من بلاغة القرآن في أمر المؤمنين بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم
ورد الأمر للمؤمنين بالصلاة والسلام على
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
جاءت هذه الآية الكريمة بعد مجموعة من
التشريعات الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، مما يدل على أن المقام
فيها للتكريم والامتنان على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه إيماء إلى أن تلك
الأحكام جارية على مناسبة عظمة مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند الله تعالى،
وهو مما اختُص به الرسول صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، وقد ازداد هذا
الشرف بصلاة الملأ الأعلى عليه، فالله عز وجل وملائكته الكرام يُصَلُّون عليه،
وإتمامًا لهذه النعمة وتأسيًا بالملأ الأعلى أُمر المؤمنون بالصلاة عليه أيضًا،
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم مرغِّبًا في ذلك: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً
صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه
مسلم في صحيحه (1/288) حديث رقم (384)، والترمذي في سننه (2/355)، حديث رقم (485)] إلى غير ذلك من أحاديث تُبَيِّن فضل
الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
وجاء النظم الكريم في هذه الآية بالأسلوب
الخبري لتقرير منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الملأ الأعلى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ)، وكان مجيء الجملة الإسمية – بوجه خاص-
لإفادتها الدوام والاستمرار، وتصديرها باسم الجلالة؛ لإدخال المهابة والتعظيم في
هذا الحكم، وجاء خبر (إن) فعلا مضارعًا لإفادة التجدد في كُلِّ وقت وحين، وفي
التوطئة للأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الفعل المضارع في (يُصَلُّونَ) إشارة إلى الترغيب في الإكثار من الصلاة
على النبيء صلى الله عليه وسلم تأسيا بصلاة الله وملائكته.
وفي هذه الجملة مؤكدان، وهما: (إنَّ،
واسمية الجملة)، والسؤال: هل هناك مَنْ ينكر مضمون ما اشتمل عليه الخبر حتى يكون
هناك حاجة للتوكيد؟
والجواب: في حقيقة الأمر ليس هناك مجال
لإنكار خبر أتى وحيًا من الله عز وجل فكل ما أخبر به الصادق المصدوق حقٌّ لا ريب
فيه، وإنما جاء التوكيد لبيان أهمية الخبر وتعظيم الْمُخْبَر عنه، فصلاة الملأ
الأعلى على النبي (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ)، فيه تعظيم لمنزلته وبيان لشرفه، وكان
هذا مقدمة لأمر المؤمنين بالصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومجرد
الإخبار عن صلاة الله عز وجل وملائكته عليه صلى الله عليه وسلم فيه حافز لهم
ليقتدوا بهم في ذلك، لكن النظم الكريم لم يكتفِ بتلك الدلالة الموحية بل قرنها
بالأمر الصريح (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، والأمر في الآية للوجوب.
وجاء التعبير بالاسم العَلَم على الذات
العلية (اللَّهَ) تعظيمًا للرسول صلى الله عليه وسلم في
هذا المقام الجليل. وجاء التعبير عن الملائكة بالجمع للتنبيه على كثرتهم وأن
الصلاة من هذا الجمع الكثير -الذي لا يحيط بمنتهاه غير خالقه -واصلة إليه صلى الله
عليه وسلم على ممرِّ الأيام والدهور مع تجدُّدها كل وقت وحين. وإضافة الملائكة إلى
الله عز وجل فقال: (وَمَلَائِكَتَهُ)، ولم يقل (والملائكة) للإشارة إلى عظيم
قدرهم ومزيد شرفهم بإضافتهم إليه سبحانه وتعالى، وذلك مُسْتَلْزِم لتعظيمه صلى
الله عليه وسلم بما يَصِلُ إليه منهم، من حيث إن العظيم لا يصدر منه إلا عظيم،
وهذا أبلغ تعظيم وأنهاه وأشمله وأكمله وأزكاه.
والصلاة لغة الدعاء، ولَمَّا كان الدعاء
مُحالا على الله تعالى فقد فرَّق العلماء بين صلاة الله عز وجل وبين صلاة
المخلوقين من الملائكة والبشر، قال أبو العالية: «صلاة الله ثناؤه عليه عند
الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء» [صحيح البخاري (6/120)]، وقال القرطبي: «الصلاة من الله رحمته
ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره» [الجامع لأحكام القرآن (17/214)].
ومن الملاحظ عود الضمير في قوله: (يُصَلُّونَ) على الله عز وجل وملائكته مما أثار
إشكالا في جواز اشتراك الملائكة مع الله سبحانه وتعالى في ضمير واحد، فقالت فرقة: في
الكلام حذف تقديره: (إن الله يُصَلِّى وملائكته يصلون)، فرارًا من توحيد الضمير،
وقالت أخرى: إن ذلك لا يجوز لغير الله عز وجل ورجَّح ابن عطية جوازه للبشر وإن كان
الأولى فصل الضميرين.
