من بلاغة القرآن في ذكر تحريم إيذاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ
عَذَابًا مُهِين* وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ
مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 57 - 58].
أرشد الله عز وجل المؤمنين في الآيات السابقة
على هذه الآية إلى تناهي مراتب حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وتكريمه وحذَّرهم مما
قد يخفى على بعضهم من خَفِي الأذى في جانبه، ثم أردف ذلك بوعيد قوم اتَّسموا بسمات
المؤمنين وكان من دأبهم السعي فيما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام فأعلم الله
المؤمنين بأن أولئك ملعونون في الدنيا والآخرة ليعلم المؤمنون أن أولئك ليسوا من
الإيمان في شيء وأنهم منافقون؛ لأن مثل هذا الوعيد لا يعهد إلا للكافرين.
وجيء باسم الموصول في قوله: (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)؛ للدلالة على أنهم عرفوا بأن إيذاء
النبي صلى الله عليه وسلم من أحوالهم المختصة بهم، ولدلالة الصلة على أن أذى النبي
صلى الله عليه وسلم هو عِلَّةُ لعنهم وعذابهم.
قال الزمخشري: «قوله: (يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيه وجهان، أحدهما: أن يعبر بإيذائهما
عن فعل ما يكرهانه ولا يرضيانه: من الكُفْر والمعاصي، وإنكار النبوَّة، ومخالفة
الشريعة، وما كانوا يصيبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع المكروه، على
سبيل المجاز، وإنما جعلته مجازا فيهما جميعا، وحقيقة الإيذاء صحيحة في رسول الله
صلى الله عليه وسلم لئلا أجعل العبارة الواحدة معطية معنى المجاز والحقيقة - فقد أطلق
(يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وأريد
به فعل ما لا يرضيانه من الكُفْرِ والمعاصي وغيرهما، كأنه قيل: إن الذين يفعلون ما
لا يُرْضي الله ورسوله، فأطلق السَّبب وأراد الْمُسبَّب، وإنما ارتكب طريق المجاز،
وإن صحَّ إطلاق الإيذاء في حق الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة؛ لئلا يجعل العبارة
الواحدة مُعْطيةً معنى المجاز والحقيقة معًا، وهذا الطريق هو الذي يُسَمِّيه
الأصوليون عموم المجاز. [ينظر: حاشية الطيبي على الكشاف
(12/476)]-.
والثاني: أن يراد يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل في أذى الله: هو قول
اليهود والنصارى والمشركين: يد الله مغلولة وثالث ثلاثة والمسيح ابن الله والملائكة
بنات الله والأصنام شركاؤه. وقيل: قول الذين يلحدون في أسمائه وصفاته ... وقيل في
أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون. وقيل: كسر
رباعيته وشج وجهه يوم أحد. وقيل: طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حيي» [الكشاف
(3/559)].
واللَّعْنُ: الطَّردُ والإبعادُ على سبيل
السَّخَطِ، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة، وفي الدُّنيا انقطاع من قبول
رحمته وتوفيقه، فهم في الدنيا مُحَّقرون عند المسلمين ومحرومون من لُطْفِ الله
وعنايته، وهم في الآخرة مُحقَّرون بالإهانة في الحشر وفي الدخول في النار. ووصف
عذابهم في الآخرة بأنه مهين؛ لأنه عذاب مشوب بتحقير وخزي.
ثم انتقلت الآيات إلى
الحديث عن إيذاء آخر، وهو إيذاء المؤمنين والمؤمنات، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا
وَإِثْمًا مُبِينًا)، وقيل: نزلت في الذين أفكوا على عائشة
رضي الله عنها. وقيل: نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليًّا رضي الله عنه ويسمعونه، وقيل: في زُنَاةٍ كانوا يتبعون النساء وهنَّ
كارهات.
وذِكْر الوعيد لِمَنْ يُؤْذِي المؤمنين
والمؤمنات بعد وعيد مَنْ يؤذي اللهَ ورسولَه فيه تنويه بشأنهم ومُؤْذن بمكانتهم
عند الله ورسوله.
وعطف (المؤمنات) على (المؤمنين)؛ للتصريح
بمساواة الحكم وإن كان ذلك معلومًا من الشريعة، لوزع المؤذين عن أذى المؤمنات؛
لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم.
وقوله: (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا)، أي بغير جناية استحقوا بها الإِيذاء، والضمير
في قوله: (اكْتَسَبُوا) عائد إلى المؤمنين والمؤمنات، وجاء
مُذَكَّرًا على سبيل التغليب.
وأطلق إيذاء الله ورسوله، أما إيذاء
المؤمنين والمؤمنات فقُيِّد قوله: (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا)؛ لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير
حق أبدًا، وأما أذى المؤمنين والمؤمنات، فمنه ومنه.
ومن وقع في هذا الأمر فسيكون عقابه ما
جاء في قوله: (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) وفي هذا القول تشديد من وجوه: منها ذكر
حرف التحقيق (قد)، ومنها مجيء الفعل على صيغة الماضي من غير أن يراعى المضارع في
قوله: (يُؤْذُونَ)؛ للإشارة إلى أنهم قد احتملوا فعلا، أي
كأن الفعل قد وقع، ثم قوله: (احْتَمَلُوا) بصيغة افتعل، ولم يقل: (فقد حملوا)،
للإشارة إلى عظم ما احتملوه، وكأنه أمر لا يُطاق حمله إلا بمزيد من الجهد
والمعاناة.
***