من بلاغة القرآن في نفي أبوة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقية لأحد من رجال الصحابة

                من بلاغة القرآن في نفي أبوة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقية لأحد من رجال الصحابة

قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب: 40].

أخرج الترمذي في سبب نزول هذه الآية، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في زواج السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها قولها: وَإِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَهَا قَالُوا: تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى هذه الآية [سنن الترمذي (5/352)].

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها جاءت بعد الآيات التي جاء فيها ذكر زواج النبي صلى الله عليه وسلم ممن كانت زوج دعيه، قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) [الأحزاب: 37 - 38]، فلَمَّا تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال بعض الناس: إنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم تزوَّج زوجة ابنه زيد بن حارثة، فنزلت هذه الآية لبيان أن زيدًا لم يكن ابنًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أولاده الذكور هم: القاسم، وإبراهيم، وعبد الله، فجاء قوله: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) بعموم النفي إبطالا وقطعًا لِمَن يتوهَّم، أو يردد القول بأن للرسول صلى الله عليه وسلم ولدًا من الرجال تجري عليه أحكام البنوة، فناسب أن تأتي هذه الآية بعد تلك القصة لتذكيرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس أبًا حقيقيًّا لزيد، ولا لأحد من الصحابة. وبهذه الآية يتقرَّر أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقية في أمور عدة، منها النكاح والإرث وغيرها.

 وإيثار التعبير بالاسم (مُحَمَّدٌ) في هذا الموقع؛ لأن زيد بن حارثة كان يُسمَّى (زيد ابن محمد)، فجاء النفي بإبطال أن يكون شخص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أبًا لأحد من أدعيائه، كما قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ) [الأحزاب: 4] كما فيه إشارة إلى كونه جمع الخصال المحمودة، فكثر حمده، ولهذا خُصَّ بالرسالة، وخُتِمَت به مجامِعُ الحمد.

وجاء قوله: (مِنْ رِجَالِكُمْ) وصفًا لـ (أَحَدٍ) وهو احتراس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بنات، والمقصود أن يكون أبًا لأحد من الرجال. وهذا الاحتراس يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بريء مما يلصقه به المخاطبون، ولذلك أضاف "رجال" إلى ضمير المخاطبين دون تعريفه باللام، لقصد التغليط، والتغليظ عليهم في هذه القضية.

إذن نُفِي عن شخص الرسول صلى الله عليه وسلم الأبوة الحقيقة الشرعية التي يترتب عليها أحكام الأبوة الحقيقية من الإرث، والنفقة، وحرمة المصاهرة، وغيره ذلك، فالنفي هنا يفيد العموم، فليس النبي صلى الله عليه وسلم أبًا لأحد مطلقًا يشمل هذا نفي الأبوة بالولادة، والأبوة بالرضاع، والأبوة بالتبني، وإن كان المقصود من الآية هو نفي أبوة التبني.

ولَمَّا كان نفي كونه صلى الله عليه وسلم أبًا لهم على الحقيقة ربما يُوهم أنه ليس بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم ما يُوجب تعظيمه وتوقيره، وانقيادهم له، وعدم الاعتراض عليه، بيَّن أن حقَّه صلى الله عليه وسلم آكد من حقِّ الأب الحقيقي، فقال: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)؛ لأن حاله صلى الله عليه وسلم حال الخائف المشفق الرحيم بأُمَّته فجاء هذا الاستدراك مشيرا إلى كمال نُصحهن وشفقته على الأمة، وذلك بوصف الرسالة في قوله: (رَسُولَ اللَّهِ)؛ لأن مرتبة الْمُرسَل من الله تعالى هي مرتبة الاتِّباع، والطاعة، والاهتداء بما جاء به من الهُدى والشرع، ولذلك يجب أن تقدم محبَّته؛ لأنه ناصح للمؤمنين، والناصح الْمُشفق لا يكون إلا أبًا.

وفي إضافة (رَسُولَ) إلى لفظ الجلالة (اللَّهِ) تشريف له، وبيان لمكانته، ثم إنه زاد هذا التكريم بعطف صفة (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) تكميلا؛ للتنويه بمقامه صلى الله عليه وسلم وإيماء إلى أن في انتفاء أبوته لأحد من الرجال حكمة قدَّرها الله تعالى، فخاتم النبيين يقتضي ألا يكون له أبناء بعد وفاته؛ لأنهم لو كانوا أحياء بعد وفاته لخلعت عليهم النبوة.

والتكميل: هو أن يؤتى به في كلام يُوهم خلاف المقصود بما يدفعه، ووجه تسميته بالتكميل؛ لأنه يكمل المعنى برفع إيهام خلاف المراد، ويسمى أيضا الاحتراس، ووجه تسميته احتراسًا؛ لأن حرس الشيء حفظه، وهذا النوع فيه حفظ للمعنى من توهم غير المراد.

ومعنى قوله: (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) أنه لا نبي بعده فبه قد خُتمت النبوة، وهذا يقتضي أن يكون أحرص، وأشفق على الأمة من أي رسول قبله؛ لأن رسالته عامة إلى الإنس والجن إلى أن تقوم الساعة.

وهذه الآية مُثبتة لكونه خاتمًا على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك لأنها في سياق الإنكار؛ لأن يكون بنيه أحد من رجالهم بنوَّة حقيقية أو مجازية بغير جهة الإدلاء بأنثى؛ لكونه رسولا وخاتما، صونًا لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد؛ لأنه لو كان ذلك الأحد بشرًا لم يكن إلا ولدًا له، وإنما أوثرت إماتة أولاده -عليه الصلاة والسلام- وتأثير قلبه الشريف بها إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائنًا مَن كان، وذلك لأن فائدة النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله، وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام، فلم يبق بعد ذلك مرام "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

وقد جاء (خاتم) في ذروة المدح والثناء العطر على صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، ودلالة (خاتم) هنا على المنع الذي هو أصل المادة دلالة ظاهرة، حيث إن نبوَّته منعت مجيء النبوات بعده، فهو الرسول النبي المصطفى لجميع العباد من الله إلى قيام الساعة، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، وَيَقُولُونَ: لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ» [رواه الإمام مسلم في صحيحه (4/1791)].

وببيان هذه الحكمة يظهر حسن موقع التذييل ضرب من ضروب الإطناب، وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها للتأكيد بجملة (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، وما يُصلحها، فقد فرض على نبيه ما فرض، واختار له ما اختار، وذلك لأنه (عليم)، والعلم صفة ثابتة لله عز وجل، فهو العالم بما كان، وبما يكون قبل كونه، وبما يكون، ولما يكن بعد وقبل أن يكون، لم يزل عالِمًا، ولا يزال عالما بما كان ويكون، ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى أحاط علمه بجميع الأشياء باطنها، وظاهرها، دقيقها وجليلها على أتم الإمكان.

وعلى هذا فإن الله قضى هذا الشرع وفق علمه تعالى بكل شيء، ومعرفته بالأصلح الأوفق من النظم والقوانين بما تقتضيه الرحمة والخيرة للمؤمنين.

***

تعليقات