من بلاغة القرآن في ذكر إسرار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه بحديث وإفشائها هذا السر
قال تعالى: (وَإِذْ
أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ
وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا
نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ
الْخَبِيرُ) [التحريم: 3]. تبين لنا هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرَّ بحديث إلى بعض
أزواجه وقد أفشت هذا السر.
فقوله: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ) تذكير
وموعظة بما جرى في خلال هاتين الحادثتين ثني إليه عنان الكلام بعد أن قضي ما يهم
من التشريع للنبي صلى الله عليه وسلم بما حرّم على نفسه من جرَّائهما. وهو معطوف
على جملة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ). والعامل في (إذ) اذكر، فهو مفعول به لا
ظرف.
وقد أعيد ما دلت عليه الآية السابقة ضمنًا
بما تضمنته هذه الآية بأسلوب آخر ليبن عليه ما فيه من عبر ومواعظ وأدب، ومكارم
وتنبيه وتحذير. قال أبو حيَّان: «ذكر ذلك على سبيل التأنيب لِمَن أسرَّ له فأفشاه» [البحر المحيط (10/209)].
والفعل (أسر) مشتق من السرِّ وهو ضد الجهر،
والهمزة فيه للجعل، أي جعله ذا سرٍّ، يقال: (أسرَّ في نفسه)، إذا كتم سرّه. ويقال:
(أسرَّ إليه)، إذا حدَّثه بسرٍّ فكأنه أنهاه إليه. ومعنى (أسرَّ): أخبر بما يراد
كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخبارًا وذلك
إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوّه فيقوله صاحبه سرًّا.
وقوله: (إِلَى
بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) المقصود به السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب
رضي الله عنها ولم يعبر عنها باسمها صراحة حياطة وصونًا عن التصريح بالاسم؛ إذ لا
يتعلق بالتصريح بالاسم غرض. قال البقاعي: «كنى عنها صيانة لهن؛ لأن حرمتهن -رضي الله
عنهن- من حرمته صلى الله عليه وسلم» [نظم الدرر (20/185)].
ثم أشار إلى الحديث بقوله: (حَدِيثًا) ولم يذكر
موضوعه ولا تفصيله؛ لأن موضوعه ليس هو المهم، وليس هو العنصر الباقي فيه. إنما
العنصر الباقي هو دلالته وآثاره، وليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لهمَّ به
وأعلنه ولم يخصَّ به ولا أسرَّه.
وأصل إطلاق الحديث على الكلام مجاز لأنه
مشتق من الحدثان فالذي حدث هو الفعل ونحوه ثم شاع حتى صار حقيقة في الخبر عنه وصار
إطلاقه على الحادثة هو المجاز فانقلب حال وضعه واستعماله.
وقوله: (فَلَمَّا
نَبَّأَتْ بِهِ) أي أفشته إلى السيدة عائشة ك، والفاء تدل على التعقيب، ففيها إشارة إلى قُرْب زمن إفشائه من زمن
التحديث.
وجعل ذلك في سياق حكاية لأنه أستر لحرمه صلى
الله عليه وسلم حيث لم يقل: فنبأت به، ولا قال: أساءت بالإنباء به، ونحو ذلك مما
يفهم أنه مقصود بالذات.
وقوله: (وَأَظْهَرَهُ
اللَّهُ عَلَيْهِ) أي أطلعه، أي على إفشائه، وكان قد تكوتم
فيه، وذلك بإخبار جبريل عليه السلام. وجاءت الكناية هنا عن التفشية والحذف للمفشى
إليها بالسِّرِّ، حياطة وصونا عن التصريح بالاسم، إذ لا يتعلق بالتصريح بالاسم غرض.
وقوله: (عَرَّفَ
بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) اختلف القراء في قراءة قوله: (عرف) إلى
قراءتين:
القراءة الأولى: (عرَّف) بالتشديد، وهي
قراءة الجمهور، والمعنى: أعلم به وأنَّبَ عليه. فعرَّف النبي صلى الله عليه وسلم حفصة
بعض ذلك الحديث وأخبرها به.
القراءة الثانية: (عَرَف) بتخفيف الراء، وهي
قراءة السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبو عمرو في رواية هارون عنه، والمعنى:
جازى بالعتب واللوم، كما تقول لمن يؤذيك: لأعرفن لك ذلك، أي لأجازينك، وقيل: إنه
طلَّق حفصة وأُمِرَ بمراجعتها. وقيل: عاتبها ولم يطلقها.
وقوله: (فَلَمَّا
نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا)
في التعبير عما أنبئ به بقوله: (هَذَا)
حذف واختصار، فقوله (هذا) سد مسد مفعولي (أنبأ). و(نبأ) الأول تعدى إلى مفعول، و(أنبأ)
الثاني تعدى إلى مفعول واحد، لأن نبأ وأنبأ إذا لم يدخلا على المبتدأ والخبر جاز
أن يكتفى فيهما بمفعول واحد وبمفعولين، فإذا دخلا على الابتداء والخبر تعدى كل
واحد منهما إلى ثلاثة مفعولين. ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثالث، لأن
الثالث هو خبر المبتدأ في الأصل فلا يقتصر دونه، كما لا يقتصر على المبتدأ دون
الخبر.
وقوله: (قَالَ
نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)
أي خبَّرني به العليم بسرائر عباده، وضمائر قلوبهم، الخبير بأمورهم، الذي لا يخفى
عنه شيء.
وحذف المتعلق في قوله: (نَبَّأَنِيَ) وهو (به)، اختصارًا للفظ وتكثيرًا للمعنى
بالتعميم إشارة إلى أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة رضي الله عنها مما
عرفها به ومن غيره على أتم ما كان.
ووصفه بكونه خبيرًا بعد ما وصفه بكونه عليمًا
لما أن في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم، ولذلك أردف بالعليم الخبير، أي
العليم بكليات الأحوال، والخبير بجزئياتها.
***