من بلاغة القرآن في ذكر تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئًا لم يُحَرِّمه الله عليه وكفارة ذلك

 من بلاغة القرآن في ذكر تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئًا لم يُحَرِّمه الله عليه وكفارة ذلك

ورد الحديث عن تحريم النبي عز وجل على نفسه شيئًا –وهو العسل أو جاريته مارية- لم يُحرِّمه الله عز وجل عليه، وجعل الله عز وجل في تَحِلَّة هذا اليمين وأمثاله كفَّارة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [التحريم: 1، 2].

بدأت الآيات بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وهو نداء إقبال وتشريف، وفيه تعظيم له وتبجيل وتخصيص بذلك عن سواه، وفيه تنبيه على أن ما سيُذكر بعده ممَّا يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة؛ ولأن سبب النزول كان من علائقه. وجاء النداء بوصفه بالنبوَّة ملاطفة، وملاينة له.

ولفظ النبي أعمُّ من لفظ الرسول، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول، والنبي قد يكون رسولًا وقد يكون غير رسول. وكلمة (النبي) في المعنى اللغوي مأخوذة من النبأ الذي هو الخبر العظيم الشأن العاري عن الكذب، والذي يحصل به علم أو غلبة ظن، وهذا المعنى اللغوي قد يعيننا على إدراك سر إيثار كلمة (النبي) على (الرسول) في فاتحة هذه السورة إذا عرفنا أن هذه السورة قد حفلت بأنباء مهمة، كإنبائه صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الامتناع عن الحلال، وإنبائه بالتكفير عما فعل، وإنبائه ما فعلته زوجه من إفشاء سره. وهذا فن من فنون البلاغة سمَّاه ابن المعتز: حُسْنُ الابتداء، وسمَّاه المتأخرون: براعة المطلع أو براعة الاستهلال، وهو: أن يكون مطلع الكلام دالًّا على غرض المتكلم من غير تصريح بل بإشارة لطيفة.

وقوله تعالى: (لِمَ تُحَرِّمُ) (لم) اللام حرف جر و(ما) اسم استفهام في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بـ (تُحَرِّم). والاستفهام هنا ليس على حقيقته؛ لأن المستفهم يتصف بأنه غير عالم للأمر، وحاش لله أن يتَّصف بهذا، ولكن الاستفهام هنا المراد منه العتاب، والصحيح أن العتاب في الآية وارد على أنه ترك الأولى وليس لارتكابه صلى الله عليه وسلم فعلا محظورًا، والأفضل أن نقول إن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أنَّ ما صدر منه لم يكن كما ينبغي.

والتحريم هنا هو الامتناع، وليس التحريم المشروع بوحي من الله، وسبب الامتناع هو تطييب خاطر بعض مَنْ يُحسن معه العِشْرَة.

وفي الإِتيان بالموصول في قوله: (مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) لما في الصلة من الإِيماء إلى تعليل الحكم، وهو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض؛ لأن تناوله شكرٌ لله واعترافٌ بنعمته والحاجة إليه.

والشيء الذي حرَّمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه وكان سببًا لنزول هذه الآيات ذكر العلماء والمفسرون فيه روايتين: الأولى: أن المحرَّم هو شُرْب العسل. والثانية: أن المحرَّم هي جارية النبي صلى الله عليه وسلم ومِلْك يمينه مارية القبطية، التي أهداها له المقوقس ملك مصر، وهي أم ابنه إبراهيم.

وكلا الروايتين الواردة في سبب نزول هذه الآيات يمكن أن يكون هو الذي وقع، وربما كانت الرواية الثانية أقرب إلى جوِّ النص وإلى ما أعقب هذا الحادث من غضب كاد يُؤَدِّي إلى طلاق زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم نظرًا لدقة الموضوع وشدة حساسيته، فالاهتمام بإنزال هذه الآيات القرآنية لتقريع أزواجه صلى الله عليه وسلم وتأديبهن بسبب المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك بالاستبدال بهن، وإعلامهن برفعة مقامه، وأن ظهراءَه مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على أن أمرًا عظيمًا دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية، فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرةِ الضعيفة ويبترها من عضو الزوجية.

وقوله تعالى: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) مرضات: اسمُ مصدرٍ، وهو الرِّضا، وأصلُه مَرْضَوَة، والمصدرُ هنا مضافٌ: إمَّا للمفعولِ أو للفاعل، أي: أن تُرْضِيَ أنت أزواجَك، أو أَنْ يَرْضَيْنَ. والتاء في (مرضات) تاء التأنيث وليست تاء جمع المؤنث السالم، ولذلك فُتِحت.

وقوله تعالى: (وَاللَّهُ غَفُورٌ) لِمَا أوجب الْمُعَاتبة، (رَحِيمٌ) برفع الْمُؤَاخذة. وذيَّل بجملة (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) استئناسًا للنبي صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا العتاب.

ثم بعد ذلك ورد الحديث عن التحلل من الأَيمان بطريق الكفَّارة عنها فقال تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [التحريم: 2].

 (قد) حرف تحقيق، و(فرض) بمعنى: بيَّن، وعبَّر بالفرض حثًّا على قبول الرخصة إشارة إلى أن ذلك لا يقدح في الورع ولا يخل بحرمة اسم الله؛ لأن أهل الهمم العوالي لا يحبون النقلة من عزيمة إلى رخصة بل من رخصة إلى عزيمة، أو عزيمة إلى مثلها.

و(تحلة) مصدر تحلَّل، كتَكْرِمة من تكرَّم، وهذان ليسا مقيسَيْن؛ فإنَّ قياسَ مصدرِ فَعَّل: التفعيل، إذا كان صحيحًا غيرَ مهموزٍ، فأما المعتلُّ اللام نحو: زَكَّى، والمهموزُها نحو: نَبَّأ فمصدرُهما تَفْعِلة نحو: تَزْكية وتَنْبِئة، وأصل (تَحِلَّة) تَحْلِلَة فأدغم، وانتصابُها على أنها مفعول به. والتاء فيها زائدة. وإيثار التعبير بمصدر الفعل (حلَّل) المزيد فيه إظهار لمزيد الغاية.

وقوله تعالى: (وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ) سيدكم ومتولى أموركم، وقيل: (مَوْلَاكُمْ) أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم. (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم فيشرعه لكم (الْحَكِيمُ) فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما توجبه الحكمة.

***

تعليقات