من بلاغة القرآن في ذكر تقديم مرضاة الرب على رضا النفس

           من بلاغة القرآن في ذكر تقديم مرضاة الرب على رضا النفس

ورد التحذير من مسالك الشيطان في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور: 21]، وهذه من الآيات التي تتصل بحادثة الإفك.

صُدِّرت الآية بالنداء بحرف النداء (يا) للإيقاظ والتنبيه. وخصَّ المؤمنين بالذكر مع أن الإيمان يقتضي منهم عدم اتباع الشيطان؛ ليتشددوا في ترك المعصية لئلا يكون حالهم كحال أهل الإفك.

وقوله: (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) شبَّه تزيين الشيطان وبعثه على الشر بأمر الآمر في أن كلا منهما سبب لوقوع الشرِّ، ثم عدل عن التصريح بلفظ الوسوسة وسلك مسلك الاستعارة بناء على أن تنزيل وسوسته منزلة أمره، يستلزم تنزيل مَنْ يطيعه ويقبل وسوسته بمنزلة المأمور، فكان في سبيل سلوك الاستعارة رمزًا إلى أنهم بمنزلة المأمورين المنقادين له تحقيرًا وتسفيهًا لرأيهم، وهي أبلغ عبارة في التحذير من إطاعة أوامره وقبول قوله فيما يدعو إلى فعله، فالاستعارة هنا رسمت صورة منكرة لمن يتبعون خطوات الشيطان يعافها طَبْعُ المؤمن وينفر منها، ومواجهة المؤمنين بهذه الصورة يُثِير في نفوسهم اليقظة والحذر من الوقوع في هذا الأمر الخطير.

والتتبع هنا تدل على الحرص والعناية والقصد، وجمع الخطوات فيه دلالة على تلون الشيطان فيما يدعوا إليه، وفي التدرُّج بمتَّبعيه.

وفي قوله: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) إيجاز بحذف جواب الشرط، والتقدير: ومن يتبع خطوات الشيطان فقد غوى، أو فقد خاب وخسر، أو فقد ارتكب الفحشاء والمنكر، أو نحو ذلك، والغرض من حذفه إفادة التعميم والتهويل حتى يذهب الوهم في تقديره كل مذهب فيكون أبلغ في البيان، وأبعد في التهويل والزجر، وعلى هذا يكون الضمير في قوله: (فَإِنَّهُ) للشيطان، وتكون جملة (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) تعليل للنهي عن اتباع خطوات الشيطان.

وذكر أبو حيان أن الضمير في قوله: (فَإِنَّهُ) عائد على (من) الشرطية، ولم يعتبر في الكلام حذفًا، وتكون جملة (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) جواب الشرط، ويكون المعنى على ذلك: ومن يتَّبع الشيطان فإنه يصير رأسًا في الضلال بحيث يكون آمرًا بالفحشاء والمنكر [البحر المحيط (8/24)].

وصُدِّرت جملة (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) بـ (إِنَّ) لتأكيد مضمونها، والتعبير بالفعل (يأمر) مع أن الشيطان لا يأمر وإنما يوسوس ويغوي للإشعار بقُوَّة وسوسته وشِدَّة إغرائه فلا يصمد أمام وساوسه ولا يقاوم إغوائه إلا قوي الإيمان.

وعطف (المنكر) على (الفحشاء) من قبيل عطف العام على الخاص. فالمنكر عام في كل ما أنكره الشرع، والفحشاء نوع منه. وفائدة العطف التعميم؛ فالشيطان لا يأمر بالفحشاء وحدها، وإنما يأمر بكل ألوان المنكرات.

وقدَّم (الفحشاء) على (المنكر) لزيادة التحذير والتنفير من إشاعة الفاحشة في المؤمنين، ولتقدم ذكره في هذا السياق في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) [النور: 19].

وكرَّر النظم الكريم لفظ (الشيطان) وأظهره في قوله: (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) وقوله: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) مع أنه كان يكفي – في غير القرآن – أن يعبِّر عنه بالضمير، فيقول: ومن يتبعها أو من يتبع خطواته؛ لزيادة التقرير والمبالغة في التنفير والتحذير، كما أن المقام يقتضي التفصيل نظرًا لخطورة الوساوس الشيطانية.

وعبَّر بالفعل المضارع في قوله: (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) لدلالته على التجدد والحدوث، وفي هذا إشعار بتجدد كيد الشيطان واستمراره وخداعه.

وفي قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) إشارة إلى أن الناس جميعًا معرَّضون للزَّلل، وللوقوع في الخطايا والآثام، ولكن الله عز وجل بفضله ورحمته بعباده قد جعل لهم مطهرًا يتطهرون به من آثامهم التي تعلق بهم، وذلك عن طريق العبادات والطاعات والقربات.

وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل يفيد الترغيب في التطهير والتزكِّي، وذلك بالإقلاع عن فعل السيئات والرجوع إلى الله عز وجل والتقرُّب إليه بالعمل الصالح. وإظهار لفظ الجلالة في هذا التذييل؛ ليكون مستقِلًّا بنفسه؛ لأنه يجري مجرى المثل.

***

تعليقات