من بلاغة القرآن في بيان سُنَّة الله في شأن الخبيثين والخبيثات والطيبين والطيبات

   من بلاغة القرآن في بيان سُنَّة الله في شأن الخبيثين والخبيثات والطيبين والطيبات

قال تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [النور: 26]، وهي من الآيات التي تتصل بحادثة الإفك.

بيَّنت الآياتُ السابقة على هذه الآية عقابَ القاذفين وشهادة أعضائهم عليهم في الآخرة ختم اللهُ عز وجل حديثه عن حادثة الإفك بهذه الآية؛ ليُبَيِّن فيها بالدليل القاطع براءة السيدة عائشة أم المؤمنين ك فهذه الآية توضِّح سُنَّة عامَّة، وتشرح طبيعة جرى عليها الخلق، فكل إنسان يقترن بِمَن يُشَاكله، وكل مخلوق يأنس بما يُشبهه، وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج، وما كان يمكن أن تكون السيدة عائشة ك كما رموها وهي زوجة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض، وعصمته وكرامته على الله يأبى معها أن تكون له أزواج غير طيبات، وهذا من الاستدلال على حال الشيء بحال مُمَاثِلُه ومُقَارنُه.

وقوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) تعريض بالمنافقين الذين اختلقوا الإفك بأن ما أفكوه لا يليق إلا بأزواجهم.

وتقديم ذكر الخبيثات والخبيثين على الطيبات والطيبين؛ لأن الكلام في الآيات السابقة لهذه الآية كان مع الذين خبثوا نفسًا فأطلقوا ألسنتهم في الطيبين والطيبات من المؤمنين، وأخَّر الطيبين والطيبات في الذكر لمجاورة ما يخصهم من أحكام في آخر الآية.

وتقديم ذِكْر المؤنث على الْمُذكَّر في الحالين: الخبث والطيب؛ لأن غرض الكلام الاستدلال على براءة السيدة عائشة رضي الله عنها وبقيَّة أمهات المؤمنين.

وعطف قوله: (وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) على قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)، وقوله: (وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) على قوله: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ) إطناب؛ لِمَزيد العناية بتقرير هذا الحكم، ولتكون الجملة بمنزلة الْمَثل مُسْتقِلَّة بدلالتها على الحكم، وليكون الاستدلال على حال القرين بحال مُقَارِنه حاصلا من أيِّ جانب ابتدأه السامع.

والتعبير بلام الجر أفاد الاختصاص؛ لبيان تخصيص كل طائفة بما يشابهها ويُجانسها؛ لأن المجانسة من دواعي التلاقي والانضمام.

والتعبير عن الطيبين والطيبات باسم الإشارة في قوله: (أُولَئِكَ) للبعيد مع قُرْب الْمُشَار إليهم؛ للإشعار بعلوِّ رُتبتهم، وبُعد منزلتهم في الفضل والشرف.

والتعبير بصيغة التذكير في قوله: (مُبَرَّءُونَ) مع وجود الإناث في المبرئين والقائلين؛ من باب تغليب المذكر على المؤنث.

وإيثار التعبير باسم المفعول في قوله: (مُبَرَّءُونَ) لإفادة ثبوت البراءة لهم على الدوام والاستمرار.

والتعبير عما جاءوا به من الإفك باسم الموصول في قوله: (مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) للإشارة إلى استهجان واستقباح ما قذفوا به الطيبات الطاهرات.

وقدم المسند في قوله: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) للمُسارعة ببيان ما يسرهم من الأجر العظيم والرزق الكريم الذي جعله اللهُ مقصورًا عليهم لا يشاركهم فيه أحد غيرهم تكريمًا لهم وتشريفًا، وإظهارًا لمزيد العناية بهم.

***

تعليقات