ورد الحديث عن بيان ما كان يجب فعله تجاه
هذا الإفك، وبيان ما يليق بالمؤمنين من الآداب في مثل هذه الأمور، فقال تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ
مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا
أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا
وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا
يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ *
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النور:
12- 18].
بدأت هذه الآيات بقوله: (لَوْلَا) وهي هنا للتوبيخ والتنديم، وتختص
بالماضي، وبدأت الآية بها للشروع في زجر الخائضين في الإفك وتوبيخهم على عدم حُسن
الظنِّ.
وقوله: (سَمِعْتُمُوهُ) خطاب للخائضين في الإفك من المؤمنين
والمؤمنات -ما عدا عبد الله بن أُبَيِّ الذي تولَّى كبره– وخصهم به للمبالغة في
توبيخهم وتقريعهم حيث وجَّه الخطاب إليهم، لأن المواجهة باللوم والتوبيخ أقسى وأشد.
وفي قوله تعالى: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات) التفات من الخطاب الوارد في قوله (سَمِعْتُمُوهُ) إلى الغيبة، فلم يقل: (ظننتم)، وجيء
بهذا الالتفات للتأكيد والمبالغة في التوبيخ والتقريع، وذلك من خلال وصفهم
بالإيمان الذي يوجب على صاحبه إحسان الظن بإخوانه، فإخلالهم بموجبات الإيمان أشنع
في التوبيخ، وفيه إشارة إلى أن الواجب على المؤمن إذا سمع ما يسيء أخاه أن يرد عن
عرضه ويظن فيه خيرا.
وقوله: (بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) أي بإخوانهم، أو ببعضهم، أو بأمِّ
المؤمنين التي هي كأنفسهم، والتعبير في الآية عن الغير بالنفس جاء عن طريق المجاز
بجعل اتحاد الجنس كاتحاد الذات، والسرُّ في ذلك بيان أن المؤمنين نفس واحدة، وما
يقع على أحدهما يسري تأثيره على الجميع، فواجب أن يحفظ بعضهم بعضًا، ويحمي بعضهم
عِرْضَ بعض، وفيه إشارة إلى أن أمَّ المؤمنين رضي الله عنها كنفسهم، فيجب تكريمها
وتنزيهها وصيانتها.
رُوي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته: ألا
ترين مقالة الناس؟ قالت له: لو كُنْت بدل صفوان أَكُنْتَ تظنُّ في حرمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم سُوءًا؟ قال: لا. قالت: ولو كُنْتُ أنا بدل عائشة ما خُنْتُه،
وصفوان خَيْرٌ منك وعائشة خَيْرٌ مني.
والسر في هذا التعبير تعطيف المؤمن على
أخيه، وتوبيخه على أن يذكره بسوء، وتصوير ذلك بصورة من أخذ يقذف نفسه ويرميها بما
ليس فيها من الفاحشة، ولا شيء أشنع من ذلك.
وتعريف المسند إليه باسم الإشارة في قوله:
(وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) لتمييزه أكمل تمييز. وفي التعبير باسم
الإشارة ووصفه بأنه مبين تحقير لشأنه، وتنبيه على أن كونه بهتانًا واختلاقًا أمر
واضح وظاهر لا يحتاج إلى دليل.
ثم انتقلت الآيات إلى ذكر الأدب الثاني
الذي ينبغي أن يفعله المؤمنون تجاه الإفك، في قوله: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ
الْكَاذِبُونَ)، وهذا الأدب هو طلب الدليل والبرهان، والغرض منه
التوبيخ والتعنيف المسوق للذين سمعوا الإفك فلم يجدُّوا في دفعه وإنكاره، واحتجاج
عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، والتنكيل به
إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين، فكيف بأمِّ المؤمنين؟ وعلى ترك
الخائضين الإتيان بالشهداء، فهي من تمام القول الْمُحضَّض عليه تقريرًا لكونه كذبا
فإن ما لا حجة عليه كذب عند الله أي في حُكْمِه، ولذلك رتَّب الحدَّ عليه.
وأعاد لفظ (الشهداء) في الآية مُعَرَّفًا
بعد سبقه مُنَكَّرًا، وإيثار هذا التعبير مع أنه كان من الممكن أن يعبر عنهم بضمير
الغيبة فيقول: (فإذ لم يأتوا بهم)، فيه تنبيه على الاهتمام بالشهداء، والتحقق من
استيفائهم قواعد الشهادة.
وصيغة الحصر في قوله: (فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ
الْكَاذِبُونَ) للمبالغة، كأن كذبهم لقُوَّته وشناعته لا يعد غيرهم
من الكاذبين كاذبًا فكأنهم انحصرت فيهم ماهية الموصوفين بالكذب.
والتعبير باسم الإشارة (أولئك) الذي
يستخدم للبعيد لبيان بُعد منزلتهم وغُلُوِّهم في الشرِّ والفساد، وأفاد زيادة
تمييزهم بهذه الصفة وهي الكذب لتمييزهم أكمل تمييز وليحذر الناس أمثالهم. وأفاد
إضافة الظَّرْفُ (عند) إلى لفظ الجلالة أن هذا الحُكْم عليهم مُؤَسَّسٌ على اليقين
والصِّدْقِ؛ لأنه حُكْمُ الله الذي لا يقبل الشَّكَّ أصلًا.
ثم بيَّن الله عز وجل فضله ورحمته على من وقع في هذه الجريمة
من المؤمنين، بقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ
عَذَابٌ عَظِيمٌ)، فهذه الآية وردت خلال الحديث عن جناية
المنافقين، وذكر عذابهم الأليم، وتوبيخ للمؤمنين على تباطئهم في الذود عن عرض
إخوانهم، فناسب ذلك التفصيل في ذكر رحمة الله وفضله وبيان عمومهما في الدنيا
والآخرة، التفصيل في الترهيب بذكر جواب الشرط الذي امتنع وقوعه بسبب وجود الشرط،
وهو فضل الله ورحمته بالمخاطبين.
