قال الله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا
فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ
فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء: 32].
وقد وردت هذه الآية في سياق يخاطب فيه الله عز وجل المؤمنين، بدأ بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:
29]، فنهاهم عن أكل أموال الناس بالباطل، ونهاهم عن قتل أنفسهم،
ثم نهاهم عن تمني ما فضَّل الله به غيرهم عليهم، فقوله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ
بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) معطوف على قوله تعالى: (لَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)،
وعلى قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ)، والمناسبة بين الجملتين المتعاطفتين: أن التمني
يحبب للمُتَمنِّي الشيءَ الذي تمنَّاه، فإذا أحبَّه أتبعه نفسه فرام تحصيله وافتتن
به، فربما بعثه ذلك الافتتان إلى تدبير الحيل لتحصيله إن لم يكن بيده، وإلى
الاستئثار به عن صاحب الحق فيغمض عينه عن مُلاحظة الواجب من إعطاء الحق صاحبه وعن
مناهي الشريعة التي تضمنتها الجمل المعطوف عليها.
وقد بدأت الآية بالنهي، وهو من الأساليب الإنشائية،
وتعريفه: طلب الكفُّ عن فعل شيء استعلاء. والمنهي عنه في الآية التمني، وهو: إرادة
ما يُعْلَم أو يُظنُّ أنه لا يكون، وهو عمل قلبي قد لا يستطيع المرء كبحه، فجاء النهي في الآية عن تطلع النفوس إلى ما ليس لها وتمنيه.
وقوله تعالى: (مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) أمر عام وجاء مُبهمًا ليشمل كل ما فضَّل الله به
بعض الناس على بعض.
والمقتضي للمنع من هذا التمني هو كونه ذريعة إلى
التحاسد والتعادي، وهو مُعْرِب عن عدم الرضا بما قسم الله له، وأنه تَشَهٍ لحصول الشيء
له من غير طلب وهو مذموم؛ لأن تمنِّي ما لم يُقَدَّر له مُعَارضة لحكمة القَدَر،
وتمنِّي ما قُدِّر له بكسب بطالة وتضييع حظ، وتمنِّي ما قُدِّر له بغير كسب ضائع
ومحال.
والعلة
في هذا النهي عن هذا التمني هي وجود الاعتراض على الله عز وجل في
فعله، وقد يزداد الاعتراض حين يعتقد الإنسان في نفسه أنه أحق بتلك النعمة من ذلك
الإنسان المنعم عليه بها.
وخرج النهي في الآية عن الإلزام -على
الرغم من أنه من جهة الاستعلاء -إلى الإرشاد والتوجيه، لمجاهدة النفس فيها وربط
مطالبها بما عند الله، فنهوا عن التحاسد وعن تمنِّي ما فضَّل اللهُ به بعض الناس
على بعضٍ من الجاه والمال؛ لأن ذلك التفضيل قِسْمَة من الله صادرة عن حكمة وتدبير
وعلم بأحوال العباد، وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض، فعلى كل أحد أن
يرضى بما قُسِمَ له علمًا بأن ما قُسِمَ له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مَفْسَدة
له، ولا يحسد أخاه على حظه.
والتمني بضائع
الحمقى-كما يقول بعض الحُكماء -؛ لأنه يجعل الإنسان يعيش في خيالات وأوهام لا تقع،
فنهانا الله سبحانه وتعالى عن تمني ما فضَّل به بعضنا على بعض تطييبًا لقلوبنا
وإراحة لنفوسنا، فالمراد بالنهي في الآية تربية المؤمنين على أن لا يشغلوا نفوسهم
بما لا قِبَل لهم بنواله.
وقوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) عِلَّة النهي عن التمني. والنصيب: الحظُّ والْمِقْدَار.
والاكتساب: السعي للكسب. و(مِنْ) هنا بيانية وليست للتبعيض، وقدَّم المسند (ﮩ) على المسند إليه (ﮪ) لإثبات هذا النصيب للرجال خاصَّة، ثم ذكر نصيب
النساء خاصة. وهكذا حقَّق تقديم المسند حكمًا شرعيًّا عظيمًا وجديدًا على مَنْ نزل
عليهم القرآن الكريم.
