من بلاغة القرآن في بيان كفَّارة الظِّهَار

                                 من بلاغة القرآن في بيان كفَّارة الظِّهَار

ورد الحديث عن كفَّارة الظهار في آيتين، وهما قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة: 3، 4]، فلَمَّا كانت بعض النفوس قد يُدَاخِلُها الضيق لما اقترفت من الذنوب شُرعت الكفارة تزكية للنفس وتطهيرا للروح مما أَلَمَّ بها من دنس المعصية.

وقوله: وَالَّذِينَ أُعِيدَ المسند إليه مرة أخرى بعد ذكره في الآية السابقة للاهتمام بالحُكْمِ والتَّصريح بأصحابه. وأفاد التكرار أيضًا في الآية الأولى وصف القضية والزَّجر عنها، بينما في الآية الثانية أريد تبيين حُكْم القضيَّة، فكان لابد من المجيء بذكر أصحابها حتى يكونوا حاضرين في الذِّهن عند سماع الحُكْم، فيُعلم أنهم هم المقصودون بهذا الحكم دون غيرهم من أصحاب القضايا الأخرى.

وقوله: يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ لم يُكَرِّر قوله (منكم) العائدة على العرب أصحاب هذه العادة في الجاهلية؛ ليُعلم أن هذا الحكم شامل لجميع المسلمين في كُلِّ زمان ومكان ممن توقعهم أنفسهم في هذه المعصية؛ لأنه باتساع الإسلام ونشره على يد العرب قد يتأثر بهذه العادة غيرهم من الأمم المغلوبة، فمجيء الآية على هذه الصيغة إِدْخَالٌ للجميع في هذا الحكم.

والعطف بـ (ثم) تبيَّن أن هناك مُهْلَةً زمنية للمُظاهر ليهدأ من ثورته ويُراجع نفسه ويُفكر في الأمر، ويشعر أنه أخطأ في حق نفسه باقترافه ذنبًا، وفي حق زوجه التي سيظلمها إذا استمرَّ على هذا القول الجائر، وبعد هذه المهلة عليه أن يتراجع عمَّا قاله، وسيجد أنَّ الشرع قد حدَّد له ما يجب عليه عمله.

وقوله: يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا أي يرجعون في تحريم ما حرَّمُوا على أنفسهم من أزواجهم فليحللونهن بعد تحريمهم إيَّاهن، أو يكون المعنى: يعودون في نقض ما قالوا، أو يعودون إلى الوطء الذي حرموه على أنفسهم بالظهار.

وقوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي عِتْقُ عَبْدٍ أو أَمَةٍ. ففي كلمة رَقَبَةٍ مجاز مرسل، علاقته الجزئية، حيث عبَّر بالرقبة وهي جزء وأراد الإنسان. والتحرير: الإعتاق، وأصل معناه جعله حرًا، أي كريما؛ لأنه يقال لكل مُكَرَّم حرٌّ، ومنه حر الوجه لِلْخَدِّ وأحرار الطير، وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضا، والرَّقَبَةُ من التعبير بالجزء عن الكُلِّ، والنسمة بفتحتين للإنسان، وقيل: إنها تكون بمعنى الرقيق، وهو المراد هنا. قال الراغب: إنها في المتعارف اسم للمماليك كما يعبر بالرأس والظهر عن المركوب، فيقال: فلان يربط كذا رأْسًا وكذا ظَهْرًا. وهنا إيجاز بحذف الخبر، والتقدير: فعليه تحرير رقبة.

وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس أن ذلك أدعى لإخراجها.

وقوله: ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ فُصِلَت عمَّا قبلها لكمال الانقطاع. والوعظ هو: الزجر المقترن بالتخويف، وجاء فعل الوعظ بصيغة المضارع من أجل التنفير من الذنب والتخويف من عقوبته وعاقبته.

وقوله: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَذْيِيلٌ لجملة ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ، أي والله عليم بجميع ما تعملونه من هذا التكفير وغيره. وهذه الجملة جاءت تذييلًا للآية بما تضمنته من معنى الترغيب والترهيب، وجيء بها قبل إتمام الحكم؛ لإيقاظ القلوب وتربية مهابة الله – تعالى – في النفوس، الذي يعلم بخبرته ظاهر الأمور وخافيها، لهذا جاء في الجملة تقديم وتأخير؛ إذ التقدير: والله خبير بما تعملون، فتوسط الموصول بين المبتدأ والخبر لما لهما من الأهمية، وجاءت جملة الصلة فعلا مُضارعًا تَعْمَلُونَ ليدل على استمرارية علم الله عز وجل ودوامه.

وقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا الفاء: عاطفة، تفيد الاستئناف، فاستُؤنفت كفارة الظهار بعد أن فصل بين الكفارة التي من الدرجة الأولى والكفارة التي من الدرجة الثانية بالتعقيب التذييلي ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 3] فانتقل إلى كفارة ثانية فيها مشقَّة للنَّفْس بالصبر على الانقطاع عن التمتع بلذة الطعام والشراب لشهرين متتابعين.

وأُعِيد قيد مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا للدلالة على أنه لا يكون المس إلا بعد انقضاء الصيام، فلا يظن أن مجرد شروعه في الصيام كافٍ في العود إلى الاستمتاع.

وقوله: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا أي لعجزه أو ضعفه رخَّص الله له أن ينتقل إلى إطعام ستِّين مسكينًا عِوَضًا عن الصيام، فيطعم ستين مسكينًا دافعًا عنهم ألم الجوع عوضًا عمَّا كان التزمه على نفسه من مشقة الابتعاد عن لذَّاته، فما دام لا يستطيع الصيام عن الطعام وغيره، فعليه أن يُكَفِّرَ بما هو ضد الصوم، فيشبع جوع بعض المساكين.

والمسكين: ذو المسكنة، وهي المذلة التي تحصل بسبب الفقر، فهو محتاج احتياجًا يُلْجِئُه إلى الضَّراعة والْمَذَلَّة.

ولم يذكر مع هذه الكفارة قوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا كالكفارتين السابقتين؛ لأن ذكره في أول كفارة لضرورته، وفي الثانية لطول المدة، فاكتفى بما ذكر سابقًا؛ ولأن هذه الكفارة يمكن القيام بها في وقت يسير دون مشقة.

ويلاحظ أنه قال في كفارة الرقبة فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، أي لم يتمكَّن من توفير ثمن الرقبة، فاستخدم (يجد) في الكفارة المادية، بينما قال في كفارة الصوم فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِع، الاستطاعة من الطَّوْعِ، وذلك وجود ما يصير به الفعل مُتَأتِّيًا، وضده العجز، فجعل الاستطاعة هنا مستخدمة في الكفارة الجسدية، فهي تحتاج إلى القوة والصبر والقدرة على التَّحَمُّل.

وقوله: ذَلِكَ إشارة إلى تعليم الأحكام وتبيينها والتنبيه عليها.

وقوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ خبر عن اسم الإشارة، واللام: للتعليل. وقال: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وهم مؤمنون، ولكن هذا البيان، وهذه الكفَّارات وما فيها من ربط أحوالهم بأمر الله وقضائه ذلك مما يحقِّق الإيمان، ويربط به الحياة ويجعل له سلطانًا بارزًا في واقع الحياة. فبعد تقرير الحكم وتبيين الكفارة، وتنقية النفس من أثر الذنب، تأتي هذه الكلمات لتزيد الجرعة الإيمانية في القلوب فترفع الروح إلى درجات أعلى من الفضيلة باتباعها للأوامر الإلهية واجتناب النواهي الشرعية.

وفي قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ استعارة مكنية، حيث شبه أحكام الظهار وكفارته بشيء مادي محسوس له حدود يُنتهى عندها ويُوقف عليها، فذكر المشبه وحذف المشبه به، وجاء بصفة من صفاته حُدُودُ. وأفادت هذه الاستعارة تصوير أحكام الإسلام ببناء حصين له حدود يصيب الأذى والضرر كل من تخطاها، بينما يعيش في أمن وسلامة كل مَنْ حرص على عدم تجاوزها.

وجملة: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَتْمِيمٌ لجُمْلَة ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه، أي ذلك الحكم وهو إبطال التحريم بالظهار حكم الإسلام. وأما ما كانوا عليه فهو من آثار الجاهلية فهو سنة قوم لهم عذاب أليم على الكفر وما تولد منه من الأباطيل، فالظهار شرع الجاهلية.

وجاء المبتدأ عَذَابٌ نكرة موصوفة لتخصيص نوع العذاب، وتقدم الخبر على المبتدأ لإفادة القصر، أي إن هذا العذاب الأليم خاص بالكافرين لا يتخطاهم إلى غيرهم، وهو قصر صفة على موصوف قصرًا حقيقيًّا.

***

تعليقات