ذلك على
الانفصال عن جماعة المسلمين والرجوع إلى الكفار.
وقوله: (إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ
بِهِ) جملة مستأنفة
استئنافًا بيانيًّا؛ للتعليل بما يقتضي الحكمة، وهو أن ذلك يبتلي الله به صدق
الإيمان. وفيها
قصر موصوف على صفة، وأداته (إنما)، والتقدير: ما ذلك
الربو إلا اختبار لكم، وجيء بأسلوب القصر لتأكيد المعنى، أي: ما الأمر بالوفاء
بالعهود إلا لاختباركم.
والبلو:
الاختبار. وإسناده إلى الله عز وجل زيادة في التحذير من نقض العهود؛ لأن
الله هو مَنْ يبتليكم بهذه الأوامر، فاذكروا إن كنتم نسيتم، واعلموا إن كنتم لا
تعلمون.
وقد أُكِّد هذا
الوعد بمؤكدين، الأول: القَسَم الذي دلت عليه اللام، والثاني: نون التوكيد في قوله
تعالى: (وَلَيُبَيِّنَنَّ).
صوَّرت لنا هذه
الآية حالة مَنْ ينقض العهد بامرأة حمقاء ضعيفة الرأي والعزم تنسج غزلها، وتفتل
خيوطه، ثم تنقضه، وتتركه مرة أخرى منكوثا محلولا، وصورة المرأة هذه تمثِّل العبث،
وضعف الإرادة، فالإنسان القوي السوي، لا يرضى أن يكون حاله مثل هذه المرأة المصابة
في عقلها وإرادتها، وسلوكها، فيعيش حياة عابثة بدون هدف أو غاية، والغرض من ذكر
هذه الصورة التنفير من نقض العهود التي تُبرم سواء أكانت على مستوى الأفراد أم
الأمم والجماعات.
وقد جاء في
الآية النهي عن اتخاذ الأيمان وسيلة للخداع، وذلك عن طريق نقضها مع المعاهدين إذا
وجد من هو أقوى منهم من القبائل الأخرى. وإنما أمر الله سبحانه بالوفاء بالعهد
اختبارًا، وسوف يُجَازِي الله ـ كُلًّا بعمله يوم القيامة، إن كان
خيرًا فخير، وإن كان شرا فشر.
***