قال الله
تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى
الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا
أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا
أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الممتحنة: 10].
اختلف العلماء والمفسرون في المرأة التي نزل فيها على
رأيين:
الأول: أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْط، وهي من الصحابيات، وأول من هاجر
إلى المدينة، أسلمت سرًّا، ولما علمت بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، خرجت ماشية
من مكة إلى المدينة تتبعه، ولحقها أخوان لها لإعادتها، فلم ترجع. وكانت عذراء
فتزوجها في المدينة زيد بن حارثة، واستشهد في غزوة مؤتة سنة 8 ه، ثم تزوجها الزبير
بن العوام، فولدت له زينب، وفارقها، ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم
وحميدا. ومات عنها، وروت أحاديث في الصحيحين وغيرهم، توفيت سنة 33 هجرية.
والثاني: أنها سُبَيعة بنت الحارث الأسلمية، وهي زوجة سعد بن خولة، صحابيَّة،
محدِّثة روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها جماعة من فقهاء المدينة
والكوفة من التابعين، ولم يذكر المؤرخون تاريخ وفاتها.
وأرجِّح أن تكون آية الممتحنة نزلت في السيدة أم كلثوم
بنت عقبة بن أبي معيط، كما ذكر ابن حجر.
وهنا يثار سؤال، وهو: ذكرت هذه الآية أحوالا خاصة
بالمرأة المهاجرة المتزوجة من مُفَارقة زوجها الكافر، ورد المسلم الذي يريد الزواج
منها المهر إلى زوجها السابق، وأن أم كلثوم في هذه الفترة كانت شابة غير متزوجة،
فكيف يكون ذلك؟
والجوب: أن هذه الآية خرجت مخرج العموم، والعبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول العلماء. ويؤيد هذا أن المصادر ذكرت لنا أسماء
نساء أخريات قد فررن من أزواجهن الكفار مهاجرات من مكة إلى المدينة، وبعد امتحان
الصحابة لإيمانهن، لم يردهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفَّار، ثم لَمَّا
استبرأن أرحامهن زوَّجهن رجالا من المسلمين، ومن هؤلاء أميمة بنت بشر الأنصارية، وإحدى
نساء بني أمية بن زيد بن أوس الله، كانت عند ثابت بن الدحداحة، ففرَّت منه، وهو
يومئذ كافر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم
سهل بن حنيف أحد بني عمرو بن عوف، فولدت عبد الله بن سهل، فناسبت الآية هذا
العموم.
والْمُمْتَحَنَة -بفتح الحاء على وزن اسم مفعول -صفة للمرأة
التي نزلت الآية بسببها، والتعريف فيه للعهد، والمعهود أول امرأة امتُحِنَت في
إيمانها، ورُوي ضبطها بكسر الحاء -الْمُمْتَحِنَة، أي: الْمُخْتَبِرَة– صفة للآية التي
جاء فيها الأمرُ بامتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مُهَاجِرَات إلى
المدينة، ووُصِفَت تلك الآية بالممتحنة؛ لأنها شرَّعت الامتحان، وأُضِيفت السورة
إلى تلك الآية مجازًا، فذلك الوصف مجاز عقلي، كما قيل لسورة براءة الْمُبعثِرَة والفاضِحَة؛
لِمَا كشفت من عيوب المنافقين.
بدأت هذه الآية بالنداء (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا)، والمخاطب بهذا النداء هم عامة المؤمنين الذين كانوا في
المدينة في هذا الوقت، فكانت إذا جاءت امرأة مهاجرة امتحنها المؤمنون، فإن ظهر صدق
إيمانها بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت غير مؤمنة أرجعوها.
واستخدم هنا أداة الشرط (إِذَا)؛
لأن الأمر فيها مقطوع به، ففعل الشرط في الآية هو قوله تعالى: (جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ) مجزوم به، فالمتتبع لسياق الآيات من أول السورة إلى
آخرها يجد فيها خطابًا للمؤمنين بما يجب أن يكونوا عليه عند صلتهم بأعدائهم في
الدين، وتشير الآيات إلى الجو الذي يملأ حياة المسلمين من تهيؤ لقتال أعدائهم
يودون أن يبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء، وينهاهم الله عن مودة الذين
قاتلوهم في الدين، ثم في هذا الجو من العداوة لا بد وأن يفر المسلمون بدينهم ومنهم
المؤمنات اللاتي بقي أزواجهن على الكفر.
وسمَّاهُنَّ اللهُ عز وجل مؤمنات مع أن هذه التسمية كانت قبل اختبارهن؛ لتصديقهنَّ
بألسنتهنَّ ونطقهنَّ بكلمة الشهادة، وعدم ظهور ما يُنَافي ذلك منهنَّ؛ أو لأنهنَّ كُنَّ
مُشَارفات لثبات إيمانهن في حقِّهن بالامتحان.
وتقديم
لفظ الجلالة (اللَّهُ) على (أَعْلَمُ) أفاد تَقَوِّي الحُكْم
وهو أن اللهُ عز وجل وحده هو الذي يعلم
حقيقية إيمانهن.
والفاء في قوله تعالى: (فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) عاطفة و(إن)
شرطية، واستخدمت هنا أداة الشرط (إن) التي تستعمل في غير المقطوع به؛ لأن شأن الهجرة
غالبًا تكون عن إيمان، لما فيها من ترك الأولاد والأموال، فكان الأمر بالامتحان
تأكيدًا لصدق نيتهن.
وجاء الشرط بلفظ الماضي وهو قوله تعالى: (عَلِمْتُمُوهُنَّ) لكون ذلك مرغوبًا فيه. والمراد بالعِلْم هنا العلم الذي يُمْكنكم تحصيلُه وتبلغه طاقتكم من الاستدلال
بالعلامات والدلائل والاستشهاد بالأمارات والمخايل، وهو الظنُّ الغالب.
