من بلاغة القرآن في تهديد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بطلاقه لهن
حذَّر الله عز
وجل السيدة حفصة والسيدة عائشة رضي الله عنهما بعدم المظاهرة عليه، ثم زاد في هذا التحذير،
فقال تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ
يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ
تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) [التحريم: 5]؛ لأن أشد ما على المرأة أن تطلق ثم إذا
طُلِّقت أن تُسْتَبدل بها ويكون البدل خيرًا منها.
وبدأ بقوله: (عَسَى) وهو فعل ماض من أفعال الرجاء، قال المفسرون: (عسى) من
الله واجب، وقيل: كل (عسى) في القرآن واجب إلا هذا. وقيل: هو واجب ولكن الله عز وجل علقه بشرط
وهو التطليق ولم يطلقهن. وساق الأمر في الآية مساق الرجاء إشارة إلى أنه يكفي
العاقل في الخوف تجويز احتمال الضرر فكيف إذا كان الأمر حتمًا؛ لأن من المعلوم أن (عسى)
من الله على طريق الكبراء لا سيما الملوك في اكتفائهم بالإشارات والرموز فمن هنا
كانت واجبة؛ لأنه ملك الملوك وهو ذو الكبرياء في الحقيقة لا غيره.
وجاء الخطاب على
التغليب في خطاب الكل، مع أنّ المخاطب أوّلًا اثنتان منهن. أو على تعميم الخطاب، يعني
لجميع زوجاته صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، فيكون التفاتًا إلى الجميع، وخاطبهُنَّ؛
لأنهن في مهبط الوحي وساحة العز والحضور فيصلحن لذلك.
وجواب الشرط
محذوف دلَّ عليه ما قبله، أي: إن طلَّقكنَّ فعسى ربُّه أن يبدله.
وقوله تعالى:
(أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) المتبدل به محذوف؛ لدلالة المعنى
عليه، تقديره: أن يبدله خيرا منكن، لأنهن إذا طلقهن كان طلاقهن لسوء عشرتهن،
واللواتي يبدلهن بهذه الأوصاف يكن خيرا منهن.
قال
الزمخشري: «فإن قلت: كيف تكون المبدلات خيرًا منهن، ولم تكن على وجه الأرض نساء
خير من أمّهات المؤمنين؟ قلت: إذا طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إيَّاه،
لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم والنزول على هواه ورضاه خيرا منهن» [الكشاف (4/567)].
وقوله: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ
عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) انتصبت هذه الصفات على أنها نعوت لـ (أَزْوَاجًا)، ولم يعطف بعضها على بعض الواو، لأجل
التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن ولو عطفت بالواو لاحتمل أن تكون
الواو للتقسيم، أي: تقسيم الأزواج إلى من يثبت لهن بعض تلك الصفات دون بعض، وجاءت
كل الصفات المذكورة بدون واو إلا صفتين عطف بينهما بالواو وهي الثيبات والأبكار؛ لأنهما
صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بد من الواو، فالثيوبة
والبكارة لا يجتمعان، فلذلك عطف أحدهما على الآخر، ولو لم يأت بالواو لاختل
المعنى. وذكر الجنسين؛ لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها بِكْرًا،
والثيب: الراجع بعد زوال العذرة.
***