ابتُليت السيدة
عائشة رضي الله عنها في حياتها بابتلاء عظيم، وامتُحنت بامتحان قلَّ مَنْ يصبر
عليه، ولكنها صبرت واحتسبت وفوَّضت أمرها إلى الله سبحانه وتعالى حتى جاءها الفرج
من عنده، حيث رُمِيَت رضي الله عنها في عِرْضِهَا بُهتانًا وكَذِبًا، وكان الْمُدَبِّر
لهذا الأمر وإشاعته رأسُ المنافقين عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول، وتابَعَه على
قوله هذا مَنْ شايعه من المنافقين، وعصبة من المؤمنين غفلوا عن خطورة أمره، وتلقَّفته
ألسنتهم، فآذوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، ولقيت بسببه السيدة عائشة
رضي الله عنها وأهلها والمؤمنون ما لقوا من الابتلاء العظيم، حتى نزلت آيات
براءتها من فوق سبع سماوات في آيات تتلى إلى قيام الساعة، وقصة الإفك ذكرها الإمام البخاري في صحيحه (6/101 - 105) في حديث طويل مروي عن عُرْوَة بن الزُّبير وآخرين.
وقد ورد ذكر
هذا الابتلاء العظيم في القرآن الكريم في آيات من سورة النور في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11].
بدأت الآية
بالجملة الخبرية، وصُدِّرت بالتأكيد في قوله تعالى: (إِنَّ) ليكشف لنا
عن ضخامة الحدث وإزالة التردُّد، والشك الذي يعيشون فيه، وأن هؤلاء الذين خاضوا في
الإفك هم عُصْبَةٌ تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد العميق، والتأكيد في الآية
للاهتمام بمضمون الخبر، فهو يسوق أمرًا يَبْعُدُ مثْلُه في الظنِّ، فإنه
يُسْتَبْعد أن يقع هذا الأمر لأحد من المسلمين، فكيف وقد قيل هذا الأمر في أطهر
الأعراض؟ ولذا كان من المواضع التي يحسُن فيها التأكيد بـ (إنَّ)، كما قال الإمام
عبد القاهر.
وجاء
التعبير عنهم بالموصول (الَّذِينَ) لذمِّهم
بما في حيز الصِّلَة من الفعل القبيح الذين جاءوا به، فهو تحقير للخائضين في
الإفك، وللإشارة بأنهم عُرفوا بهذا الفعل وشُهروا به حتى أصبح صفة ثابتة لهم. وجاء
المسند إليه اسمًا موصولا لجمع الذكور ليُنَاسب التعبير في قوله (عُصْبَةٌ)، وقد أفصحت
كتب الحديث عن بعض أسماء الذين خاضوا في الإفك، وهم: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ
بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، ولم تذكر أسماء بقية العصبة، إلا أن التعبير
في الآية بلفظ (عُصْبَةٌ) يدل على
أنهم كانوا أكثر من ذلك. وآثر النظم الكريم التعبير بجمع الذكور مع وجود امرأة
معهم للتغليب، والسبب في ذلك: أنها لَمَّا قامت بالترويج لهذا الإفك مع الرجال
عُدَّت منهم.
والسبب في
عدم ذكر أسمائهم هو المحافظة على ذات البين، والبُعد عن الْمُقَاتلة بين المسلمين
والْمُنافقين، وانقطاع أسباب ضر المنافقين، وانحسام مكرهم، وهذا كله رحمةً
بالمؤمنين
وقوله
تعالى: (جَاءُوا بِالْإِفْكِ) أي: قصدوه
واهتموا به. وفي إيثار لفظ المجيء إشارة إلى أنهم اختلقوا هذا الإفك، وأظهروه من
عند أنفسهم، ونقلوه إلى السيدة عائشة رضي الله عنها من غير أن يكون له أصل.
ويُعَضِّد ذلك الدلالة اللغوية لمعنى الفعل (جاء) الذي يدل على القصد في الكلام،
والتعدِّي فيه. وسياق الآية يَقْصِدُ هذا المعنى فهم قصدوا هذا الكلام واهتموا
بأبلغ الكذب الذي لا شُبهة للصدق فيه أبدًا، وتعدوا فيه على الآخرين.
والإفك: اسم
يدل على كَذِبٍ لا شُبْهَةَ فيه فهو بُهْتَانٌ يفجأ الناس، وهو أبلغ ما يكون من
الكذب والافتراء، وهو مصدر للفعل أفك -بفتح الهمزة–، وأصل التعبير: (جاءوا بالحديث
الإفك)، أي: الموصوف بالإفك، وعُبِّر بالمصدر للدلالة على أنه هو الأصل، وما عداه
مُتَفَرِّعٌ عنه.
وتظهر هنا
دِقَّة التعبير القرآني في إيثار التعبير بلفظ الإفك مع كثرة الألفاظ الأخرى التي
قد يفهم من معناها المقصود، ولكن لا يبلغ غيرها ما تبلغه من الدلالة على المعنى
البشع الذي تمثِّله حادثة الإفك. ويلحظ تعريفها بالألف واللام باعتبارها أم الكذب
والبهتان.
وشخَّص النظمُ الكريم الإفكَ وجعله ذاتًا يُجَاءُ به من مكان بعيد، على
سبيل التخييل؛ إذ شبَّه خبر الإفك بقدوم الْمُسَافر، ثم حذف المشبه به، وهو الوافد
ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو (جَاءُوا)، وإسناد المجيء إلى (واو) الجماعة، واصطحابهم الإفك قرينة هذه الاستعارة،
والغرض من ذلك المبالغة في شخص الإفك؛ لأنه ليس ذاتًا يُجَاء به حقيقة، بل إن
المنافقين لما جاءوا به من عند أنفسهم، جعله النظم الكريم بمنزلة الوافد من مكان
بعيد.
