من بلاغة القرآن في بيان حقيقة الظِّهَار
ورد الحديث عن بيان حقيقة الظهار في
قوله تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ
نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [المجادلة: 2].
وفُصِلَت هذه الآية عمَّا قبلها لكمال
الاتصال؛ لأن هذه الجملة الثانية مُفَسِّرة للأمر الْمُجَادَل فيه المذكور في
الآية الأولى، وهو: (تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) فكانت هذه
الجملة الثانية بمثابة عطف البيان، وهو كلام مسوق للشروع في بيان أحكام المظاهر.
وعبَّر عنهم بالموصول في قوله: (الَّذِينَ)؛ ليشمل هذا
الحكم كل من يَعْمَل هذا العمل.
وقوله: (يُظَاهِرُونَ
مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِم) أي يقولون قول الظهار، وهو في اللغة:
مُشْتقٌّ من الظهر، والظهر من كل شيء خلاف البطن، وهو أن يقول الرَّجُلُ
لزَوْجَتِه: (أنت عليَّ كظهر أمي) وكان هذا قولا يقولونه في الجاهلية يُرِيدون به تأبيد
تحريم نكاحها وبتِّ عِصْمَته، فيحرمها على نفسه، كما أنَّ أُمَّهُ حرام عليه.
وإسناد تركيب التشبيه إلى ضمير المرأة
على تقدير حالَةٍ من حالاتها، وهي حالة الاستمتاع المعروف، سلكوا في هذا التحريم مَسْلَك
الاستعارة المكنية بتشبيه الزوجة حين يقربها زوجها بالرَّاحلة، وإثبات الظَّهْرِ لها
تخيُّل للاستعارة، ثم تشبيه ظهر زوجته بظهر أمه، أي في حالة من أحواله، وهي حالة الاستمتاع
المعروف. وجعل المشبه ذات الزوجة. والمقصود أَخَصُّ أحوال الزوجة وهو حال قربانها فآل
إلى إضافة الأحكام إلى الأعيان.
فالتقدير: (قربانك كقربان ظهر أمي)، أي
اعتلائها الخاص. ففي هذه الصيغة حَذْفٌ، ومجيء حروف لفظ (ظهر) في صيغة ظهار أو مظاهرة
يشير إلى صيغة التحريم التي هي (أنت علي كظهر أمي) إيماء إلى تلك الصيغة على نحو ما
يستعمل في النحت وليس هو من التحت لأن النحت يشتمل على حروف من عدة كلمات.
ولما كان الظهار منكرًا لكونه كذبًا،
عبر بصيغة التفعل والمفاعلة، فقول الْمُظاهر: (أنت عليَّ كظهر أمي)، هو كذب؛ لأن
الزوجة لا تكون كالأم في التحريم، فالْمُظَاهِرُ يشقُّ على نفسه بتحريم أمر كان
حِلًّا له، فيُدْخِل نفسه فيما لم يُكلف به، وما هو ليس بمحمود لا دينًا ولا دنيا.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب
(يَظَّهَّرون) بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء مفتوحتين بدون ألف بعد الظاء على أن
أصله: (يتظهرون)، فأدغمت التاء في الظاء لِقُرْبِ مخرجيهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي
وأبو جعفر وخلف (يَظَّاهرون) بفتح الياء وتشديد الظاء وألف بعدها على أن أصله: (يتظاهرون)،
فأدغمت التاء كما تقدم، وقرأ عاصم (يُظَاهِرون) بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء
على أنه مضارع ظاهر. ولم يأت مصدره إلا على وزن الفِعَال ووزن المفاعلة، يُقَالُ: صدر
منه ظِهَار ومُظَاهرة، ولم يقولوا في مصدره بوزن التظهر، فقراءة نافع قد اسُتْغِني
فيها عن مصدره بمصدر مرادفه.
وفي إضافة النساء إليهم تأكيد على
معنى الارتباط المعنوي والحسِّي بين الزوجين، فهن نساؤهم وهم القيِّمون عليهن،
وبهذا يعيش الجميع في امتزاج ووئام وألفة محفوفة بالسكينة والهدوء والمودة.
