من بلاغة القرآن في ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات الغافلات

 من بلاغة القرآن في ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات الغافلات

ورد الحديث عن الوعيد الشديد على رمي المحصنات الغافلات في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 23 - 25]، وهي من الآيات التي تتصل بحادثة الإفك.

وهذه الآيات تشتمل على كثير من الخصائص التعبيرية تُظهر بشاعة هذه الجريمة النكراء، وتبين شِدَّة عقاب مَنْ جاء بها، مع الإشارة إلى أن هذا العقاب على شدته إنما هو عقاب عادل جيء به على قدر جنايتهم؛ لأنه صدر عن أحكم الحاكمين، الذي لا ظلم في حكمه، والذي لا يضيع عنده مثقال ذرة.

وعبَّر النظم الكريم باسم الموصول (الذين) عن القاذفين لتحقيرهم وإظهار بُغضهم، وتسجيل هذا العمل القبيح عليهم، وبيان السبب في العقاب الشديد الذي ينتظرهم.

وفي قوله: (يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) استعارة تبعية، حيث استعير الرمي للقذف للمبالغة في شدة تأثير القذف في المحصنات، من حيث إن الرمي مُنبئ عن صلابة الآلة، وقوَّة دفعها، وإيلام المرمى، ففيها تصوير فعلتهم القبيحة بأنها رمي بالقول يوجع ويؤلم كالرمي بالحجارة أو ما ماثلها تمامًا.

وجاء التعبير عن الرمي بصيغة المضارع لاستحضار الصورة التي هي من أغرب الغرائب أو للإشارة إلى أن شأنهم الرمي وأنه يتجدد منهم آنًا فآنًا.

والرمي هنا لم يُحدَّد بأي شيء كان، فحذف اختصارًا، والتقدير: بالفاحشة.

وخصَّ رمي النساء بالذِّكر دون رمي الرجال مع أن الحكم يسري عليهم، وذلك لأن قذفهن أشنع وأنكر للنفوس، وأقوى في الإيذاء لهن ولأزواجهن وأقربائهن.

ووصف اللهُ عز وجل المحصنات في هذه الآية بأكثر من صفة، والسر في هذا أن هذه الآية خاصة بأمهات المؤمنين، وتدخل السيدة عائشة رضي الله عنها دخولا أوليًّا، فاتهام هؤلاء الأزواج الطاهرات اتهام لبيت النبوة وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي التعبير بقوله: (الْغَافِلَاتِ) إشعار بأنهن لا علم لهن بما رمين به، وهذا كناية عند عدم علمهن فيما رمين به؛ لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلا عنه، ففي هذا الوصف دلالة على كمال نزاهتهن، وتمام براءتهن أكثر مما في وصف (الْمُحْصَنَاتِ)، فهو يفيد سلامة صدورهن، ونقاء قلوبهن. قال الزمخشري: «الْغافِلاتِ: السليمات الصدور، النقيَّات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر؛ لأنهنَّ لم يُجرِّبن الأمور ولم يرزن الأحوال، فلا يفطنَّ لما تفطن له الْمُجَرِّبات العرَّافات» [الكشاف (3/222، 223)].

وذكر وصف (الْمُؤْمِنَاتِ) لتشنيع قذف الذين يرمون المحصنات كذبًا عليهن؛ لأن وصف الإيمان وازع لهن عن ارتكاب الفاحشة، فالإيمان أصل لكل صفات الشرف والفضيلة، فوصفهن به يوجب لهن كل محمدة، وينفي عنهن كل مذمة.

وتأخير وصفهن بـ (الْمُؤْمِنَاتِ) عن وصفهن بـ (الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ) فيه إشعار باستقلالهن في الاتصاف بالإحصان والغفلة، وتحقق هاتين الصفتين فيهن بالأصالة.

وفي بناء الفعل (لُعِنُوا) للمفعول إشعار بتعيين الفاعل، وهو الله سبحانه وتعالى فهو الذي يطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة.

والتعبير بالجملة الاسمية في قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) بعد الفعلية تلوين للأسلوب، وفيه إشارة إلى ثبوت العذاب واستمراره. وقُدِّم الجار والمجرور فيها للمسارعة إلى بيان أنه ينتظرهم عذاب عظيم.

وجاء العذاب مُنَكَّرًا وموصوفًا بالعِظَم (عَذَابٌ عَظِيمٌ)؛ لبيان أنه عذابٌ هائلٌ شنيع لا يُطَاق؛ لبشاعة ما اقترفوه من جناية، ففيه تفخيم وتهويل ومبالغة.

وقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) إن جُعل متصلا بما قبله، فهو مَسُوق لتقرير العذاب بتعيين وقت حلوله، وتهويله ببيان ظهور جناية الرامين المستتبعة لعقوباتها على كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات، فـ (يَوْمَ) ظرف منصوب متعلق بما تعلق به الجار والمجرور في قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

وإن جُعِل منقطعًا عما قبله، فـ (يَوْمَ) ظرف منصوب بفعل مؤخر، وقد حُذف للتهويل، كأنه قيل: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يظهر من الأحوال والأهوال مما لا يكاد يتصوره الإنسان، ولا يحيط به نطاق المقال؛ لأنه فوق الوصف والبيان. وقيل: لفظ (يَوْمَ) منصوب على أنه مفعول فعل محذوف، والتقدير: اذكر يوم تشهد.

ولفظ الشهادة يُصَوِّر موقف حسابهم بين يدي أحكم الحاكمين، وما سيكون فيه من دعاوى وشهادات، وفضيحة وتشهير. وذكر شهادة الأعضاء للتهويل عليهم، ولتصوير هذا الموقف الذي يتهم فيه بعضهم بعضًا، إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات بالإفك، وهي من باب المقابلة المؤثرة.

والحكمة في تخصيص هذه الأعضاء بالذكر مع أن الشهادة تكون من جميع الجسد لأن لهذه الأعضاء عملا في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف.

وتقديم شهادة اللسان على شهادة باقي الأعضاء؛ لأنه المرتكب لجريمة القذف، والعضو الذي وقع منه الرمي.

وتقديم قوله: (عَلَيْهِمْ) على الفاعل؛ للمسارعة إلى بيان أن هذه الشهادة ضارَّة لهم، مع ما فيه من التشويق إلى معرفة هؤلاء الشهود غير المعهودين.

والجمعُ بين صيغتي الماضِي والمستقبلِ في قوله: (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) للدِّلالةِ على استمرارِهم على هذه الأعمال القبيحة في الدُّنيا وتجددها منهم.

والتعبير عن أعمالهم السيئة وجنايتهم القبيحة باسم الموصول للتنبيه على قبح ما ارتكبوه واستهجان ما فعلوه.

وقوله: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) استئناف مسوق لبيان موقفهم بعد شهادة هذه الأعضاء عليهم، والفصل بين هذه الآية والتي قبلها لشبه كمال الاتصال، فالآية السابقة تثير سؤالا في النفس تقديره: ماذا يحدث لهم بعد شهادة هذه الأعضاء عليهم؟ جاءت هذه الآية جوابا عنه.

وفي وصف الجزاء بالحق تنبيه على أنهم أخذوا جزاءهم العادل الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، وذلك ما يشير إليه ويؤكده أيضًا التعبير بلفظ (يُوَفِّيهِمُ).

وجاء قوله: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) معطوفا على ما قبله وموصولا به للتوسط بين الكمالين، فالجملتان مُتَّحدتان في الخبرية، وبينهما المناسبة المصححة للوصل.

والإتيان بضمير الفصل (هُوَ) والتعريف في قوله: (الْحَقُّ الْمُبِينُ) أفاد القصر، فالله عز وجل هو الحقُّ المبين لا غيره. وقد أكَّد الكلام بـ (أن) فاجتمع القصر والتأكيد، ولذلك لإثبات مضمون الجملة، وتأكيد فحواها.

كل هذه الخصائص تعاونت وتضافرت على تقديم صورة هذا العقاب الأليم الذي أعدَّه اللهُ عز وجل لِمُقترفي هذه الجريمة البشعة في صورة قوية مُؤثِّرة تحث العقل على التأمل والتفكر، حيث عاجلهم باللعنة، وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة، ونبَّه أن هذا جزاء عادل يستحقونه بموجب جنايتهم.

وفي ذلك يقول الزمخشري: «لو فليت القرآن كله وفتَّشت عما أوعد به من العُصَاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة -رضوان الله عليها-، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف. واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة. كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعًا، وتوعَّدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأنَّ ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يُوَفِّيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، فأوجز في ذلك وأشبع، وفصَّل وأجمل، وأكَّد وكرَّر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة، وما ذاك إلا لأمر الإفك» [الكشاف (3/223)].

***

تعليقات