ورد تخيير
نساء النبي صلى الله عليه وسلم بين إرادة الدنيا وإرادة الآخرة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا *
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ
اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28 - 29].
ومناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما أن الله سبحانه وتعالى لَمَّا ذكَّر
المسلمين بنعمته عليهم حيث هزم الأحزاب، ومكَّنهم من بني قريظة، فأورثهم أرضهم
وديارهم وأموالهم، ثم بشَّرهم بفتوحات جديدة سيظفرون بها في المستقبل، وبهذا
أغناهم الله تعالى من فضله بعد أن كانوا فُقَراء، وأعزَّهم بدينه بعد أن كانوا
أذلَّاء، وجعلهم قادة الدنيا، وحكموها وملكوها بفضله تعالى طلب منهم أن يلجئوا
إليه وحده، ويعتمدوا عليه دون غيره وألا يغتروا بهذه الدنيا، فيبتعدوا عن منهجه،
وجاء ذلك في شخص أمهات المؤمنين، حيث إنهم أقرب الناس إلى المصطفى صلى الله عليه
وسلم وبهذا فإنهم قُدْوة لنا، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة والقائد
الأعظم، وفي هذا شُكْر على نِعَمه سبحانه التي ذكَّرهم بها في أول السورة.
وفي سبب نزول هاتين الآيتين أنه لَمَّا أفاء الله على نبيه صلى
الله عليه وسلم الغنائم بعد فتح خيبر تطلعت نفوس أزواجه إلى التوسعة في النفقة بعد
عيشة الضنك التي كُنَّ يحيينها، واغتمَّ لذلك صلوات الله وسلامه عليه فهجرهن شهرًا
نزلت بعده آيتا التخيير تُخيرهن: إمَّا الله ورسوله والدار الآخرة، وإما الحياة
الدنيا وزينتها، وهنا تشوَّفت نفوسهن إلى ما عند الله عز وجل وآثرن معيشة رسول
الله صلى الله عليه وسلم –مع قسوتها– على متاع الدنيا الزائل، فشكر الله لهن ذلك،
ثم نزلت هاتان الآيتان الكريمتان توجِّهُ نساء بيت النبوة، في مقام كله تأديب
وتعليم، وتوجيه وإرشاد، وتضع من خلالهما المنهج الجدير بمثلهن حتى يرتقين إلى أفق
النبوة السامي.
بدأت الآيات بتوجيه النداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ) ومجيء هذا
النداء بهذا الأسلوب يُفِيد تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم ويُنبِّه على
رِفْعَة شأنه وعِظَم قدره ومكانته عند ربه ـ ويدلُّ أيضًا على عِظَم وخطر ما
سيُذْكر بعده. وناداه اللهُ بوصف النبوَّة؛ لأن المقام مقام إنباء لأزواجه وتبليغ
بالاختيار.
ومجيء الأمر بعد النداء فيه
دلالةٌ على كمال العناية بهذا الأمر، من حيث كان النداء
تنبيهًا، وإيقاظًا، وتهيئةً للعقل والحس؛ حتى يتلقّى الأمر تلقّيًا واعيًا.
وذكر الله سبحانه
وتعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بصفة الزوجِيَّة؛ ليُفِيد أن هذا التخيير
كان للحرائر دون الإماء؛ لأن الأمَة لا يُطْلَق عليها زوجة، فهي مِلْكُ يمين. وإضافتهن إلى الضمير الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه تشريف وتكريم لهن
رضوان الله عليهن.
ولم يخاطبهن الله ـ بهذا التخيير مباشرة بأن
وجَّه النداء إليهن؛ لأن الله عز وجل يُريد أن يكون لهنَّ حريةُ الاختيار وكمالُ
الإرادة دون الضَّغط عليهن، ولو جاء الخطاب منه عز وجل إليهن مباشرة لكان فيه ما
يُحَبِّب إليهنَّ اختيار الله ورسوله.
وقوله: (تُرِدْنَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) على حذف
مضاف، والتقدير: (إن كنتن تردن متاع الحياة الدنيا)، ويُقَدَّر هذا المضاف بحيث
يكون صالحًا للعموم، إذ لا دليل على إرادة شأن خاص من شؤون الدنيا. ووَصْفُ الحياة
هنا بالدُّنيا يعطينا إحساسًا بسقوط هذه الحياة وضعفها ورذالتها.
وقوله: (فَتَعَالَيْنَ) فعل أمر مبنى على السكون، ونون النسوة فاعل، وأصل
استعمال الفعل (تعال) أن يقوله مَنْ في المكان المرتفع، لِمَنْ في المكان غير
المرتفع يدعوه إليه، فيكون الآمر أعلى من المأمور فيدعوه أن يرفع نفسه إليه، ثم
كثر استعماله حتى استوى في استعماله الأمكنة فصار معناه (أقبل)، وليس المراد هنا حقيقته
وهو الإقبال والمجيء، وإنما هو كناية عن كمال الاختيار وحرية الإرادة في الإقبال
على الله عز وجل. ويُوحي أيضًا هذا الفعل بالترفُّع عن هذه الحياة – حياة اللهو
والترف – لرذالتها.
