من بلاغة القرآن في حديثه عن المساواة بين الرجال والنساء

 

قال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].

وفي سبب نزول هذه الآية: روى الحاكم في المستدرك عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، يُذْكَرُ الرِّجَالُ وَلَا يُذْكَرُ النِّسَاءُ. فَأَنْزَلَ الله هذه الآية. ووردت بعض الآثار تدل على أن سبب نزول هذه الآية غيرها، فقد روى الترمذي والطبراني عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ، أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا لِلرِّجَالِ، مَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَتْ هذه الآية.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر سبحانه وتعالى ثواب زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وعقابهن لو قُدِّر لهنَّ عدمُ الامتثال، وأنه ليس مثلهن أحد من النساء ذكر بقية النساء غيرهن، ولَمَّا كان حُكْمُهنَّ وحُكم الرجال واحدًا جعل الحكم مشتركًا فقال: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ... الآية) [الأحزاب: 35].

وبدأت الآية بتأكيد هذا الخبر بـ (إِنَّ) لدفع شَكِّ مَنْ شَكَّ في هذا الحكم من النساء، كما ورد في سبب نزول الآية. أو أن التأكيد في الآية تقرير للوعد، واعتناء به، وتثبيته في نفوس الجماعة، وإغراء لها بالنهوض والإسراع إلى دائرته، ثم إن فيه تكريمًا للمذكورين من حيث عناية الحق جلَّ جلاله بوعدهم، وسوقه في مساق التوكيد.

وقوله تعالى: (الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) الْمُسْلِمُ: الدَّاخِلُ في السِّلْمِ بعد الحرب، الْمُنْقَاد الذي لا يُعَانِد، أو المفوِّض أمره إلى الله المتوكل عليه، من أسلم وجهه إلى الله.

أو المراد بالمسلم هنا مَن اتَّصف بهذا المعنى المعروف شرعًا. والإسلام بالمعنى الشرعي هو: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، ولا يعتبر إسلامًا إلا مع الإيمان.

وقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) المؤمن: المصدق بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به. وأركان الإيمان: أن يؤمن بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورُسُله، واليوم الآخر، ويُؤْمِن بالقَدَر خيره وشرِّه.

والقانِتُ: القائِمُ بالطَّاعة الدائم عليها. والصَّادِقُ: الذي يَصْدُق في نيته وقوله وعمله. والصِّابِرُ: الذي يَصْبِرُ على الطاعات وعن المعاصي. والخاشع: الْمُتَواضِع لله بقلبه وجوارحه. وقيل: الذي إذا صلَّى لم يعرف مَنْ عن يمينه وشماله. والْمُتَصدِّق: الذي يُزكِّي مالَه ولا يُخِلُّ بالنوافل. وقيل: مَنْ تصدَّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدّقين. والصوم المشروع فرضا كان أو نفلا، وعن عكرمة الاقتصار على صوم رمضان، وقيل: مَنْ صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين.

وقوله تعالى: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ)، أي: عن الحرام، أو عما لا يُرْضِي به الله تعالى. وأصل كلمة (الفرج) ما بين الرِّجلين، كفُرجة الحائط وفُرجة الشق، ثم أطلق على العورة، قالوا: كناية، أو هو مجاز مرسل من إطلاق المحلِّ على الحالِّ. قالوا: وكثرت هذه الكناية حتى صارت كالصريح في الدلالة. وذكر الفروج متعلقًا للحفظ؛ لكونها مركب الشهوة الغالبة.

وحُذِفَ مفعول قوله تعالى: (وَالْحَافِظِينَ) لدلالة ما قبله عليه وهو قوله تعالى: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ)، والتقدير: والحافظات فروجهن أو والحافظاتها. ويمكن أن نتلمس في حذف مفعول (وَالْحَافِظَاتِ) إشارة لَمَّاحة إلى صون هذا المفعول وستره، فإنه موطن الحياء من المرأة، والمرأة أشد تصونًا وأكثر حياء، فرمز القرآن بحذف وستره إلى ما يجب من المبالغة في صونه وحفظه.