وقوله: (مَا
هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) (ما) نافية حجازية، و(هنَّ) اسمها، و(أمهاتهم)
خبرها ونصب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة خبر المبتدأ، وهو
قوله: (ﭥ)، أي ليس
أزواجهم أمهات لهم بقول أحدهم: (أنت عليَّ كظهر أمي)، فلا تصير الزَّوْج بذلك أُمًّا
لقائل تلك المقالة.
وقوله: (إِنْ
أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) فُصِلَت عن
الجملة الأولى وهي قوله: (ﭪ ﭫ ﭬ)؛ لأنها توكيد
معنوي لها، فالفصل فيها لكمال الاتصال. وفيها قصر موصوف على صفة قَصْرًا
حَقِيقيًّا بطريق النفي والاستثناء، فالمقصور الأمهات والمقصور عليه الولادة.
والمراد من هذا القصر الإنكار على الْمُظاهرين، والتأكيد على الحقيقة التي غفلوا
عنها حين شبهوا أزواجهم بأمهاتهم اللائي ولدنهم في التحريم.
وقوله: (وَإِنَّهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) توبيخًا لهم على صنيعهم، أي هو مع كونه لا يوجب تحريم المرأة هو قول منكر،
أي قبيح لما فيه من تعريض حرمة الأم لتخيلات شنيعة تخطر بمخيلة السامع عند ما يسمع
قول المظاهر: (أنت عليّ كظهر أمي). وهي حالة يستلزمها ذكر الظهر في قوله: (كظهر
أمي).
الْمُنْكَرُ: كُلُّ فِعْلٍ تحكُم العقولُ الصحيحةُ بقُبْحِهِ،
أو تتوقَّفُ في استقباحِهِ واستحسانه العقولُ، فتحكم بقبحه الشَّريعة. والزُّور: الكَذِب؛
وسُمِّي زورًا لكونه مائلا عن الحق، من الزَّور وهو الْمَيْلُ، يُقَال: (ازْوَرَّ
عَنْ الشَّيْءِ وَتَزَاوَرَ عَنْهُ) مَالَ.
وجاءت الجملة مؤكدة بـ (إِنًّ)،
والجملة الاسمية، واللام المزحلقة؛ لإنزال المخاطبين منزلة الْمُنْكِر لهذا الأمر،
إذ لم يكونوا يتصوَّرون مدى فداحة هذا القول وخطئه.
وجاء قوله: (مُنْكَرًا)، وقوله: (وَزُورًا) نكرتين
للتأكيد على شناعة عملهم ولزجرهم عن محاولة تكراره.
وقوله: ﱹ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﱸ جاءت أيضا مؤكدة بـ ﱹإِنَّﱸ، والجملة الاسمية ﱹاللَّهَ لَعَفُوٌّ ﱸ والخبر الثاني
ﱹ غَفُورٌ ﱸ واللام المزحلقة؛ لبيان عظم الذنب وحاجته إلى كبير عفو، وكثير مغفرة، فكما
أكَّد حكمه على شناعة فعلهم وقبحه، أكَّد هنا اتصافه بصفات الجود والصفح عن
الإساءة والتجاوز عن المعصية، فهو الإله العظيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فجاءت تلك
المؤكدات لتؤكد للمذنبين هذا المعنى.
والعفو: التجافي عن الذنب بترك
العقوبة. والغُفْرَان: ستر الذنب وصيانة العبد من أن يمسَّه العذاب. والفرق بين
العفو والغفران: أن الغفران يقتضي إسقاط العقاب، وإسقاط العقاب هو إيجاب الثواب
فلا يستحق الغفران إلا المؤمن المستحق للثواب.
وذكر وصف (غفور) بعد وصف (عفو) تتميم لتمجيد
الله؛ إذ لا ذنب في المظاهرة حيث لم يسبق فيها نهي، ومع ما فيه من مُقَابلة شيئين وهما
منكرا وزورا، بشيئين هما (عفو غفور).
وتقديم العفو على المغفرة هنا؛ للترقي
من الأدنى إلى الأعلى –مع اليقين بأن صفاته تعالى جميعًا عليا -فهو تعالى يعفو عن
الذنب أولًا مُتجاوِزًا عنه، ثم يصون عبده من أن يمسه العذاب، وهذا غاية الكرم منه
عز وجل.
***