واللام في
قوله تعالى: (بِالْإِفْكِ) للعهد،
ويجوز أن تكون للجنس، وحملها على الجنس يُفِيد القصر، كأنه لا إفك إلا هو.
وذكر المسند
(عُصْبَةٌ) مُنَكَّرًا
يفيد التكثير، ويفيد أيضًا الإهانة والتحقير لهم ولقولهم.
ووصف العُصْبَة
بقوله: (مِنْكُمْ) يدلُّ على
أنهم من المسلمين، فـ (مِنْ) هنا تُفِيد التبعيض، وهذا يُفِيدُ قُوَّةَ الإفك
وشِدَّة ألمه؛ لأن الإفك عندما يَصْدُر من جماعة المسلمين يكون أكثر إيلامًا بخلاف
ما لو صدر من غيرهم، وفي ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأَذَى
المسلمين.
والخطاب في قوله
تعالى: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا
لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لِمَن ساءَهُ
ذلك من المؤمنين، ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق، وأم
رومان، وعائشة، وصفوان رضي الله عنهم.
وقد جاءت
هذه الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أول الأمر، بحيث وجَّه
اللهُ عز وجل أنَظْارَ
المؤمنين لتغيير نظرتهم للإفك؛ إذ خبأ الله فيه الخير من حيث ظنَّ المسلمون أن فيه
الشر، والمعنى: لا تظنوا أيُّها المؤمنون أن حديث الإفك شرٌّ لكم، بل هو خير لكم؛
لأن الله كشف به قوي الإيمان من ضعيفه، كما فضح به حقيقة المنافقين، وأظهر ما
يضمرونه من سوء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأهل بيته، وللمؤمنين.
والتنكير في
قوله تعالى: (شَرًّا) يُفِيد
العموم، وفي قوله تعالى: (خَيْرٌ) يفيد
التعظيم، ويفيد أيضًا التنويع والكثرة. وبين الخير والشر طباق، أدَّى إلى
تقوية المعنى وتأكيده مع تحليته للفظ.
ثم علَّل
اللهُ عز وجل عقاب
الخائضين في الإفك بقوله تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) ليُدَلِّلَ
على أن الجزاء مُسَبَّبٌ عن خوضهم في حديث الإفك، والتعبير بلفظ (كل) يفيد العموم
والشمول؛ لأن بعضهم تكلَّم، وبعضهم سكت، والساكت كالراضي، وبعضهم أقلَّ من الكلام
في هذا الأمر، وبعضهم أكثر منه.
وأضيف لفظ
(كل) الذي يفيد العموم إلى (امرئ) للدلالة على التفصيل بعد الإجمال.
وقدم النظم
الكريم الخبر وهو الجار والمجرور على المبتدأ وهذا التقديم يفيد القصر، ويفيد
أيضًا التشويق إلى المسند إليه.
وفي قوله
تعالى: (مَا اكْتَسَبَ) حذف
مُضَاف، والتقدير: جزاء ما اكتسب بقَدْرِ ما خاضَ فيه. والتعبير باسم الموصول (ما) أفاد
التفخيم، والتهويل.
وقوله تعالى: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ)، أي: ابتدأ به وأذاعه وأشاعه، وهو زعيم المنافقين عبد الله بن أُبَيِّ ابن
سلول، والتعبير بالفعل (تَوَلَّى) يُشْعِر بالهيمنة التامة على حديث الإفك وترويجه وإشاعته، يقال: (تولى
الشيءَ) لزمه، واستعير التولِّي هنا للابتداء أو للإذاعة والإشاعة حيث شبه هذه
الأمور بالتولي ثم حذف المشبه واستعار لفظ المشبه به، واشتق من الفعل تولَّى على
سبيل الاستعارة التصريحية التبعيَّة.
وقوله
تعالى: (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) هذه الجملة
تُبَيِّن شِدَّة العذاب الذي ينتظر عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول. وتنكير العذاب
أفاد التفخيم والتهويل، فهو تفخيم لذات العذاب، ووصفه بالعِظَم لتفخيمه بالصفة.
وتقديم
المسند (لَهُ) على المسند
إليه (عَذَابٌ عَظِيمٌ) أفاد
القصر، قصر صفة على موصوف، وذلك لتخصيص هذا العذاب الأليم بعبد الله بن أُبَيِّ
ابن سلول لا بغيره، وهو قصر ادعائي؛ لأنه مبني على عدم الاعتداد بعذاب غيره من
باقي العصبة التي خاضت في الإفك، فكان عذابهم بالقياس إلى عذابه كلا عذاب.
والغرض من
هذا القصر هو بيان شدة عذابه وفظاعته؛ لأنه هو من أشعل نار هذه الفتنة، وهو الذي
تولى ترويجها وإشاعتها والمجاهرة بها.
وقد أفرد
النظم الكريم الحديث عن عذاب عبد الله بن أُبَيّ بالتفصيل مع أنه مذكور على سبيل
الإجمال في قوله تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ)؛ ولعل
السبب في ذلك أنه لَمَّا كان هو الذي دبَّر حديث الإفك، وحاك خيوطه، وتحمَّل أكبر
قسط في إذاعته ونشره، ومُعْظَمُ الشرِّ كان منه؛ أفرد الله ذكر عذابه بالتفصيل،
وفيه إنباء بأن عبد الله بن أبي ابن سلول يموت على الكُفْرِ فيُعَذَّب العذاب العظيم
في الآخرة وهو عذاب الدرك الأسفل من النار، وأما بقية العصبة فلهم من الإثم بمقدار
ذنبهم، وفيه إيماء بأن الله يتوب عليهم إن تابوا كما هو الشأن في هذا الدين.
***