وقوله تعالى: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ) الذاكر الله كثيرا هو مَنْ لا يكاد يخلو من ذكر الله بقلبه أو لسانه أو بهما، وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر. وقيل: المراد بذكر الله تعالى: ذكر آلائه سبحانه ونِعَمه. وقيل: مدار الكثرة العُرْفُ عند جَمْعٍ.

وذِكْر الاسم الجليل متعلقًا للذِّكر؛ لأنه الاسم الأعظم الْمُشْعِرُ بجميع الصفات الجليلة، وحُذِف مفعول قوله تعالى: (وَالذَّاكِرِينَ) لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله تعالى: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا) والتقدير: والذاكرات الله كثيرا. وحَسَّن الحذفَ رؤوسُ الفواصل؛ لأن هذا الحذف حافظ على البناء الصوتي في الآية الذي أقيم فيها على ضرب من التنغيم. وجعل الذِّكر آخر هذه الصفات المذكورة؛ لعمومه وشرفه.

وبعد ذِكْر هذه الأصناف العشرة جاء خبر (إنَّ)، وهو قوله تعالى: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)، فالآية جملة واحدة، أجملت أصناف الرجال والنساء الذين تعمر بهم الحياة عمارة طاهرة بسبب ما عملوا من الحسنات المذكورة، وتذكير الضمير فيه؛ لتغليب الذكور على الإناث، وإلا فالظاهر لهم ولهن.

وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآية عشرة أوصاف، وجعل كل من اتَّصف بكل واحد منها زوجين باعتبار الذكورة والأنوثة، فصار أصناف من اتَّصف بها عشرين صنفًا باعتبارهما. وفي هذه الآية عَطْفَان:

العطف الأول: عطف إناث كل صنف ممن اتصف بتلك الخصال العشر على ذكورها كعطف المسلمات على المسلمين والمؤمنات على المؤمنين. والعطف الثاني: عطف كل صنف من الزوجين المتعاطفين على الصنف الآخر منهما كعطف مجموع المؤمنين والمؤمنات على مجموع المسلمين والمسلمات.

والفرق بين العطفين المذكورين: أن عطف الإناث على الذكور من قبيل عطف الذوات المختلفة بالذكورة والأنوثة بعضها على بعض بعد اشتراكها في الاتصاف بوصف واحد، وفي مثل هذا العطف يجب توسيط العاطف. وهذا العطف يذكر البلاغيون أنه عطف لازم؛ لأن الواو فيه توسطت بين جنسين متقابلين –أعني الذكور والإناث-، وحين تتقابل الصفات يجب العطف كما قالوا.

وأما عطف مجموع الزوجين من صنف على المجموع من صنف آخر فهو من قبيل عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكأن المعنى: إنَّ الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيمًا، فواو العطف بمعنى المعية، والعطف على اعتبار المغايرة بين المتعاطفات في الأوصاف لا المغايرة بالذوات. وهذا يعني أن هذه الصفات ليست متغايرة، فالمسلمون والمسلمات هم مؤمنون ومؤمنات، وهم أيضًا قانتون وقانتات، وصادقون وصادقات ... إلى آخره. وكل صفة من هذه الصفات تُبرز اللون الأغلب للجماعة التي تعطفها على غيرها، فهناك فئة هي مسلمة، ومؤمنة، وقانتة، وصادقة، ولكن أبرز أخلاقها التسليم والْمُسالمة والإسلام، فغلب ذلك الوصف عليهم فذُكروا به. وهناك فئة أغلب أوصافها الاقتناع والتصديق واطمئنان القلب لعقيدة الخير ورسالة النور، فيبرز ذلك الوصف فيهم، ويغلب على غيره، فيُذكروا به، وهكذا القانتون والخاشعون والصائمون والمتصدقون ... إلى آخره.

قال الخطيب الشربيني: «عطف الإناث على الذكور لاختلاف جنسهما، والعطف فيه ضروري لاختلافهما ذاتًا، وعطف الزوجين وهو مجموع المؤمنين والمؤمنات على الزوجين، وهو مجموع المسلمين والمسلمات لتغاير وصفيهما. وليس العطف فيه بضروري بخلافه في الأول؛ لأن اختلاف الجنس أشد من اختلاف الصفة، وفائدة العطف عند تغاير الأوصاف: الدلالة على أن إعداد الْمُعَد من المغفرة والأجر العظيم أي: تهيئته للمذكورين للجمع بين هذه الصفات، فصار المعنى: أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات العشر أعد الله تعالى لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا» [السراج المنير (3/248)].