وفي قوله تعالى: (عَلِمْتُمُوهُنَّ) استعارة تبعية؛
لأنَّ الله عز وجل سمَّي الظنَّ الغالب الْمُشَابه لليقين في القوَّة وفي وجوب العمل به عِلْمًا
إيذانًا بأن الظن الغالب وما يُفْضِي إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم.
وقوله تعالى: (فَلَا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) جواب للشرط،
والفاء في قوله تعالى: (فَلَا) رابطة للجواب؛ لأنه جملة طلبية. والرَّجع هنا بمعنى الرد
لا من الرجوع؛ ولذلك عُدِّي إلى المفعول، أي: لا تردوهن إلى أزواجهن الكفرة.
وقوله تعالى: (لَا
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) في موقع
البيان والتفصيل والتعليل للنهي عن رجعهن إليهم الوارد في قوله تعالى: (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) تحقيقًا لوجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها
الكافر؛ لأنَّ الإسلام فرَّق بينهما.
وجاءت الجملة
الثانية (وَلَا
هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) تكرارًا لمعنى الجملة الأولى (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ)
إما للمبالغة في تأكيد هذه الحرمة،
فقد كانت من الطرفين؛ لأنه كان لو كان المراد نفي الحِلِّ من أحد الجانبين فقد دون
الآخر لكانت الأولى كافية في أداء هذا المعنى؛ وإما لأن الجملة الأولى جاءت لبيان
زوال النكاح الأول، والجملة الثانية جاءت لبيان امتناع النكاح الجديد.
وقُدِّم ما يخص حكم النساء على الرجال في قوله تعالى: (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) تشريفًا لهن؛ لإيمانهن وهجرتهن. وقيل: قُدِّم؛ لأنه راجع
إلى الصورة الأكثر أهمية عند المشركين؛ إذ كانوا يسألون إرجاع النساء إليهم، ويُرسلون
الوسائط في ذلك بقصد أن يردَّهُنَّ إليهم.
وفي قوله تعالى: (لَا
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) مُحسِّن بديعي
معنوي وهو العكس والتبديل، وتعريفه: أن يُقَدَّم في الكلام جزء ويُؤَخر آخر ثُمَّ يعكس
فيُقَدم ما أُخِّر ويُؤَخر ما قدم، وللعكس صور ثلاثة، وما ورد في هذه الآية صورة
من صُوَره، فقد وقع العكس بين لفظين في طرفي جملتين، وفي هذه الآية تغيير يسير بين
الجملتين اقتضاه المقام بين (حِلٌّ) و(يَحِلُّونَ).
وقوله: (وَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) نفي الإثم عن المؤمنين في تزوج هؤلاء المهاجرات إذا
آتُوهُنَّ أجورهن، فقال اللهُ عز وجل ذلك؛ لئلا يظن أن ما دفع للزوج السابق مُسْقِطٌ
استحقاق المرأة المهر ممن يَرُوم تزويجها، ومعلوم أن نكاحها بعد استبرائها بثلاثة
أقراء. والجُناح: الإثمُ.
وقوله: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)، نهى الله عز وجل المسلمين
عن إبقاء النساء الكوافر في عصمتهم، وهن النساء اللائي لم يخرجن مع أزواجهن لكفرهن.
والعِصْمَةُ: ما يعتصم به من عَقْدٍ وسبب، يعني
إيَّاكم وإياهن ولا تكن بينكم وبينهن عصمة، ولا علاقة زوجية، وهذه استعارة،
والمراد بها لا تقيموا على نكاح المشركات، وخلاط الكافرات، فكنى سبحانه عن العلائق
التي بين النساء والأزواج بالعصم، وهي ههنا بمعنى الحبال؛ لأنَّها تَصِلُ بعضهم
ببعض، وتربط بعضهم إلى بعض. وإنما سُمِّيت الحبال عصما؛ لأنها تَعْصِمُ المتعلق
بها والمستمسك بقوتها.
والكوافر: جمع كافرة. والمعنى: أنَّ
مَنْ كانت له زوجة كافرة بعد نزول هذه الآية فليُفَارقها ولا يعتد بها؛ لأنها لم
تعد زوجة له، وكذلك أن من ارتدَّت زوجته وانقلبت إلى دار الكفر فقد انقطعت عصمتها،
أي: انبتَّ عقد زواجها، فلا
يكن بينكم وبين الكافرات عصمة ولا علقة زوجية.
وقوله تعالى: (ذَلِكُمْ
حُكْمُ اللَّهِ) يعني جميع ما
ذكر في هذه الآية، فلا ردَّ للمُسْلمات بعد الآن إلى أزواجهن المشركين. وفُصِلَت هذه الجملة لشبه
كمال الاتصال، وهو الاستئناف البياني؛ إذ ضُمِنت التشريعات السابقة والخاصة بتحريم
النكاح بين المؤمنين والكفار وما يتبعه عن مُصْدِر هذه الأحكام؟ فكان الجواب بأنه
حُكْم الله.
وفي قوله تعالى: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) جناس الاشتقاق، فلفظ (حُكم) و(يحكم) من مادة لغوية واحدة
وهي الحاء والكاف والميم.
وختمت الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فهو يُشَرِّع
ما تقتضيه الحكمة البالغة. وعطفت هذه الجملة على ما قبلها؛ لاتفاقها معها في
الخبرية، فلما كان التقدير: فالله حكم عدل، فإن حكمه العادل بين الطرفين كان من
مقتضى علمه وإحاطته التامة بحاجات عباده، وما يصلح لهم من الشرائع، وكذلك من مقتضى
حكمته في إعطاء كل ذي حق حقه.
***