وقوله: (أُمَتِّعْكُنَّ) بالجزم جوابًا للأمر؛ أي: أُعْطِيكُنَّ مُتْعة الطلاق، وهو مالٌ يُعْطَيه
الزوج لِمُطَلَّقته تنتفع به مدَّة عدَّتها.
قوله: (وَأُسَرِّحْكُنَّ)، أي: أُطَلِّقكن، وأصل
التسريح إرسال الشيء، يقال: (سرَّح الماشية)، أي: أرسلها لترعى السرح - وهو: شجر
له ثمر، الواحدة: سرحة- ثم جعل التسريح لكل إرسال في الرعي. واستخدام لفظ التسريح
في معنى الطلاق في الآية مستعار من تسريح الإبل بمعنى أنها محبوسة لدى صاحبها، وفي ذلك مشابهة بعلاقة الرجل بزوجه، فالزوجة أشبه بالأسير المحبوس في حمى الزوج، فإذا وقع الطلاق حلَّ وثاقها وأرسلها، فيترتب على كل منها
- أي: التسريح في الطلاق والتسريح للإبل- الإرسال والذهاب.
وسمَّى القرآن الكريم الطلاق هنا (تسريح)؛ للإشارة بِمَا يجب على المسلمين
من حُسن المعاملة وجمال الكيفية التي يوقِّعون بها الطلاق إذا اقتضته الضرورة ولا
بديل له؛ لأن التسريح في الأصل: الإرسال للمرعى، ففيه إيحاء للأزواج العازمين على
الطلاق أن يُحسنوا معاملة زوجاتهم، ولا يُسيئوا إليهن كما يُحسن الراعي معاملة ما
يرعاه، ولم يكتف القرآن الكريم بالدلالة اللغوية للفظ (تسريح) حتى اشترط أن يكون: (تسريح
بإحسان)، وذلك في قوله: (سَرَاحًا جَمِيلًا)، أي: طلاقًا حسنًا من غير ضِرَارٍ.
وقُدِّم التمتيع على التسريح -وكان الظاهر تأخير التمتيع عن التسريح فهو مسبب
عنه فالتسريح - أي: الطلاق-
يقع أولا ثم يأتي بعده التمتيع-؛ لأنه مناسب أول التخييرين وهو متاع الحياة الدنيا،
وإيناسٌ لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقَطْعٌ لمعاذيرهن من أوَّل الأمر، وفي
هذا التقديم إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم غير مُلْتفت إلى الدنيا
ولذَّاتها غاية الالتفات، وفي وصف السراح بالجميل إشارة إلى ذلك أيضًا.
وجاء الفعلين بصيغة المضارع؛ للدلالة على تجدد الحدث استيفاءً للدلالة بما تستوجبه.
وبين قوله: (وَأُسَرِّحْكُنَّ) وقوله: (سَرَاحًا) جناس الاشتقاق، وهو أن يجمع
بين اللفظين الاشتقاق، أي: أن يكون اللفظان مشتقين من أصل واحد، فهما هنا من مادة
لغوية واحدة وهي السين والراء والحاء.
ولم يذكر اللهُ عز وجل في اختيار الدنيا وزينتها وعيدًا فلم يقل (فإن كنتن
تردن الحياة الدنيا وزينتها فإن الله أعدَّ لكن عذابًا عظيمًا)؛ وذلك لشدة
الاحتياط والمحافظة على حرية الاختيار.
وأما الاختيار الثاني فهو قوله: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ)
ذكر الثلاثة؛
لإعلام أزواجه صلى الله عليه وسلم بأن في اختيارهن النبي صلى الله عليه وسلم اختيار
لله ولرسوله وللدار الآخرة، فهذه الثلاثة هي الدين.
وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ
مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) قيل بأنها هي جواب الشرط؛ لاقترانها بالفاء، والماضي هنا بمعنى المضارع
الدال على الاستقبال. وقيل: الجواب محذوف نحو: اثبتن وتفعلن خيرًا وما ذُكِرَ
دليله. وقد جاءت هذه الجملة مؤكدة بـ (إنَّ) واسمية الجملة؛ إظهارًا للاهتمام بهذا
الأجر.
وتنكير (أَجْرًا) للتكثير لا للتعظيم؛ لإفادة الوصف له، والأجر العظيم: هو الكبيرُ في الذَّات، الحسن في الصفات، الباقي في الأوقات.
***