والسؤال: هل هذا الجمع لتلك الصفات منظور فيه إلى شيء أكثر من مجرد الجمع والحصر، دون مراعاة للترتيب، والتقديم والتأخير؟ وإذا كان هناك نظر إلى أكثر من مجرِّد الجمع والحصر، فهل هذا الترتيب تصاعدي أم تنازلي؟

والجواب: الآية الكريمة وإن كانت تذكر الأخيار بصفاتهم البارزة والغالبة عليهم، فإنها أقامت بناءها على نسق من الترتيب أومأ إليه ابن كثير حين قال: «فالإسلام بعده مرتبة يُرْتَقي إليها وهي الإيمان، ثم القنوت ناشئ عنهما» [تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي سلامة (6/418)].

وبسط صاحب التفسير القرآني للقرآن ما أجمله ابن كثير في ترتيب هذه الصفات فقال: «إن جميع هذه الأوصاف إنما هو من تدبير الحكيم العليم، وتعالت حكمة الله، وجلَّ علمه عن أن يجيء تدبير من تدبير الله عن غير حكمة وعلم!! فالإسلام الذي جاء بدءًا هو أول درجات السُّلَّم الذي يرقى فيه المرء إلى منازل الشريعة، وهو المدخل الذي يدخل منه إلى دين الله، والإيمان هو العروج بالإسلام إلى موطنه من القلب، والقنوت هو استجابة القلب، وتقبُّله لهذا الإيمان الذي استقر فيه واطمأن به، والصِّدق هو نبتة نبتت من بذرة الإيمان في القلب، والصبر هو الغذاء الذي تغتذي منه تلك النبتة، حتى تقاوم الآفات التي تعرض لها، وحتى تعطى الثمر المرجوّ منها، والخشوع وهو الولاء لله، والامتثال لأمره هو أول ما تفتَّح من زهر بيد الصبر. هذا ويلاحظ أن هذه الأوصاف الستة إنما يكتسبها الإنسان من داخل نفسه، وفي حدود ذاته، فيما بين اللسان والقلب، وهى في مجموعها، الرصيد المودع في قلب الإنسان من قوى الإيمان، ومنها ينفق فيما يعالج من شئون يستكمل بها تلك الأوصاف العشرة، ويوفِّي منها مطلوب دينه وشريعته، منه، فالصوم، والتصدق، وحفظ الفرج، وذكر الله هي أعمال تستلزم سلطان القلب، وخدمة الجوارح، وبهذا نرى أن هذه الصفات بناء متكامل، يقوم بعضه على بعض، ويستند التَّالي منه إلى السابق، بمعنى أنَّ هذا الترتيب الذي جاءت عليه هو أمر لازم، لكي يتألف منها هذا النغم المتساوق الذي يقيم في كيان الإنسان إيمانا صحيحًا مُثْمِرًا، وليس يعني هذا، أن الإنسان يلقى هذه الصفات واحدة واحدة، وأنه كلَّما حصل على صفة منها مدَّ يده، أو فتح قلبه، إلى صفة أخرى، كلا، وإنما الذي يعنيه هذا الجمع، وهذا الترتيب معًا، هو أن المؤمن الجدير بهذا الوصف، المستحق للجزاء الموعود به المؤمنون من ربِّهم، هو الذي يحقق هذه الصفات، فيكون مسلمًا، مؤمنًا، قانتًا .. إلى آخر الأوصاف العشرة، فليست هذه الصفات، بمعزل عن بعضها، وإنما هي صفة واحدة مجملة، أو صفات عشر مُفَصَّلة، وهي في إجمالها وتفصيلها على سواء» [ينظر: التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم يونس الخطيب، القاهرة: دار الفكر العربي، ط1، سنة 1930ه - 1970م، (11/711)].

***

إرسال تعليق


أحدث أقدم
document.querySelector('.button').addEventListener('click', function() { alert('مرحبًا في طريق التعلم!'); });