من بلاغة القرآن في حث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على التوبة مما يغضبه

      من بلاغة القرآن في حث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على التوبة مما يغضبه

ورد الحديث عن حثِّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على التوبة مما يغضبه في قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم: 4، 5].

فقوله: (إِنْ تَتُوبَا) خطاب للسيدة حفصة والسيدة عائشة رضي الله عنها على طريقة الالتفات، حيث التفت من الغيبة في قوله: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) إلى الخطاب في قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) وذلك أبلغ في معاتبتهما وفيه زيادة في اللوم والعتاب، فإنَّ المبالغ في العتاب يصير المعاتب مطرودًا بعيدًا عن ساحة الحضور، ثم إذا اشتد غضبه توجَّه إليه وعاتبه بما يريد، وذلك لحملهما على التوبة ممَّا بدر منهما.

وقوله: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) الصغا: الميل. والمعنى: فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو: ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه.

وفي قراءة عبد الله بن مسعود (فقد زاغت قلوبكما)، والزَّيْغُ: الْمَيْل، وعُرْفه في خلاف الحق، قال مجاهد: كنا نرى (صَغَتْ) شيئًا هيِّنًا حتى سمعنا قراءة ابن مسعود: (زاغت).

وقوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) شرطٌ، وفي جوابِه وجهان، أحدهما: هو قولُه (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) والمعنى: إن تتوبا فقد وُجِدَ منكم ما يُوْجِبُ التوبةَ، وهو مَيْلُ قلوبِكما عن الواجبِ في مخالفةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حُبِّ ما يُحِبُّه وكراهةِ ما يكرهه. وصَغَتْ: مالَتْ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنِ مسعودٍ «فقد زاغَتْ». والثاني: أن الجوابَ محذوفٌ تقديرُه: فذلك واجبٌ عليكما، أو فتابَ اللهُ عليكما.

وذكر الرازي والقرطبي بأن الجواب محذوف للعلم به على تقدير: كان خيرًا لكما، أما قوله: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) فليس جوابًا للشرط؛ لأن هذا الصغو كان سابقًا، فجواب الشرط محذوف للعلم به، أي إن تتوبا كان خيرا لكما، إذ قد صغت قلوبكما.

وسر التعبير بالجمع في قوله: (قُلُوبُكُمَا) دون التثنية، لكراهة اجتماع تثنيتين، مع ظهور المراد، وهو في مثل ذلك أكثر استعمالا من التثنية والإفراد.

وقوله: (ﮘ ﮙ ) أي وإن تعاونا عليه بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره، فلن يعدم هو مَنْ يظاهره.

وقوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) أصلُه تتظاهرا فحذفت إحدى التائين، وهذه قراءة العامَّةِ، وعكرمةُ (تتظاهرا) على الأصل، والحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في روايةٍ عنهما بتشديد الظاء والهاء دون ألف وأبو عمروٍ في روايةٍ (تظاهرا) بتخفيف الطاء والهاء، حذف إحدى التاءَيْن وكلُّها بمعنى المعاونة من الظهر لأنه أقوى أعضاءِ الإِنسانِ وأجلُّها.

وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاه) أي وليه وناصره. ويجوزُ في إعراب هذه الجملة: أَنْ يكونَ قوله: (هو) فصلًا، و(مَوْلاه) الخبرَ، وأن يكونَ مبتدأ، و(مَوْلاه) «خبرُه، والجملةُ خبرُ (إنَّ).

وجملة: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاه) قائمة مقام جواب الشرط معنى؛ لأنها تفيد معنى يتولَّى جزاءكما على المظاهرة عليه، لأن الله مولاه.

وزيادة (هُوَ) إيذان بأن نصرته عزيمة من عزائمه، وأنه يتولَّى ذلك بذاته. وضمير الفصل في قوله: (هُوَ مَوْلَاه) يفيد القصر على تقدير حصول الشرط، أي إن تظاهرتما متناصرتين عليه فإن الله هو ناصره لا أنتما، أي وبطل نصركما الذي هو واجبكما إذْ أخللتما به على هذا التقدير.

وقوله: (وَجِبْرِيل) رأس الكروبيين -بفتح الكاف وتخفيف الراء– وهم سادة الملائكة كجبرائيل وإسرافيل، وهم المقربون من كرب إذا قرب. وقرن ذكره عز وجل بذكره جبريل مفردًا له من بين الملائكة تعظيمًا له وإظهارًا لمكانته عنده.

وقوله: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) واحد أريد به الجمع، كقولك: لا يفعل هذا الصالح من الناس، تريد الجنس، ويجوز أن يكون أصله: صالحوا المؤمنين بالواو، فكتب بغير واو على اللفظ، لأنّ لفظ الواحد والجمع واحد فيه، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط.

قال ابن عباس: أراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر رضي الله عنها وقد روي ذلك مرفوعًا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وبه قال عكرمة ومقاتل، وهو اللائق بتوسطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وإن جبريل ظهير له يؤيده بالتأييدات الإلهية، وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة، ولأن بيان مظاهرتهما له عليه الصلاة والسلام أشد تأثيرًا في قلوب بنتيهما وتوهينا لأمرهما فكان حقيقا بالتقديم بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين كما هو المشهور.

وقوله: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) عطف جملةٍ على التي قبلها، والمقصود منه تعظيم هذا النصر بوفرة الناصرين تنويهًا بمحبة أهل السماء للنبي صلى الله عليه وسلم وحسنِ ذكره بينهم فإن ذلك مما يزيد نصر الله إياه شأنًا.

وذكرَ جبريل أوَّلًا على سبيل الخصوص وبعد ذلك ذكر عموم الملائكة ومعلومٌ أنَّ جبريل يدخل في عموم الملائكة، لكن جاء إفراد جبريل بالذكر أوّلًا اهتمامًا بشأنه، وتعظيمًا لمقامه، وإشادة بمكانته عند الله.

***

تعليقات