وفي هذه الآية لَفٌّ ونَشْرٌ مرتَّب،
وذلك إذا فسِّر الفضل بالنعم الدنيوية والإمهال للتوبة، وفسِّرت الرَّحمة بالعفو
والمغفرة في الآخرة بعد التوبة، وعلى هذا جرى كثير من الْمُفَسِّرين.
والْمَسُّ هو اتصال الشيء بالبشرة بحيث
تتأثر الحاسة به، واللمس كالطلب له ولذلك يقال: (ألمسه فلا أجده). وفي قوله: (لَمَسَّكُمْ) استعارة؛ لأن
أصل الالتماس إنما يكون في الأجسام، فاستعير لملاقاة الشدة، فالمستعار منه حسِّي،
والمستعار له عقلي، والوجه وهو اللحوق عقلي.
والإفاضة الاندفاع والخوض، وفي قوله: (أَفَضْتُمْ) استعارة
تصريحية تبعيَّة، حيث شبه نشر الحديث وإشاعته بإفاضة الماء، ثم حذف المشبه وأقيم
المشبه به مقامه، وفي الاستعارة إشعار بكثرة حديثهم في هذا الإفك وفرط تناولهم له.
وآثر التعبير باسم الموصول لتهويل
أمر هذا الإفك، واستعظامه، واستهجان التصريح به. وتنكير العذاب ووصفه بالعِظَمِ لتفخيمه وتهويله بذاته
وصفته.
ثم ذكر الله عز وجل توبيخًا للمؤمنين في
خوضهم في الإفك في قوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا
وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) فهذه الآية دليل أكيد على كذب الإفك
وافتراء مُشيعيه، وارتكابهم جناية عظيمة؛ لأنهم تلقَّوه بألسنتهم وأخذه هذا عن ذاك
دون فحص وتدقيق، فهو قول يخرج من الأفواه وليس لهم عِلْمٌ بحقيقته.
وفي قوله: (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ) مجاز مرسل، علاقته المحلية، حيث عبَّر
بالْمَحَلِّ وأراد الحالَّ فيه، مُبَالغة في مشاركة المحلِّ لأهله فيما وُصِفُوا
به، فعبَّر بالأفواه وأراد الأَلْسِنَةَ، والأفواه محلٌّ لها، للمبالغة في ترويج
الشائعات وتضخيم الحادثة، وهو ما لا يُمكن أن ينهض به التعبيرُ بالألسنة، فكأنهم
جعلوا من أفواههم بوقًا يُكبِّر الأصوات ويُضخِّمها؛ ليسمعها القاصي والداني.
وذكر هذين القيدين (بِأَلْسِنَتِكُمْ) و(بِأَفْوَاهِكُمْ) أكَّد الإنكار والزجر؛ إذ الآية في سياق
الحديث عن أولئك الذين خاضوا في حادثة الإفك، وهذا من باب الإطناب؛ لأن التلقي لا
يكون إلا بالألسنة، والقول لا يكون إلا بالأفواه.
وبين قوله: (هَيِّنًا)، وقوله: (عَظِيمٌ) طباق، هو محسن بديعي أضفى على العبارة
جمالا لفظيًّا مع قوة في المعنى؛ إذا الضدان وجها لوجه، وبالمقارنة ينجلي المراد.
ثم ذكر اللهُ عز وجل توبيخًا للمؤمنين بتباطئهم في الزود عن
عرض إخوانهم، وذلك في قوله: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا
يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ). وقُدِّمَ الظرف على عامله في هذه
الآية؛ لبيان أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا عن التكلم بالإفك أوَّل ما سمعوا
به، فلمَّا كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.
وتسليط النفي على الكون في قوله: (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ
بِهَذَا) أبلغ مما لو قيل: ليس لنا أن نتكلَّم بهذا؛ إذ معناه:
ما ينبغي وما يصح لنا أن نتكلم بهذا ولا نذكره لأحد، وذلك أن قولك: ما يكون لي أن
أفعل، أشد في نفي الفعل عنك من قولك: ليس لي أن أفعل.
والبُهْتَان هنا بمعنى الكَذِبُ الذي يبهت
سامعه لفظاعته. ووصف البُهْتَان بأنه عظيم معناه أنه عظيم في وقوعه، أي بالغ في
كنه البُهْتَان مبلغًا قويًّا.
وبعد أن بيَّن
الله عز وجل ما لحق مَنْ خاض
في الإفك من تبعات، وكذلك مَنْ سمعوه وقبلوه، أعقب ذلك بتحذير المؤمنين من العود
إلى مثله، فقال تعالى: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
وفي التعبير
بجملة الشرط (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حثٌّ لهم على
الاتعاظ والإلهاب والتهييج مع التوبيخ والتقريع؛ لأن من شأن المؤمن الاحتراز مما
يُشينه من القبائح. وجواب الشرط محذوف؛ لدلالة المذكور عليه، والتقدير: إن كنتم
مؤمنين فلا تعودوا لمثله.
ثم ذكَّرهم
بفضله عليهم بتبيين الأحكام لهم في قوله: (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، المراد بها
الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن آداب معاملة المسلمين بحسن الظن والتكذيب لما لا
يليق، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لتفخيم شأن البيان.
وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل مقرر
لمضمون ما قبله، والغرض من هذا التذييل هو التلويح بتهديد الخائضين وتحذيرهم من
العود إلى مثل ما خاضوا به من الإفك على جميع أزمنة المستقبل.
***