واللام في قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ) وقوله تعالى: (وَلِلنِّسَا)
للاستحقاق، وهو نظير الاختصاص وفرع عنه. وقد أُعِيدت الجملة الخاصة بالنساء
مُسْتَقِلَّة وهي: (وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ
مِمَّا اكْتَسَبْنَ)، لإيراد حكمهن على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف
أحكام الرجال، ولو لم تستقل لظلت شبهة النقص قائمة، ولكن الله بدَّد مخاوفهن بهذا
التكرار وأكَّد حظهن وحقهن في نعيم الدنيا وثواب الآخرة، فالميزان كما تقرره الآية
هو السعي والاكتساب، والاشتغال بهذا هو النافع المفيد، والاشتغال بغيره إنما هو
مجرد عناء، فالله الذي خلق وهو العليم بما يصلح لكل مخلوق.
وكما ذكرنا أن المراد بالنهي في الآية عام، وقيل: المراد
به نصيب الميراث وتفضيل الورثة بعضهم على بعض فيه، وهو تخصيص للعام بقرينة سبب
النزول، وهو لا يصلح قرينة؛ لأن خصوص المورد لا يُنَافي عموم الحكم، وعليه يكون جعل
ما قسم لكل منهم على حسب ما عرف من حاله الموجبة للزيادة والنقص كالْمُكتسب له، وقد
عُبِّر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاء حاله
لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدًا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقويةً لاختصاصه به بحيث
لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجبه الانتهاءُ عن التمني المذكور ... وإبقاءُ
الاكتسابِ على حقيقته بجعل سببِ النزولِ ما رُوي أن أم سلمة ك قالتْ: ليت الله كتب علينا الجهادَ كما كتبه على
الرجال فيكونَ لنا من الأجر مثلُ ما لَهم على أن المعنى لكلَ من الفريقين نصيبٌ
خاصٌّ به من الأجر مترتبٌ على عمله فللرجال أجرٌ بمقابلة ما يليقُ بهم من الأعمال
كالجهاد ونحوه وللنساء أجرٌ بمقابلة ما يليق بهن من الأعمال كحفظ حقوق الأزواج
ونحوه فلا تتمنى النساءُ خصوصيةَ أجرِ الرجالِ ولْيَسألْنَ من خزائن رحمتِه تعالى
ما يليق بحالهن من الأجر لا يساعده سياقُ النظمِ الكريمِ المتعلق بالمواريث
وفضائلِ الرجالِ.
وقوله تعالى: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) عطفٌ على النهي، وتوسيطُ التعليلِ بينهما لتقرير
الانتهاءِ مع ما فيه من الترغيب في الامتثالِ بالأمر، كأنه قيل: لا تتمنوا ما
يختصُّ بغيركم من نصيبه المكتَسبِ له واسألوا الله تعالى من خزائن نعمة التي لا نفاد
لها، وحُذف المفعولُ الثاني (شيئًا) للتعميم، والمعنى: اسألوا الله ما تريدون فإنه
تعالى يعطيكُموه، أو لكونه معلومًا من السياق، أي: واسألوه مثلَه، وقيل: (مِنْ)
زائدةٌ، والتقديرُ واسألوه فضلَه.
وختمت الآية بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان، وقدَّر لكل واحد ما يستحقهن وفرض عليه
من التكاليف ما يُطِيقه، فهو
سبحانه العليم
الخبير يُفَضِّل عن علم وتبيان. وبهذا
البيان الحكيم المعجز، عالج القرآن الكريم، ما يعتمل في نفوس كثير من الناس، حين
يرون التفاوت الواضح فيما أنعم الله به على عباده، وفضل بعضهم على بعض، في كثير من
وجوه الرزق. وقد يصعب على الناس فهم الحكمة في ذلك، ولكن حياتهم في هذه الدنيا لن
تستقيم إلا بهذا التفاوت فيما بينهم.
***