من بلاغة القرآن في ذكر الوعيد على حُبِّ شيوع الفاحشة في المؤمنين

      من بلاغة القرآن في ذكر الوعيد على حُبِّ شيوع الفاحشة في المؤمنين

ورد الحديث عن الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة لِمَنْ يُحِبُّ إشاعة الفاحشة في المستقبل في الذين آمنوا، في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [النور: 19، 20].

ففي الآية الأولى وَعِيد شديد على مَنْ يعود إلى إشاعة قول الفاحشة في المؤمنين في المستقبل، كما هو مقتضى قوله: (أَنْ تَشِيعَ) لأن (أن) تخلص المضارع للمستقبل.

وأكدت الجملة الخبرية في بداية الآية بحرف التوكيد (إنَّ) وعادة يرد مثل هذا للمخاطب المتردد في قبول الخبر أو المشكك فيه، ولعل السر في تأكيد هذا الخبر أنه لما سبق في الآيات السابقة قوله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا) فناسب هنا أن يؤكد الخبر بهذا المؤكد إزالة للبس حسبانهم.

والمسند إليه هنا اسم الموصول وهو (الَّذِينَ) يعمُّ كُلَّ مَنْ يتَّصف بمضمون هذه الصلة، فيعم المؤمنين والمنافقين والمشركين.

والتعبير بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا الفعل مع شناعته إلا محب له، ولا يحبه إلا من هو بعيد عن الاستقامة. والتعبير بالمضارع (يُحِبُّونَ) في الصلة للإشارة إلى زيادة تقبيحهم بأنه قد صارت محبتهم لشيوع الفاحشة عادة مستمرة.

والمراد بشيوع الفاحشة شيوع خبرها؛ لأن الشيوع من صفات الأخبار والأحاديث، ففي الكلام إيجاز بحذف المضاف، وفي حذفه إشارة إلى تفظيع وتهويل نشر أخبار الفاحشة بجعلها هي الفاحشة.

وإشاعة الفاحشة حرام في المؤمنين وغيرهم، وإنما خص المؤمنين؛ لأن المحافظة عليهم هي الأصل، وهم أولى بالرعاية والعناية.

وجعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيها على أن محبة ذلك دالة على خبث النية نحو المؤمنين، ومن شأن تلك الطوية ألا يلبث صاحبها إلا يسيرًا حتى يصدر عنه ما هو محب له أو يسر بصدور ذلك من غيره، فالمحبة هنا كناية عن التهيؤ لإبراز ما يحب وقوعه.

وقوله: (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) تلوين للأسلوب بالتعبير بالجملة الاسمية بعد الجملة الفعلية، وفي الجملة الاسمية إشارة إلى ثبوت العذاب واستمراره. وتنكير العذاب ووصفه بالأليم لتهويل أمره، وهذا الجزاء في الدنيا يكون بالحد الذي جعله الله حدًّا لرامي المحصنات والمحصنين إذا رموهم بذلك، وفي الآخرة عذاب جهنم إن مات مصرا على ذلك غير تائب. وقد كان لِمَن خاضوا في الإفك جزاء في الدنيا فإنَّهم جُلِدُوا ورُدَّتْ شهادتهم، وصارَ ابنُ أُبِيَّ مطرودًا مشهودًا عليه بالنِّفاق، وعَمِي حسَّانُ وشُلَّتْ يداه في آخر عُمره، وكذلك عَمِي مِسْطحٌ أيضًا.

وتقديم الجار والمجرور (لَهُمْ) يفيد القصر والاختصاص؛ للمسارعة إلى بيان أن العذاب الأليم لهم لا لغيرهم.

وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) تذييل جيء به تقريرًا لثبوت العذاب لهم وتعليلا له، والهدف منه ترسيخ المعنى المقصود في نفوس المخاطبين حتى تتشبع به أفئدتهم.

وتقديم لفظ الجلالة أفاد القصر، فقصر علم جميع الأمور على الله عز وجل والتي من جملتها ما في الضمائر من المحبة المذكورة. ونفى العلم عن الْمُتَقَوِّلين الذين يدَّعُون العِلْمَ بخفايا الأمور، وأنهم يعلمون ما لا يعلم الناس.

وبعد هذا التحذير الشديد والوعيد الأكيد للذين يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا يأتي التذكير للمؤمنين بفضل الله الواسع ورحمته الشاملة، فيقول: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

وجواب (لولا) محذوف، تقديره: ولولا فضل الله تعالى على عباده ورحمته بهم لأهلكهم وعذَّبهم وكان ما كان مما لا يكاد أن يتصوَّره الإنسان؛ لأنه فوق الوصف والبيان. وفي حذفه إشارة إلى تهويل الأمر حتى يذهب الوهم في تقديره كل مذهب، فيكون أبلغ في البيان، وأبعد في التهويل والزجر.

وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) معطوف على قوله: (فَضْلُ اللَّهِ)، ونلحظ أن النظم الكريم أظهر ما حقه الإضمار، فلفظ الجلالة تقدم في الجملة الأولى ثم عطفت عليها الجملة الثانية، وكان يفي بالمعنى – في غير القرآن – أن يقال: وأنه رؤوف رحيم، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار؛ لتربية المهابة، والإشعار باستتباع صفة الألوهية للرأفة والرحمة، وقد تغير سبك الأسلوب فجاء المعطوف عليه مَصْدَرًا صريحًا وجاء المعطوف مصدرًا مؤولا من (أن) وما بعدها ليستقل في الإفادة، إذ المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بهاتين الصفتين الجليلتين على الدوام والاستمرار لا بيان حدوث تعلقهما بهم كما أنه المراد بالمعطوف عليه.

وفي ختام هذه الآية ما يدل على أنَّ ذنبَ الإفك عظيمٌ وشديدٌ، ولا يرتفع إلى محض رأفته ورحمته عز وجل وهو أعظم من أن يرتفع بالتوبة، كما رُوي عن ابن عباس أنَّ مَنْ خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته، والغرض من ذلك التغليظ.

***


إرسال تعليق


أحدث أقدم
document.querySelector('.button').addEventListener('click', function() { alert('مرحبًا في طريق التعلم!'); });