وبعد هذا التقرير الصريح الْمُنبئ عن
كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم على ربه جاء الأمر للمؤمنين بالصلاة والسلام عليه
صلى الله عليه وسلم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وهذه الجملة هي المقصودة وما قبلها كان
توطئة لها وتمهيدا؛ لأن الله لَمَّا حذر المؤمنين من كل ما يُؤْذِي الرسول عليه
الصلاة والسلام أعقبه بأن ذلك ليس هو أقصى حظهم من معاملة رسولهم أن يتركوا أذاه
بل حظُّهم أكبر من ذلك وهو أن يُصَلُّوا عليه ويُسَلِّموا.
وظاهر صيغة الأمر مع قرينة السياق يقتضي
وجوب أن يصلي المؤمن على النبي صلى الله عليه وسلم، ومجيء
الأمر
بعد
النداء
فيه دلالةٌ على كمال العناية بهذا الأمر، من حيث كان النداء تنبيهًا، وإيقاظًا، وتهيئةً للعقل
والحس؛ حتى يتلقّى الأمر تلقّيًا واعيًا.
وفُصل بين قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ) لكمال الانقطاع، إذ اختلفت الجملتان خبرًا وإنشاء،
وهذا الفصل يُوِحي بتباعد رُتبة الخالق عن المخلوقين، فجاء الكلام عن صلاته عز وجل
على نبيه صلى الله عليه وسلم إخبارًا وتقريرًا، في حين جاء الحديث مع المؤمنين
أمرًا لهم بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
والوصل في قوله تعالى: (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فللتوسط بين الكمالين، حيث اتفقت الجملتان
إنشاء، وهذا الوصل يفيد وجوب امتثال المؤمنين للأمرين معًا: الصلاة والسلام عليه
صلى الله عليه وسلم.
والتسليم مشهور في أنه التحية بالسلام،
والسلام فيه بمعنى الأمان والسلامة، وذهب بعض المفسرين إلى أن التسليم في الآية
يُراد بها الانقياد لأوامره صلى الله عليه وسلم، والأرجح أنه بمعنى السلام، أي
السلامة من الآفات. وكيفيته ما جاء في التحيات: «السلام عليك أيها النبي ورحمة
الله وبركاته».
ونلاحظ أن السلام خُصَّ بالمؤمنين فقط،
أما الصلاة فأُضيفت إلى الله عز وجل وملائكته، قال ابن حجر مُعلِّلًا لذلك: «يحتمل
أن يكون السلام له معنيان: التحية، والانقياد، فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم،
والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد، فلم يضف إليهم دَفْعًا للإيهام» [فتح الباري (8/533)].
وقُدِّمت الصلاة على السلام في الآية
لشرفها؛ إذ يشارك فيها الله عز وجل وملائكته الكرام، أما السلام فخاص بالمؤمنين.
ومجيء فاصلة هذه الآية وهي قوله: (تَسْلِيمًا) في غاية اللطف والإيناس لأن فيها جرس
صوتي يجمعها مع الآيات الأخريات السابقة واللاحقة.
وجاء قوله: (تَسْلِيمًا) مصدر مؤكد، ولم يؤكد الأمر بالصلاة عليه
بالمصدر كما أُكِّد (السلام)، فيقال: (صلوا عليه صلاة)؛ لأن الصلاة غلب إطلاقها
على معنى الاسم دون المصدر، وقياس المصدر (التصلية) ولم يستعمل في الكلام؛ لأنه
اشتهر في الإحراق قال تعالى: (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) [الواقعة: 94]؛ لذلك استُبعد هذا اللفظ، كما أن الأمر
بالصلاة سُبق بجملة خبرية مؤكدة عن صلاة الله وملائكته عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا
يستلزم الاقتداء بهم كما ذُكر آنفًا، في حين خلا الأمر بالسلام من مثل ذلك، ولهذا حسُن
تأكيده بالمصدر تحقيقًا للمعنى وإقامة لتأكيد الفعل مقام تقريره، وحتى لا يُتوهَّم
قلة الاهتمام به لتأخره.
ويتضح لنا في هذه الآية أن تكريم الله عز
وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم كان تفضُّلًا منه وكرمًا، وأنه وقع ابتداء من الله
سبحانه وتعالى دون طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من تمام تكريمه صلى
الله عليه وسلم أن يُشَارك المؤمنون في ذلك فيُدْعَون إلى الصلاة والسلام عليه صلى
الله عليه وسلم.
***